لسبب واحد.. الوساطة بين روسيا وأوكرانيا تحدٍ هائل للسعودية
تاريخ النشر: 19th, August 2023 GMT
يرى الباحث براسانتا كومار برادان أن السعودية حققت، خلال الاجتماع الدولي في جدة قبل نحو أسبوعين، "بداية جيدة" للتشاور بشأن سبل إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن جهود الوساطة في هذا الملف تمثل "مهمة هائلة" للمملكة؛ لأن النزاع خارج جوارها العربي/ الإسلامي، وبالتالي فإن "قوتها الناعمة غير فعالة".
تلك القراءة قدمها الباحث براسانتا كومار برادان في تحليل بمعهد "مانوهار باريكار للدراسات والتحليلات الدفاعية" في نيودلهي (MP-IDSA) ترجمه "الخليج الجديد"، لافتا إلى أن "نهج السعودية تجاه هذه الحرب يتميز بالالتزام بالحياد وجهود الوساطة وتقديم المساعدة الإنسانية للاجئين الأوكرانيين".
وتبرر روسيا حربها المستمرة منذ 24 فبراير/ شباط 2022 في جارتها أوكرانيا بأن خطط الأخيرة للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بقيادة الولايات المتحدة، تهدد الأمن القومي الروسية.
وأردف: "في حين أن تركيز الرياض السياسي والأمني الأساسي ظل تقليديا داخل العالم العربي والإسلامي، فقد أظهرت اهتماما عميقا بتطورات تلك الحرب. ويؤكد الموقف السعودي من الحرب على مبادرات السياسة الخارجية الديناميكية والتطلعية للمملكة، والتي دافع عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان".
ولفت إلى أنه "في 5 و6 أغسطس/ آب الجاري، استضافت مدينة جدية السعودية اجتماعا لممثلي الأمن القومي من أكثر من 40 دولة إلى جانب ممثلي الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي، واتفق المجتمعون على مواصلة المشاورات وتبادل الآراء لإيجاد طريقة لإعادة السلام بين روسيا وأوكرانيا".
واعتبر أنه "من المفارقات أن روسيا لم تُدعَ إلى الاجتماع. ووصفته أوكرانيا بأنه "مشاورات مثمرة"، فيما قالت روسيا إنه "بدون مراعاة مصالحها، لن يكون لأي اجتماعات بشأن الأزمة الأوكرانية أدنى قيمة مضافة".
وزاد برادان بأنه "منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، التزمت السعودية بموقف الحياد بينما كانت تدعو باستمرار إلى حل سلمي عبر المفاوضات الدبلوماسية. وبمرور الوقت، تطور هذا الحياد إلى مشاركة دبلوماسية أكثر نشاطا، حيث تسعى المملكة جاهدة للتوسط بين روسيا وأوكرانيا".
اقرأ أيضاً
وساطة السلام بحرب أوكرانيا.. هكذا عزز بن سلمان المكانة الدولية للسعودية
تحركات سعودية
و"على الرغم من العلاقات العميقة مع روسيا، صوّتت السعودية لصالح قرارات الأمم المتحدة الداعية إلى وقف النزاع وانسحاب القوات الروسية ووقف ضم الأراضي الأوكرانية. وقد حافظت المملكة على علاقة جيدة مع روسيا وأوكرانيا، مما يجعلها تعتقد أنها في وضع فريد كوسيط محايد وذو مصداقية في الأزمة"، بحسب برادان.
وتابع: "في الوقت الذي تنادي فيه بوقف الحرب، قدمت المملكة مساعدات إنسانية للاجئين الأوكرانيين، وفي فبراير/ شباط الماضي، زار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أوكرانيا والتقى بالرئيس فولوديمير زيلينسكي، ووقَّع البلدان اتفاقيات بقيمة 400 مليون دولار هي 300 مليون دولار كمشتقات نفطية لأوكرانيا وتقديم مساعدات إنسانية بـ100 مليون دولار عبر مركز الملك سلمان للإغاثة والمساعدات الإنسانية".
وزاد بأن "وزير الخارجية السعودي أعرب عن استعداد بلاده للتوسط في الصراع والمساعدة في حله. وخلال أقل من أسبوعين، زار بن فرحان موسكو أيضا والتقى بنظيره سيرجي لافروف، وجدد استعداد السعودية للتوسط من أجل إنهاء الحرب".
برادان قال إنه "منذ إنشاء (التحالف النفطي) "أوبك +" في عام 2016، تعمق التعاون السعودي الروسي في قطاع الطاقة بشكل كبير. وبالنسبة للولايات المتحدة، كان تعاونهما في "أوبك +" وتأثيره على سوق النفط العالمي مصدر قلق كبير".
وأردف أنه "في الوقت الذي فرضت فيه الولايات المتحدة والدول الأوروبية حظرا على استيراد النفط الروسي (بسبب الحرب في أوكرانيا)، ساعدت سياسات "أوبك+" الاقتصاد الروسي خلال الحرب، كما ساعدت السعودية في الحفاظ على هيمنتها في سوق النفط والحفاظ على اقتصادها في حالة جيدة".
اقرأ أيضاً
تحليل: وساطة السعودية والصين بين روسيا وأوكرانيا خطأ استراتيجي
إجماع دولي
وبالتالي، وفقا لبرادان، "لدى السعودية أسباب كثيرة لدعم موقف محايد في الحرب، متجنبة الضغط من الولايات المتحدة. وكانت علاقتها مع أوكرانيا دافئة أيضا مع العلاقات السياسية والاقتصادية الجيدة. ودعت السعودية زيلينسكي للمشاركة في قمة جدة لجامعة الدول العربية في مايو/ أيار الماضي، حيث سعى للحصول على دعم المنظمة ضد العدوان الروسي".
وأضاف أن "الرياض تسعى إلى تعزيز سمعتها كوسيط موثوق به في جوارها وما وراءه. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت الوساطة سمة مهمة للدبلوماسية السعودية".
ولفت إلى أنها "توسطت في النزاعات الإقليمية في المنطقة العربية/ الإسلامية كما هو الحال في لبنان، وبين (حركتي) حماس وفتح في فلسطين، ومؤخرا بين الأطراف المتصارعة في السودان. وغالبا ما تستخدم الرياض قوتها الدينية الناعمة لإثبات مصداقيتها كوسيط، كما تقدم مساعدات مالية لدعم وتهدئة الأطراف المتصارعة".
وتابع أنه "في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، توسطت السعودية والإمارات بين الولايات المتحدة وروسيا للإفراج عن بريتني جرينير، وهي رياضية أمريكية (لاعبة سلة كانت) مسجونة في روسيا، وفيكتور بوت وروسي كان في سجن بالولايات المتحدة".
واستدرك برادان: "لكن النجاح في الوساطة في الحرب الروسية الأوكرانية، المستمرة منذ 18 شهرا، سيكون مهمة هائلة للرياض؛ إذ تدور الحرب في منطقة خارج جوارها العربي/ الإسلامي، حيث قوتها الناعمة غير فعالة، فعلى الرغم من الحفاظ على علاقات جيدة مع موسكو وكييف، إلا أن روافع الرياض السياسية والدبلوماسية للتأثير عليهما محدودة".
كما اعتبر أنه "سيكون من الصعب إقناع روسيا بالانسحاب دون اتفاق مقبول. وفي الوضع الحالي، حيث استولت روسيا على أراضٍ أوكرانية، تدعم الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أوكرانيا في الحرب ولا تزال أزمة اللاجئين قائمة، وستظل فعالية وساطة الرياض مقيدة".
و"في اجتماع جدة، حققت الرياض بداية جيدة لجلب أصحاب المصلحة الرئيسيين من جميع أنحاء العالم للتشاور. وتمتلك جهود الوساطة السعودية القدرة على بناء إجماع دولي لإنهاء الحرب، لكن التحدي المعقد يكمن في الترجمة الناجحة لهذا الإجماع إلى إجراءات ملموسة وفعالة على الأرض"، كما ختم برادان.
((3))
المصدر | براسانتا كومار برادان/ معهد مانوهار باريكار- ترجمة وتحرير الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: حرب روسيا أوكرانيا السعودية وساطة بین روسیا وأوکرانیا الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
الذهب والنفط والسلع الزراعية: كيف خسر السودان 40 مليار دولار في عقد واحد؟
عمر سيد أحمد
في بلدٍ أنهكته الحرب والانقسام وغياب مؤسسات الدولة، يطفو سؤال جوهري على السطح: كيف لاقتصاد يمتلك ذهبًا وفيرًا وموارد نفطية معتبرة وقطاعًا زراعيًا ضخمًا أن ينحدر إلى واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم؟ وكيف يمكن لثروات طبيعية تُعدّ من بين الأكبر في إفريقيا أن تختفي دون أثر يُذكر في المالية العامة، بينما يعيش المواطن تحت وطأة التضخم وانهيار العملة وشحّ الدولار؟
تكشف تقارير دولية حديثة أن القصة ليست مجرد فساد إداري أو سوء سياسة اقتصادية، بل هي نتاج منظومة مالية موازية تبتلع موارد الدولة وتخرجها عبر قنوات غير مشروعة، قبل أن تتحول – مع الحرب – إلى اقتصاد حرب يمول القتال ويزيد من تفكك الدولة. ووفقًا لتقرير Global Financial Integrity (GFI) الصادر عام 2020، فقد السودان نحو 5.7 مليارات دولار بين 2012 و2018 نتيجة التلاعب في الفواتير التجارية وحدها. لكن هذا الرقم، على ضخامته، لا يمثل إلا بداية القصة.
تقرير أحدث، نشره Sudan Transparency and Policy Tracker (STPT) في أغسطس 2024، يذهب أبعد من ذلك بكثير؛ فهو يكشف أن السودان خسر ما يقارب 28.9 مليار دولار من الذهب، و4.1 مليارات دولار من النفط خلال العقد الماضي، قبل أن تتفاقم الخسائر بعد حرب 2023، لتصل التقديرات الكلية إلى ما بين 38 و40 مليار دولار حتى عام 2024. هذه الأرقام لا تحكي قصة سوء إدارة مالية فحسب، بل تحكي قصة دولة تفقد السيطرة على مواردها الأساسية لصالح اقتصاد ظل يتغذى على ضعف مؤسساتها.
الفجوات التجارية: الشرارة الأولى للنزيف
قبل أن يصبح الذهب والنفط في قلب اقتصاد الحرب، كانت التجارة الخارجية هي المدخل الأول لفهم النزيف. ففي تقرير GFI، جرى تحليل فجوات التجارة السودانية من خلال مقارنة بيانات الجمارك السودانية ببيانات الدول الشريكة في التجارة، ليتضح أن هناك تفاوتًا كبيرًا بين ما يعلن رسميًا وما يسجَّل في دفاتر الشركاء التجاريين.
خلال الفترة 2012–2018، قُدِّرت الفجوة بحوالي 5.7 مليارات دولار، وهي نتيجة لعدة ممارسات؛ أبرزها تضخيم فواتير الواردات بغرض إخراج المزيد من النقد الأجنبي، وتخفيض فواتير الصادرات لتقليل العائدات المعلنة، إضافة إلى تهريب حصائل الصادر عبر قنوات مصرفية موازية.
هذا النمط لم يكن مجرد فساد هنا أو هناك، بل كان يعكس بنية اقتصادية مزدوجة: دولة رسمية ضعيفة، واقتصاد موازي قوي، يتغذى على تعدد أسعار الصرف، وضعف الرقابة الجمركية، وتغوّل الشركات المرتبطة بالأجهزة الأمنية في النشاط التجاري. ومع الوقت، تحوّل هذا الاقتصاد الموازي من هامش إلى مركز، ثم وجد في الذهب فرصة تاريخية لتوسّع غير مسبوق.
الذهب: من أمل الإنقاذ إلى وقود الحرب
بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 وفقدان الخرطوم لثلاثة أرباع عائداتها النفطية، اتجهت الأنظار إلى الذهب باعتباره المنقذ الجديد للاقتصاد. إذ تشير التقديرات إلى أن السودان أنتج نحو 962 طنًا من الذهب بين 2011 و2022. غير أن المفارقة الصادمة هي أن ما دخل في السجلات الرسمية لم يتجاوز 352 طنًا فقط.
الفارق، وهو أكثر من 610 أطنان، يعادل في قيمته نحو 28.9 مليار دولار وفق متوسط الأسعار العالمية خلال تلك الفترة. هذا ليس مجرد تهريب عابر، بل هو استنزاف منظم لواحد من أهم الموارد السيادية في البلاد، يتم عبر شبكات تمتد من مواقع التعدين الأهلي وشركات الامتياز، إلى تجار حدود وسماسرة إقليميين، وصولًا إلى أسواق الذهب في دبي وغيرها.
الأخطر أن جزءًا كبيرًا من هذا الذهب لا يمر عبر النظام المصرفي، بل يُباع نقدًا أو عبر حسابات خارجية، بما يحرم الدولة من العملة الصعبة ومن القدرة على رسم سياسة نقدية مستندة إلى موارد حقيقية. ومع ضعف الرقابة، وتعدد الجهات النافذة، تحوّل الذهب إلى اقتصاد داخل الاقتصاد، له قواعده وشبكاته ومصالحه الخاصة.
ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، انتقلت قصة الذهب إلى مستوى جديد تمامًا؛ إذ أصبح الممول الأول للحرب. فمناطق التعدين في دارفور وكردفان وجبل عامر وقعت بدرجة كبيرة تحت سيطرة قوات الدعم السريع، بينما بقيت مناطق الإنتاج في الشمال، وبعض معامل التكرير، أقرب إلى سيطرة الجيش. هكذا انقسم الذهب بين طرفين متحاربين، في ظل غياب شبه كامل لدور الدولة المركزية.
النتيجة ظهرت سريعًا في الأرقام: بين أبريل وأغسطس 2023، لم يسجّل السودان سوى تصدير رسمي قدره 2 طن فقط من الذهب، مقابل 18 طنًا للفترة نفسها من عام 2022. هذا يعني اختفاء 16 طنًا في غضون أربعة أشهر، تعادل قيمتها نحو 960 مليون دولار. وتشير تقديرات STPT إلى أن السودان يفقد، منذ اندلاع الحرب، ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار سنويًا من الذهب، معظمها يصبّ في تمويل الحرب أو يغذّي شبكات التهريب الإقليمية.
النفط: موارد تتسرب بين الأنابيب والدفاتر الموازية
النفط، رغم تراجعه بعد الانفصال، ظل جزءًا مهمًا من معادلة الموارد السودانية، خاصة عبر رسوم عبور نفط جنوب السودان. لكن هذا القطاع بدوره لم يكن بمنأى عن التلاعب والفجوات.
تقرير GFI يشير إلى أن السودان أعلن تصدير 62.3 مليون برميل نفط خلال 2012–2018، بينما سجّلت الدول المستوردة استلام 112.2 مليون برميل. الفارق، البالغ نحو 49.9 مليون برميل، يعادل خسائر مقدّرة بنحو 4.1 مليارات دولار. هذه الفجوة تكشف، مثل الذهب، عن وجود قنوات بيع خارج الدفاتر الرسمية، وأسعار غير معلنة، وعقود غير خاضعة للشفافية.
بعد اندلاع الحرب، أصبح النفط عنوانًا آخر لتقسيم الاقتصاد بين أطراف الصراع. الجيش يحتفظ بالسيطرة على خط أنابيب النفط الخام القادم من جنوب السودان، وعلى ميناء التصدير في بورتسودان، وعلى الشركة الوطنية المشرفة شكلًا على القطاع. في المقابل، سيطرت قوات الدعم السريع، لفترات حاسمة، على أجزاء من مصفاة الجيلي وعلى شبكات توزيع الوقود في العاصمة ومناطق أخرى.
في ظل هذا الوضع، لا تعود الأرقام الرسمية كافية لمعرفة أين تذهب عائدات رسوم العبور، ولا كيف يتم تسعير الوقود المستورد، ولا كم من الإيرادات يضيع عبر الرسوم الموازية والتهريب عبر الحدود. تقديرات STPT تشير إلى أن الفاقد الحالي من النفط والوقود ورسوم العبور الموازية يتراوح بين 1 و1.5 مليار دولار سنويًا، وهو رقم يُضاف إلى الخسائر التاريخية السابقة.
الصادرات الزراعية والحيوانية: الثقب الأسود المنسي
إذا كانت قصة الذهب والنفط قد حظيت ببعض الاهتمام الإعلامي والدولي، فإن قطاع الصادرات الزراعية والحيوانية يمثل الثقب الأسود الأقل تناولًا، رغم أنه مصدر فاقد كبير للاقتصاد السوداني.
فالسودان يُعد من أكبر منتجي السمسم في العالم، لكن جزءًا كبيرًا من هذه السلعة الاستراتيجية يُهرَّب عبر الحدود أو يُباع عبر وسطاء بسعر أقل من الأسعار العالمية، ما يفقد البلاد مئات الملايين من الدولارات سنويًا. تقديرات خبراء القطاع تشير إلى أن الفاقد من تجارة السمسم وحدها قد يراوح بين 700 و900 مليون دولار سنويًا، نتيجة التهريب والتسعير المتدني وفوضى القنوات التسويقية.
الأمر ذاته ينسحب على الثروة الحيوانية؛ إذ يُصدَّر عدد كبير من المواشي عبر موانئ خارج السيطرة الكاملة للدولة، أو عبر حدود مفتوحة مع دول الجوار، ما يحرم الخزينة العامة من رسوم الصادر والعبور. تقديرات غير رسمية تضع هذا الفاقد بين 500 و700 مليون دولار سنويًا.
ويأتي الصمغ العربي في مقدمة السلع التي تتعرض لظلم تسعيري وخسائر غير منظورة؛ فالسودان يسيطر على النسبة الأكبر من الإنتاج العالمي، لكنه لا يحصل إلا على جزء محدود من القيمة المضافة، بسبب بيع جزء من الصادرات عبر وسطاء، وبأسعار أقل من إمكاناتها الحقيقية، ما يفقد البلاد ما لا يقل عن 250–300 مليون دولار سنويًا.
وعندما نضيف إلى ذلك صادرات الفول السوداني والقطن طويل التيلة والحبوب الزيتية والكركدي، والتي كثيرًا ما تُباع بآليات مزدوجة تجمع بين السعر الرسمي والسعر الموازي، يصبح من الراجح أن يبلغ مجموع الخسائر في قطاع الصادرات الزراعية والحيوانية ما بين 2 و3 مليارات دولار سنويًا، في بلد يفترض أن يشكّل فيه هذا القطاع ركيزة الاستقرار الاقتصادي لا مصدرًا إضافيًا للنزيف.
اقتصاد الحرب: عندما يصبح النزيف شرطًا لاستمرار الصراع
ما تكشفه هذه الصورة الكلية هو أن السودان لم يعد يعيش حالة «فساد في ظل دولة»، بل حالة دولة في ظل اقتصاد موازٍ. فموارد البلاد الأساسية – الذهب، النفط، المحاصيل النقدية، والثروة الحيوانية – تتحرك اليوم في فضاء تتحكم فيه أطراف متعدّدة، بعضها مسلح وبعضها اقتصادي، بعيدًا عن الموازنة العامة وعن سلطة البنك المركزي ووزارتي المالية والتجارة.
بهذه الطريقة، يتحول الاقتصاد إلى أداة في خدمة الحرب، لا مشروعًا للتنمية أو إعادة الإعمار. فلكل طرف من أطراف الصراع مصادر تمويل ذاتية: الدعم السريع يعتمد بدرجة كبيرة على ذهب الغرب ومناطق التعدين، والجيش يعتمد على رسوم عبور النفط وعلى ذهب الشمال، وشبكات تجارية محلية وإقليمية تستفيد من تهريب السلع الزراعية والحيوانية. وفي الخلفية، تقف صناعة كاملة من الوسطاء والمضاربين وتجار الحدود وشركات الظل.
في مثل هذا السياق، تصبح الحرب أقل اعتمادًا على الموازنة العامة، وأكثر ارتباطًا باقتصاد ظل قادر على تمويل استمرارها. هذا ما يجعل إنهاء الحرب، من منظور اقتصادي، أكثر تعقيدًا؛ فإيقاف القتال لا يعني بالضرورة إيقاف تدفق الأموال التي تغذيه، ما لم يُمسّ جوهر اقتصاد الظل ذاته.
40 مليار دولار… وأكثر: حجم النزيف الكامل
إذا جمعنا الخسائر التاريخية والمستمرة التي تشير إليها التقارير المختلفة، تتضح لنا لوحة مقلقة:
28.9 مليار دولار فاقد تاريخي في الذهب؛ 4.1 مليارات دولار فاقد تاريخي في النفط؛ ما بين 3 و5 مليارات دولار سنويًا فاقد ذهب مستمر بعد الحرب؛ ما بين 1 و1.5 مليار دولار سنويًا فاقد نفط ووقود ورسوم موازية؛ ما بين 2 و3 مليارات دولار سنويًا فاقد في الصادرات الزراعية والحيوانية.ومن زاوية محافظة، يمكن القول إن السودان خسر ما بين 38 و40 مليار دولار حتى 2024، مع احتمال تجاوز الرقم 50 مليارًا إذا أُخذت في الاعتبار كل قنوات التهريب غير الموثّقة. هذا الرقم لا يمثل مجرد فاقد مالي، بل يمثل فقدانًا لفرصة تاريخية كان يمكن أن تغيّر وجه الاقتصاد لو استُثمرت هذه الموارد في البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والزراعة، والتصنيع.
خاتمة: السودان لا يفتقر إلى الموارد… بل إلى الدولة
في ضوء هذه الصورة، يبدو واضحًا أن مشكلة السودان ليست في غياب الموارد، بل في غياب الدولة القادرة على حمايتها وإدارتها. فبلد يملك هذا الحجم من الذهب والأراضي الزراعية والثروة الحيوانية والموقع الجغرافي، لا يمكن أن يُختزل إلى أزمة «نقص في الإمكانيات»، بل إلى أزمة في نظام الحكم والحوكمة.
إن وقف هذا النزيف لا يتطلب فقط وقف الحرب، رغم أن ذلك شرطٌ لا غنى عنه، بل يتطلب أيضًا تفكيك اقتصاد الحرب وإعادة بناء مؤسسات الدولة المالية والرقابية من الصفر تقريبًا: توحيد سعر الصرف، رقمنة الجمارك، إنشاء بورصة وطنية للذهب، ضبط تصدير المحاصيل، إخضاع رسوم عبور نفط الجنوب للشفافية الكاملة، وتمكين البنك المركزي ووزارة المالية من استعادة السيطرة على التدفقات النقدية.
السودان لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى دولة. ودون استعادة هذه الدولة لدورها السيادي على موارده، سيظل الذهب والنفط والسلع الزراعية تعمل لصالح اقتصاد ظل يعمّق الحرب، بدلًا من أن تكون ركيزة لسلام مستدام وتنمية حقيقية.
???? المصادر المعتمدة (مختارة ومحدودة)
Global Financial Integrity (GFI). Sudan and Trade Integrity: Assessing Illicit Financial Flows 2012–2018. Washington, DC: GFI, 2020. Sudan Transparency and Policy Tracker (STPT). On the Road to War: The Role of Illicit Financial Flows in Sudan. August 2024. OECD. Due Diligence Guidance for Responsible Mineral Supply Chains in Conflict-Affected Areas. Paris: OECD Publishing, 2020. UNCTAD. Illicit Financial Flows in the Extractive Sector in Africa. Geneva: United Nations, 2021. International Monetary Fund. Sudan: Selected Issues Report. IMF Country Report No. 20/61, 2020.الوسومعمر سيد احمد