عبد الله علي إبراهيم

توقف الفكر السياسي السوداني منذ انفصال جنوب السودان في 2011 عن اعتبار التركة الاستعمارية (1898-1956) في تحليل الأزمة السياسية الناشبة بالسودان منذ استقلاله. وكان من دارج القول قبل ذلك أن تسمع من صفوة السياسة والرأي أن "مشكلة الجنوب"، التي اندلعت في 1955 قبل عام من الاستقلال، هي صنيعة إنجليزية استعمارية.

فعَزل الإنجليز جنوب البلاد عن شمالها فيما عرف بـ "سياسة الجنوب" (1930) التي جعلت الجنوب وأطرافاً أخرى متاخمة له "مناطق مقفولة"، يمتنع فيها خلط الشماليين والجنوبيين. وأراد الإنجليز من تلك السياسة أن ينمو الجنوب تحت إشرافهم طبقاً لمساراته الثقافية الأفريقية التقليدية. وزبدة الأمر من منع هذه الخلطة الحد من انتشار الإسلام واللغة العربية من الشمال للجنوب، في حين فتحوا أبواب الجنوب للتبشير المسيحي وتعليم اللغة الإنجليزية. وكان في منظور تلك السياسة اقتطاع الجنوب من السودان وضمه في نهاية المطاف ليوغندا أو كينيا. وانقلب الإنجليز على تلك السياسة في الأربعينيات في ملابسات لن نأتي عليها هنا، إلا أن منها اشتداد الحركة الوطنية السودانية حتى بين صفوة الجنوبيين، وضغط مصر، الشريك في حكم السودان مع الإنجليز، لتوفيق أوضاع السودان على استقلاله والوحدة معها.
وهنا مفارقة. فغالب صفوة الشمال التي أخذت الإنجليز بالشدة لتركتهم الثقيلة التي بذرت الفتنة بين الشمال والجنوب حتى أدت إلى انفصال الأخير في خاتمة الأمر سعيدة في نفس الوقت بتركة الاستعمار في جهتهم من القطر؛ فهم شديدو الحفاوة بالحداثة الاستعمارية التي طرأت على بلادهم من إدارة وتعليم ومنشآت اقتصادية، ولسان حالهم يقول ما كان سيكون حالنا لو لم "يفتح" الإنجليز السودان ليقضوا على دولة المهدية، الدراويش. ولمّا تضعضعت تلك الحصائل الحداثية تحت الحكم الوطني كسبت التركة الاستعمارية قيمة مضافة شابت النظر إليها نوستالجيا صريحة لا لأيامها فينا، بل لعودة من كان السبب في قيامها أول مرة. وهم الإنجليز أو "أبَّانْ عيوناً خُدُرْ" الذي هو اسم دلع الإنجليز في خطاب هذه النوستالجيا.
ونوستالجيا صفوتنا للماضي الاستعماري ككل نوستالجيا حالة تشوف لماض لم يحدث، أو أنه حدث بصورة لا تُطابق ما جعل منه ذلك المُتشوِّف. فتسمع مثلاً أن التعليم في العهد الاستعماري كان مجاناً في حين كتب الزعيم إسماعيل الأزهري، القائد البارز في الحركة الوطنية ورافع علم الاستقلال، أنه كاد لا يلتحق بالمدرسة الأميرية الوسطى بمدينة أم درمان بسبب المصاريف لولا تداركته رحمة منه.
سيكون من المثير أن يعرف المرء كيف ساغ لصفوة السودان الحفاوة بالتركة الاستعمارية في الشمال، بينما كرهتها في الجنوب. وسنعرض في المقال لعقائد لهذه الصفوة عن التركة الاستعمارية ساقتهم لا إلى تصالح مرموق معها فحسب، بل إلى تشوق لأيامها وامتنان بفضلها عليهم أيضاً.
وفي قاع هذه العقائد قناعة تقية من أن السودانيين كانوا استثناء في منظومة الاستعمار البريطاني، جعل استعمارهم قريباً من كأن لم يكن. والعقيدةُ الصفويةُ الأولى في استثناء السودان من الاستعمار، زعمُ الصفوة أننا كنا في ولاية الخارجية البريطانية لا ولاية وزارة المستعمرات البريطانية. وبالطبع لم نكن الاستثناء الوحيد في الإمبراطورية البريطانية في ولاية غير وزارة المستعمرات، شأن المستعمرة البريطانية، ناهيك عن ضعف الحجة لذلك الاستثناء نفسه. فلم تكن الهند تُدار لا من قبل وزارة المستعمرات البريطانية ولا من وزارة الخارجية، بل من إدارة خاصة بالهند قام عليها حاكم احتل مقعداً في مجلس الوزراء البريطاني. والسبب في هذا أن الهند كانت أقدم مستعمرات بريطانيا: بل وتاجها.
وسبب ولاية وزارة الخارجية، لا وزارة المستعمرات، أمرَ السودان بسيط مع ذلك. فكان السودان مستعمرة مصرية قبل الغزو الإنجليزي له في 1898. وجرى غزوه البريطاني بذريعة استعادته من براثن المهدية للخديوية. وكانت مصر نفسها محمية بريطانية منذ 1882 معقود شأنها بوزارة الخارجية البريطانية لا وزارة المستعمرات. وكانت أقوى حجج بريطانيا لاحتلال السودان في وجه منافسيها في الهجمة الأوروبية لاقتسام أفريقيا، أن السودان من أملاك مصر التي هي طرف في حكم "السودان الإنجليزي المصري"، كما جرت العبارة. فتلك كانت الملابسة الدبلوماسية لولاية الخارجية البريطانية علينا لا زيادة ولا نقصان.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: السودان من

إقرأ أيضاً:

حريق جزئي بمركز كونترول “الشهادة السودانية”.. و”التربية” توضح

متابعات- تاق برس- قالت وزارة التربية والتعليم إن الحريق الجزئي الذي اندلع، صباح اليوم الثلاثاء، في جزء من مبنى مركز كونترول امتحانات الشهادة السودان السودانية بمدينة عطبرة لم يؤثر على أوراق إجابة الطلاب الممتحنين من دفعة 2024 المؤجلة.

وأضافت أن أوراق الطلاب في مأمن تام.

 

وأوضح وكيل وزارة الترببة والتعليم، د. أحمد خليفة عمر علي، في تصريح مصور أن الحريق وقع أثناء مخاطبته المعلمين ضمن مرحلة الكنترول (الكود).

وأبان أن مركز الكونترول لم يتضرر وسيواصل أعماله المعتادة.

 

وأشار إلى أن فرق الإطفاء التابعة لشرطة ولاية نهر النيل تمكنت من السيطرة على الحريق بشكل كامل، وطمأن أولياء الأمور أن جهود أبنائهم محفوظة وفي أيدٍ أمينة.

 

من جانبه، شدد مدير عام امتحانات السودان، الأستاذ معتصم علي الشيخ، على سلامة أوراق الامتحانات.

وأوضح أن الحريق شبّ في مساحة مخصصة لمخلفات الطباعة والظروف الفارغة.

وأفاد بأنّ أعمال الكونترول ستُستأنف بعد غد عقب استقرار التيار الكهربائي في غرفة الكونترول.

حريق جزئيعطبرةكونترول امتحانات الشهادة السودانية

مقالات مشابهة

  • شراكة سودانية سعودية في مجال صناعة السكر 
  • الواقع القضائي في سوريا والتحديات التي تواجه عمل العدليات خلال اجتماع في وزارة العدل
  • الخارجية البريطانية: سنعترف بالدولة الفلسطينية سبتمبر المقبل
  • حريق جزئي بمركز كونترول “الشهادة السودانية”.. و”التربية” توضح
  • العطاء يتدفق.. دولة عربية تهدي السودان 25 طناً من أدوية مكافحة الكوليرا
  • زيارات وداعية لسفراء السودان ومصر والسويد إلى وزير الخارجية
  • السفير أنس الطيب الجيلاني يلتقي مستشار الرئيس الأذربيجاني للشئون الخارجية
  • كامل إدريس يضع خطة عاجلة للتعامل مع تحديات السودان الخارجية
  • تصريحات منسوبة لوزير الخارجية الأميركي تشعل الجدل بالسودان.. فما حقيقتها؟
  • وزارة الخارجية تدين ما ذهبت إليه مليشيا الدعم السريع الإرهابية بإعلان حكومة وهمية