عبادة الشخصية في الأنظمة العربية: سوريا نموذجاً
تاريخ النشر: 9th, January 2025 GMT
إلى حد هذا اليوم لم يقدم نظام عربي واحد نموذجا منفتحا على شعبه للمشاركة السياسية في إدارة الحكم والمؤسسات، والسماح بالتعددية الحزبية والقبول بمعارضتها، والفصل الفعلي بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وضمان صحافة حرة تحفظ حق حرية الرأي والتعبير، بل في مجملها اعتمدت على الشخصنة في رأس النظام، والعمل بمنهجية في ترسيخ عبادة شخصية الحاكم «الملهم»، «الفذ»، «القائد»، حتى لو كان مستواه الدراسي شهادة ثانوية، أو أقل من ذلك، ووصل إلى رأس السلطة عن طريق انقلاب عسكري.
وقد أثبتت كل هذه الأنظمة فشلها الذريع في بناء الدولة والمجتمع، لأن الدولة كانت تتمركز بشخص الحاكم، والحاكم فقط، أو بعبارة أخرى كما يقال: الدولة أنا، وأنا الدولة، «فمن أنتم؟» هذا النمط من الحكم من مظاهره صور الحاكم وتماثيله التي تملأ ساحات المدن وزواياها المعتمة والمنيرة، وبروز الجيش كقوة ردع صارمة لكل من تسول له نفسه التعرض للذات الحاكمة، تضاف إليها مؤسسة مخابراتية ترصد أنفاس الناس، وتطلعاتهم، ولو تمكنت لتسللت إلى أحلامهم، والأمثلة الفاقعة في الماضي القريب شوهدت في أكثر من دولة عربية شهدت سقوط أنظمتها، وقتل قادتها «الملهمون»، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم محصنين من السقوط. ولم يتعظوا من أسلافهم ممن شابهوهم (هتلر ألمانيا، موسوليني إيطاليا، ماركوس الفلبين، بينوشيه تشيلي، باتيستا كوبا) ومنهم المثال السوري.
بدايات الشخصنة
لم يمر نظام واحد على سوريا بعد الاستقلال، وصلت فيه عبادة الشخصية إلى حد التأليه، فخلال الفترات القصيرة التي حكمت فيها أنظمة تعتمد على الانتماءات الحزبية وتاريخها النضالي ضد الاستعمار، والوصول إلى السلطة سلميا عبر انتخابات رئاسية، وبرلمانية (حكومات شكري القوتلي، وهاشم الأتاسي، وناظم القدسي)، لم تعتمد سياسة الشخصنة، واستخدام قوة الجيش الفارطة لتثبيت حكمها، وربما كان هذا السبب لعدم استمرارها، وتطوير التجربة الديمقراطية الوليدة بسبب الانقلابات العسكرية عليها (انقلاب حسني الزعيم، وسامي الحناوي، وفوزي سلو، وأديب الشيشكلي، تم اغتيال ثلاثة منهم ونجا فوزي سلو).
وأول ظهور للشخصنة، وعبادة الشخصية بدأ مع مشروع الوحدة المصرية السورية، وتخلي شكري القوتلي عن الحكم في سوريا للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان من شروطه لقبول مشروع الوحدة، أن يتسلم السلطة دون أن ينازعه فيها أحد، وحلّ كل الأحزاب، واعتماد سياسة الحزب الواحد (الاتحاد القومي) ومنع الصحف الخاصة، وإنشاء نظام مخابراتي (برئاسة عبد الحميد السراج). (فاوضه في ذلك مجموعة من الضباط السوريين برئاسة عفيف البزري دون علم الرئيس شكري القوتلي والحكومة الشرعية برئاسة خالد العظم)، فخلال ثلاث سنوات من الوحدة (1958ـ 1961)، كانت شخصية جمال عبد الناصر طاغية في العالم العربي بشكل عام وفي سوريا بشكل خاص.
لكن الجيش السوري الذي تم تهميش ضباطه، وحزب البعث «القومي» الذي أجبره عبد الناصر على حل نفسه، ووجد المشروع القومي لعبد الناصر منافسا له وطاغيا عليه، عمل حزب البعث المتغلغل في الجيش على إنهاء تجربة الوحدة بانقلاب عسكري (عبد الكريم النحلاوي، حيدر الكزبري) وعادت سوريا إلى حكم الأحزاب الذي لم يدم طويلا (حكومة ناظم القدسي 1961ـ 1963)، فقام الجيش مرة أخرى بانقلاب عسكري، وبرز حزب البعث كمخطط ومنفذ لهذا الانقلاب (في مواجهة للشرعية الدستورية، «بالثورية» (الانقلابية) والتي أعطت لنفسها صفة «ثورة 8 آذار»)، الذي كان من منفذيه ما سمي باللجنة العسكرية المؤلفة من الضباط (حافظ الأسد، محمد عمران، صلاح جديد، محمد المير، عبد الكريم الجندي).
تعميق الشخصنة
يعتبر انقلاب 8 آذار، أول النفق الطويل المظلم لتاريخ سوريا الحديث، بدأ في فرض الأحكام العرفية وقانون الطوارئ، ففي الفترة ما بين 1963 و1970، تمت عملية تطويف الجيش السوري، وعمليات التصفية في الصراع على السلطة، فالتف العلويون على الضابطين حافظ الأسد ومحمد عمران (بعد تصفية محمد عمران، وتحييد الآخرين)، والضباط السنة حول الرئيس أمين الحافظ، وانتهت المواجهة بانقلاب 1966 الذي قاده سليم حاطوم، وترأسه صلاح جديد تحت مسمى حركة 23 شباط، وتم طرد مؤسسي حزب البعث القومي (ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار الذي تم اغتياله في باريس)، وسجن أمين الحافظ قبل أن يهرب إلى العراق. ولم يتبق في الميدان سوى صلاح جديد، وحافظ الأسد، الأول يسيطر على الحزب والثاني يسيطر على الجيش بعد أن تولى منصب وزير الدفاع، وانتهى الصراع بين الاثنين، خاصة بعد هزيمة حرب 67 والبلاغ رقم 66 الذي أصدره الأسد للجيش السوري بالانسحاب الطوعي من الجولان، بحجة أن القنيطرة تم احتلالها من قبل إسرائيل (ولم يكن صحيحا) ما أثار صدمة كبيرة للشعب السوري، (ولا تزال نتائج ما سمي بالنكسة تعاني منها سوريا حتى اليوم، فقد ضمت إسرائيل جزءا من الجولان وهي تتوسع فيه حاليا). ولم تتم مساءلة الأسد، أو محاكمته، بل قام هو بآخر انقلاب في سوريا تحت مسمى «الحركة التصحيحية»، وأمر بسجن رفيقه صلاح جديد (الذي توفي بعد قضاء 28 سنة في السجن).
الأسد إلى الأبد
منذ 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 ولغاية 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 هي الفترة التي سيطرت فيها عائلة الأسد على الحكم في سوريا. وهي أسوأ حقبة تمر على السوريين، وسوريا في تاريخها.
فمع حافظ الأسد بدأ عهد عبادة الشخصية بأبشع صورها، وقد استمد شرعية حكمه من استفتاءات شعبية ملفقة، وبرلمان معين، ودعم حزب البعث «القائد»، وجبهة وطنية تقدمية من مجموعة أحزاب من صنعه تسبح بحمده، وتدور في فلكه، واتحادات عمالية ومهنية تبصم بالولاء له، وتنقية الجيش من الضباط القدامى المشكوك في ولائهم، وتعزيزه بضباط جدد جلهم من الطائفة العلوية، وترسيخ الطائفية والمذهبية، واستحداث 14 جهاز مخابرات تحصي أنفاس السوريين، وبناء السجون، ومنها سجن صيدنايا الرهيب «المسلخ البشري»، وتدجين الجيل الجديد بخطاب البعث عبر منظمة «طلائع البعث»، و»شبيبة الثورة»، والسيطرة التامة على وسائل الإعلام، واعتماد عبارة (سوريا الأسد) في الخطاب السياسي والإعلامي السوري، وإطلاق اسم الأسد على كل المرافق، والبنى التحتية والثقافية، نشر صوره في كل مكان، مع تماثيل في كل ساحات المدن السورية.
وهذه جميعها تدفع باتجاه عبادة الشخصية، وتخطتها بالنسبة لحالة الأسد، إلى حالة مرضية وصلت إلى حد التأليه، وكل من يواجه النظام فمصيره القتل، أو التعذيب، أو ارتكاب المجازر، كما حصل في سجن تدمر، ومدينة حماة، ثم تم تحويل سوريا إلى جمهورية وراثية من الأب المؤسس حافظ الذي حكمها ثلاثة عقود، إلى الوريث بشار الذي حكمها عقدين ونيف بعقلية لا تختلف عن مورثه، بل أسوأ بكثير، فالشعار المعتمد في عهده.
وبعد انطلاق الثورة كان «الأسد أو نحرق البلد»، وهذا ما حصل بعد أن جلب كل الميليشيات الأجنبية، والقوات الروسية لإنقاذ نظامه، ففتك بالشعب حتى بالسلاح الكيماوي، وشرد نصف الشعب السوري، وأودى بسوريا إلى ما هي عليه من تدمير عمراني، واجتماعي، وثقافي، واقتصادي، يحتاج لسنين طويلة لإعادة سوريا إلى ما كانت عليه قبل نصف قرن ونيف، ولكن كغيرة من الطغاة لم يتعظ إلى أن واجه سقوطه بفرار من شعبه إلى موسكو، وشاهد بأم عينيه كيف سقطت تماثيل أبيه، ومزقت صوره وداستها الأقدام، وهي تحتفل في 8 ديسمبر بيوم النصر.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا الثورة سوريا الثورة سقوط الاسد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حافظ الأسد عبد الناصر حزب البعث سوریا إلى صلاح جدید فی سوریا
إقرأ أيضاً:
غارديان: دونالد ترامب يسعى إلى تغيير الأنظمة في أوروبا
يرى الكاتب الصحفي جوناثان فريدلاند أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب لم تعد مجرد شريك متردد لأوروبا، بل تحولت إلى طرف معادٍ يسعى صراحة إلى التأثير في مستقبلها السياسي.
وقال الكاتب -في عموده بصحيفة غارديان- إن الأمر وصل إلى العمل على تغيير الأنظمة داخل القارة، استنادا إلى ما ورد في إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة التي تقول إن "تنامي نفوذ الأحزاب الأوروبية الوطنية" مدعاة لتفاؤل كبير، وإن الولايات المتحدة ستفعل ما بوسعها لمساعدة أوروبا على "تصحيح مسارها الحالي".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2واشنطن بوست: "الدعم السريع" تحتجز آلاف الرهائن وتقتل مَن لا يدفع فديةlist 2 of 2نيوزويك: 3 مؤشرات على حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وفنزويلاend of listوقد وجهت إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة انتقادات حادة إلى أوروبا، واعتبرتها مهددة بالاندثار الحضاري بسبب الهجرة وتراجع المواليد وما تصفه بقمع حرية التعبير.
وأكد الكاتب أن هذا الخطاب الذي يعكس رؤية ثقافية وعنصرية ترى أن أوروبا تفقد هويتها البيضاء والمسيحية لا يقتصر على لغة أيديولوجية أو مزايدات إعلامية، بل يمثل خطة سياسية واضحة تعلن واشنطن بموجبها نيتها دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة واليمين المتشدد في دول أوروبية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، والعمل على إضعاف الاتحاد الأوروبي.
ويربط فريدلاند هذا التوجه بالمصالح الروسية، معتبرا أن تقويض الاتحاد الأوروبي هدف إستراتيجي قديم بالنسبة لموسكو، وهو ما يفسر الترحيب الروسي بالسياسة الأميركية الجديدة، في تقاطع غير مسبوق بين موقفي واشنطن والكرملين.
لحظة مفصليةويتناول المقال أسباب العداء الأميركي للاتحاد الأوروبي، مرجحا أن جزءا منه يعود إلى قدرة الاتحاد على فرض قيود وتنظيمات تحد من نفوذ شركات أميركية وشخصيات نافذة مثل إيلون ماسك، إضافة إلى رغبة ترامب في التعامل مع دول أوروبية متفرقة يسهل الضغط عليها بدل تكتل قوي موحد.
إعلانوبغض النظر عن الدوافع يؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة باتت ترى الاتحاد الأوروبي خصما لا حليفا، وهو واقع لم يعد قابلا للإنكار، وبالفعل حاول المدافعون عن ترامب القول إن الإدارة لا تعادي أوروبا بحد ذاتها، بل الاتحاد الأوروبي تحديدا.
أوروبا تواجه لحظة مفصلية تتطلب شجاعة سياسية للاعتراف بأن التحالف الأطلسي يمر بأزمة عميقة، وأن الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة لم يعد مضمونا
وعلى الصعيد الأمني، ينتقد فريدلاند الموقف الأميركي من الحرب في أوكرانيا، معتبرا أن واشنطن تمارس ضغوطا على كييف للقبول بشروط تصب في مصلحة روسيا، في وقت يتجاهل فيه قادة أوروبيون -بمن فيهم الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته– حقيقة أن أقوى دولة في الحلف باتت أقرب إلى موسكو منها إلى حلفائها التقليديين.
من جهة أخرى، يسلط الكاتب الضوء على التناقض في الموقف البريطاني، حيث يعلن رئيس الوزراء كير ستارمر دعمه لأوكرانيا، لكنه يواصل إعطاء الأولوية للعلاقة مع واشنطن على حساب التعاون الأوروبي، سواء في ملفات الدفاع أو التجارة.
ويخلص المقال إلى أن أوروبا تواجه لحظة مفصلية تتطلب شجاعة سياسية للاعتراف بأن التحالف الأطلسي يمر بأزمة عميقة، وأن الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة لم يعد مضمونا.
وفي ظل هذا الواقع، يدعو الكاتب القادة الأوروبيين إلى مواجهة الحقيقة وبناء موقف أوروبي أكثر استقلالية وتماسكا بدل التمسك بعلاقات لم تعد متبادلة ولا قائمة على الثقة القديمة.