في عام 2004م زرت سوريا لأول مرة، حينها انتابني خليط من الدهشة والصدمة؛ فأينما تجولت ببصرك سترى الرئيس الأسد إما معلقا في صورة على حائط أو مجسما في تمثال، وإن أرغمت نفسك على تجاهل ذلك سَيقرع سمعك اسمه أو اسم فرد من عائلته، نعم فكم من مكان في سوريا سُمي بأسمائهم!

لا يمكن لعاقل أن يظن أن ذلك عبث، بل هو ترسيخ لعقيدة سعوا لها عقودا تتمثل في أن سوريا للأسد ونظامه، ولهم وحدهم، لا يتسع لغيرهم.



كل ركن في البلاد يعج بصورهم، وشعاراتهم، وتماثيلهم، حتى إن مبنى الجوازات -وهو بوابة الدخول الأولى للبلاد- بدا وكأنه معرض دعائي للنظام.

وكلما تجولت في سوريا ستدرك جيدا كيف يسعى النظام لنشر ثقافة تقديس الرئيس وترسخيها في قلوب السوريين، فأتباع النظام عامة وعائلة الأسد خاصة كلهم فوق النقد أو العتاب، لا عيوب فيهم ولا أخطاء تصدر منهم، هكذا على السوري أن يؤمن أنهم منزهون معصومون، وإن قدح إيمانه بشك فيهم غيّبته ظلمات السجون. بالنسبة لي كان الوضع صادما مقارنة بتجربتي في الولايات المتحدة، حيث الديمقراطية وتعددية الآراء هي الأساس.

مع انحسار قبضة عائلة الأسد والنظام التابع لها، تلوح فرصة حقيقية لإعادة بناء سوريا، ليس فقط على مستوى البنية التحتية، بل أيضا على مستوى هويتها الوطنية
واليوم مع انحسار قبضة عائلة الأسد والنظام التابع لها، تلوح فرصة حقيقية لإعادة بناء سوريا، ليس فقط على مستوى البنية التحتية، بل أيضا على مستوى هويتها الوطنية.

سوريا خلال حكم الأسد: دولة تخدم العائلة

منذ أن تولى حافظ الأسد السلطة في عام 1970م، تحولت سوريا إلى ما يشبه الملكية المقنّعة، حيث ارتبط كل جانب من جوانب الحياة بآل الأسد، لم تكن سوريا تُدار كدولة لكل أبنائها بل إقطاعية عائلية، المدن والقرى السورية امتلأت بشعارات مثل "للأبد يا حافظ الأسد"، في إشارة إلى حكم مطلق بلا نهاية.

أسماء الشوارع والجامعات والمدارس والمستشفيات عكست هذه العقلية، فمثلا شارع رئيسي في دمشق يحمل اسم "حافظ الأسد"، وهناك في حمص "جامعة البعث"، وهناك "مشفى الأسد الجامعي"، كلها رموز لتأليه النظام. هذه التسميات لم تكن مجرد إشارات عابرة، بل أدوات لترسيخ سيطرة النظام في الوجدان الشعبي، وجعل كل زاوية في البلاد تذكر المواطنين بالسلطة الحاكمة، وأن سوريا لن تكون إلا بها، إما هي وإما خراب يعم البلاد.

التماثيل وصناعة الاستبداد

كانت الصور والتماثيل المنصوبة في كل زاوية أداة دعائية بامتياز، تطل عليك بجمودها بملامح صارمة وكأنها تقول للناظرين "أنت في حضرتي، هذا المكان لي، أنا هنا لأبقى، ولا صوت يعلو إلا صوتي."

من الناحية النفسية، هذه المشاهد اليومية كرّست شعورا بالخضوع والذل فأين ما ذهبت فأنت مراقب، قد يشي بك أحدهم بتهمة العداء للنظام لو لم توقر التمثال فما بالك بصاحبه، كل تمثال كان يذكر المواطن السوري بأن السلطة فوق الجميع، وأن الفرد لا قيمة له أمام الدولة المتمثلة في شخص الأسد، سياسيا، كانت التماثيل تعبيرا عن مركزية السلطة واحتكارها، وتغييبا لأي مظاهر ديمقراطية أو تنوع حزبي.

نحو سوريا جديدة: حرية الاختيار

مع سقوط نظام الأسد وزوال رموزه تبرز الحاجة الملحة لإظهار الهوية السورية التي تعبر حقا عن سوريا العريقة، سوريا العزة مهد العلماء ومنارة الثقافة. ومن أولى خطوات التخلص من آثار تقديس الشخصية التي فرضها النظام: تسمية الأماكن بما يليق بها، هذه وإن كانت نقطة شكلية في التحول إلا أنها تُأمّل بمستقبل جديد واعد أنتظره الشعب عمرا طويلا.

مسميات الأماكن يجب أن تعكس تاريخ سوريا الغني، بما فيه من شخصيات وطنية مختلفة الانتماءات السياسية والثقافية، فشارع باسم "يوسف العظمة" مثلا، وجامعة باسم "أحمد شوقي"، ومشفى باسم "غسان كنفاني" رموز جديدة لوطن يحتفي بالتعددية لا بالاستبداد.

الديمقراطية تبدأ من التفاصيل الصغيرة
تحرير سوريا من آثار آل الأسد ليس فقط ضرورة سياسية، بل أيضا شرط أساسي لاستعادة كرامة الشعب وهويته. قد تحتاج البلاد زمنا لتجاوز إرث عقود من القمع والاستبداد والتنكيل، لكن الإرادة الشعبية تصنع المعجزات
إعادة تسمية الأماكن ليست مجرد عملية تجميلية، بل هي ممارسة ديمقراطية تعكس إرادة الشعب. تخيل أن تُجرى انتخابات محلية لتحديد أسماء الشوارع والميادين العامة، حيث يمكن للسوريين كافة المشاركة والتعبير عن رأيهم، هذه الخطوة الصغيرة في ظاهرها، قد تكون بذرة تحول أكبر نحو ممارسات ديمقراطية أكثر عمقا تشمل السياسة والاقتصاد، مع التذكير بأن سوريا الجديدة لن تُبنى فقط بإزالة التماثيل أو تغيير الأسماء، بل عبر بناء مؤسسات قوية تعتمد على القانون، وتكرّس قيم الحرية والمواطنة، في جو ديمقراطي حقيقي، لا تُرْفَع فيه صور القادة ولا تنصب لهم تماثيل، فالسلطة الحقيقية هي للشعب، وليست لشخص أو عائلة.

من سوريا الأسد إلى سوريا الأبية

إن تحرير سوريا من آثار آل الأسد ليس فقط ضرورة سياسية، بل أيضا شرط أساسي لاستعادة كرامة الشعب وهويته. قد تحتاج البلاد زمنا لتجاوز إرث عقود من القمع والاستبداد والتنكيل، لكن الإرادة الشعبية تصنع المعجزات. سوريا الحرة ستكون وطنا للسوريين كلهم، حيث تُحترم فيه حقوق الجميع، ولا تكمم فيه الأفواه، ويُحتفى بمن يعمل لأجلها لا لأجله، ويصنع حاضرا ومستقبلا يلبق بها وبشعب فك قيده بيده وقطع دابر من ظلمه.

سوريا الجديدة لن تكون بمجرد تغيير في الأسماء، بل في النفوس والعقول، إنها رحلة من الاستبداد إلى الحرية، ومن التماثيل التي تطل بوجوه قاسية إلى فضاءات مفتوحة تعكس أحلام أبنائها بمستقبل أفضل.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا الأسد الديمقراطية سوريا الأسد ديمقراطية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة على مستوى لیس فقط بل أیضا

إقرأ أيضاً:

حاكم دارفور يدعو لتكثيف جهود استعادة الأمن والاستقرار في السودان

دعا حاكم إقليم دارفور إلى تكثيف الدعم المحلي والدولي للجهود الهادفة إلى استعادة الأمن والاستقرار في السودان، مؤكداً أن حماية المدنيين تمثل أولوية قصوى في ظل الأوضاع الراهنة.

واتهم الحاكم قوات الدعم السريع بارتكاب انتهاكات وصفها بالوحشية بحق المدنيين في إقليم دارفور، مشدداً على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف هذه الاعتداءات وضمان سلامة المواطنين وحمايتهم من العنف المستمر.

ولقى مواطن سوداني مدني مصرعه وتعرض آخرون للإصابة جراء هجوم للدعم السريع في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان.

وأشارت مصادر سودانية إلى أن هجمات للجيش السوداني أسفرت عن تدمير ارتكازات ومعدات عسكرية للدعم السريع.

واستهدفت مُسيرات الجيش السوداني تستهدف عدة مواقع للدعم السريع في شمال كردفان.

اقرأ أيضًا.. قاضي قضاة فلسطين: مصر أفشلت مُخطط تهجير شعبنا

الدفاع الروسية: أسقطنا 169 مسيرة أوكرانية وصاروخين من طراز هيمارس زيلينسكي: هجمات روسيا حرمت الآلاف من الكهرباء في أوكرانيا

وأصدرت وزارة الخارجية السودانية، في وقت سابق، بياناً قالت فيه إن مليشيا الدعم السريع ارتكبت أمس مذبحة في مدنية كلوقي جنوب كردفان. 

وأشارت الوزارة إلى أن الهجوم أسفر عن مقتل 79 مدنياً بينهم 43 طفلاً.

وأدان برنامج الأغذية العالمي الهجوم الذي استهدف شاحنة ضمن قافلة إنسانية شمال دارفور بغرب السودان، مطالباً بتحقيق فوري ومحاسبة المسؤولين عن الحادث لضمان حماية المساعدات الإنسانية.

وقالت شبكة أطباء السودان، في وقتٍ سابق، إن الحصار المفروض على مدينتي الدلنج وكادوقلي يعرض حياة آلاف المدنيين للخطر.

وأضافت: "وفاة 23 طفلاً بسبب سوء التغذية الحاد خلال شهر بمدينتي الدلنج وكادوقلي بجنوب كردفان".

وقالت منظمة الهجرة الدولية، في وقتٍ سابق، إن تصاعد القتال في كردفان يُجبر سكانها على النزوح.

وذكرت مصادر سودانية أن هناك مواجهات اندلعت داخل مدينة بابنوسة في غرب كردفان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

وقالت شبكة أطباء السودان إنه تم تسجيل 32 حالة اغتصاب مؤكدة خلال أسبوع لفتيات من مدينة الفاشر وصلن إلى طويلة.

ويأتي ذلك في إطار الكشف عن جرائم الدعم السريع في السودان خلال الفترة الأخيرة.

وأشارت مصادر سودانية إلى أن الجيش السوداني بدأ في بسط سيطرته على بلدة أم دم حاج أحمد بولاية شمال كردفان.

 وذكرت المصادر أن الجيش السوداني يبدأ عملية عسكرية واسعة النطاق.

 وقال عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، إنه لا نهاية للحرب إلا بالقضاء على ميليشيا الدعم السريع.

وأضاف قائلاً: "سنواصل القتال ضد ميليشيا الدعم السريع".

 وأعلن البرهان التعبئة العامة من منطقة السريحة بولاية الجزيرة.

 وطالب مجلس حقوق الإنسان بتحقيق عاجل لتحديد المسؤولين عن الانتهاكات في الفاشر.

 وأصدر مجلس حقوق الإنسان مشروع قانون يهدف إلى إدانة انتهاكات الدعم السريع في الفاشر

مقالات مشابهة

  • عامٌ على سقوط نظام الأسد.. فرصُ وتحدياتُ سوريا الجديدة!!
  • بالفيديو: داتا النظام تعود.. ماذا يجري بين سوريا ولبنان؟
  • بن قرينة يهاجم “الماك” ويؤكد.. التلاحم الوطني كفيل بإفشال ضرب وحدة البلاد
  • بن قرينة يهاجم “الماك” ويؤكد.. التلاحم الوطني كفيل بإفشال المشاريع الرامية إلى ضرب وحدة البلاد
  • حاكم دارفور يدعو لتكثيف جهود استعادة الأمن والاستقرار في السودان
  • تشيلسي يستضيف إيفرتون بحثًا عن استعادة نغمة الانتصارات في الدوري الإنجليزي
  • محددات العلاقة بين إيران والمقاومة: قراءة في خطاب ظريف حول الهوية الوطنية للفصائل
  • باحث قانوني: بعض الموظفين بمكاتب السجل المدني حوّلوا الهوية الوطنية إلى سلعة تباع وتُشترى
  • أوكرانيا تعلن استعادة بلدتين
  • سوريا وفرنسا تطلبان من لبنان اعتقال مدير المخابرات الجوية السابق.. ماذا نعرف عن جميل حسن؟