يقدِّم جناح الأزهر الشريف بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الـ 56 لزوَّاره كتاب "أخلاقنا"، بقلم الأستاذ الدكتور محمد ربيع محمد جوهري، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، من إصدارات مجمع البحوث الإسلامية.

البحوث الإسلامية يطلق مبادرة (معًا لمواجهة الإلحاد) لتحصين المجتمع والرد على الشبهات البحوث الإسلامية يطلق حملة توعوية بعنوان «علمًا نافعًا»

يذكر مؤلف الكتاب -في مقدمة كتابه- أنَّه قد كتب هذا الكتاب وهو متأثر -وما زال- بأحوال أمتنا الإسلاميَّة، وما وصلت إليه من ضعف أخلاقي، لافتًا إلى إيمانه بأن علاج هذا الضعف إنما هو في أهم جوانبه بـ: (أخلاقنا) نحن المؤمنين، وكيف لا، وقد أمضى نبينا الذي وصفه ربه تعالى بقوله: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ" [القلم : ٤] أمضى من عمر الرسالة عشر سنين يربي المسلمين على: (العقيدة) وعلى (الأخلاق) في مكة، فسادوا الدنيا، ونشروا هذه الأخلاق عمليا في فتوحاتهم لنشر الإسلام، وتحرير المستضعفين المستذلين في دولتي الفرس والروم، فأعجب بأخلاقهم أهل هذه الشعوب، فدخلوا في دين الله أفواجًا؛ فساد العدل والسلام.

ويتساءل ربيع جوهري: كيف انتشر الإسلام في جنوب شرق آسيا، وكيف انتشر في أماكن عدة من إفريقيا، فهذه البقاع لم يذهب إليها جيوش إسلامية، لتفتحها، وتنشر فيها هذا الدين؟ كيف انتشر الإسلام وأضاء وأنجب هؤلاء الأبطال الأفذاذ؟ ليجيب بالقول: لقد انتشر الإسلام فيها عن طريق: "أخلاقنا" كما كان يعيشها أسلافنا، وكانت "أخلاقنا" هي العلاج لكل المفاسد التي كانت تملأ هذه البلاد آنذاك، تمامًا كما أنَّ أخلاقنا هي العلاج لكل هذه المفاسد التي تظهر في واقعنا.

ويلفت المؤلف أنه قد قضى فترة من حياته في دراسة وتدريس: «الأخلاق الفلسفية» فاطلع على عددٍ من كتبها، وعرف بعضًا من أعلامها، وأعجب حينًا بنظرياتها، ووفق أحيانًا لكشف زيفها، فلاحظ عليها أمورًا من ضمنها:

1. أن القضايا الأخلاقيَّة التي يبحثها فلاسفة الأخلاق، لم تنقص ولم تتغير خلال التاريخ، فالمسائل التي كان يبحثها فلاسفة اليونان الأخلاقيون هي نفسها المسائل التي يبحثها فلاسفة الأخلاق المعاصرون فلا تقدم.
2. أنَّها أفكار نظرية ذهنية، مجال وجودها عقل صاحبها وفكره، فهذا حظُّها من الوجود، وليس لها من الواقع نصيب يذكر.
3. كل فيلسوف يحكم على نفسه بالحق والصواب، ويحكم على غيره بالجهل والحمق، والخطأ والغباء، بل قد يصل الأمر إلى الشتم والسباب.
4. كتب الفلسفة الأخلاقيَّة مؤلفات لخاصة البشر، الذين تمكنهم ثقافتهم من فهم أساليبها، وتساعدهم أذهانهم في درك نظرياتها، فما أكثر ما يصعب المعنى، وما أكثر ما يغمض المراد!
5. لم يتفق فلاسفة الأخلاق -حتى الآن- على "مقياس أخلاقي" يَزِنون به الأخلاق، فليس هناك سبيل إلى "اليقين الأخلاقي".
6. الجفاف والتركيز على جانب العقل، وإهمال جانب الروح والعاطفة، والوجدان، وهذا الجانب الأخير قد يكون أكثر تأثيرًا في سلوك الإنسان.

هذه الأسباب الستة وغيرها، دفعت المؤلف للجد في البحث في مجال الأخلاق، ليجد ما يقنع عقله، ويرضي قلبه، فتوجه إلى المصادر التي يدين بصحتها، وهي ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وهذه السنة التي لا ينطق صاحبها عن الهوى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأخذ يقرأ القرآن الكريم، ويجمع آياته الأخلاقية، ويطالع السنة المطهرة، يجتني من ثمارها الخلقية، ويقطف من أزهارها السلوكية فتجمع له من ذلك هذا الكتاب: "أخلاقنا". وشتَّان بين هذا المنهج، ونهج الأخلاق الفلسفية!

وقد قسم المؤلف كتابه إلى قسمين رئيسين؛ القِسم الأَوَّل: في الشَّقِّ النَّظَرِي، تعرض فيه لبيان أن الإسلام منبع أخلاقنا، وعرج على الأخلاق الفلسفية مبينًا قصورها عن تقديم المنهج الصحيح للأخلاق، ثم تحدث عن خصائص الأخلاق الإسلامية. أما القسم الثاني فقد خصصه للشق العملي، وذكر فيه جملة من الأخلاق الإسلامية؛ فتكلَّم عن الرحمة، والحياء، والعفة، والصدق والأمانة، والعدل، والحلم، والصبر، وهو في كل أولئك يعرضها من خلال تناول القرآن الكريم، ومثالها التطبيقي من أخلاق النبي ﷺ.

وينقسم الكتاب إلى بابين، الباب الأول "في الأبحاث النظرية" ويضم خمسة فصول؛ الأول: "الإسلام منبع أخلاقنا"، ويشتمل على المباحث التالية: عجز الأخلاق الفلسفية عن تقديم المنهج الصحيح للأخلاق، مذهب القائلين بالعرف السائد في المجتمع، مذهب القائلين بالضمير الإنساني، مذهب السعادة والمنفعة، مذهب القائلين بالعقل البشري. الفصل الثاني "خصائص أخلاقنا"، ويشتمل على المباحث التالية: السنن الكونية والسنن الأخلاقية، نماذج للقوانين الأخلاقية العامة والخاصة، العلاقة بين السنن المادية والسنن الأخلاقية، مميزات أخلاق الإسلام. ويناقش الفصل الثالث ارتباط الأخلاق بالعقيدة والعبادات، ويشتمل على المباحث التالية: ارتباط الأخلاق بالعقيدة الإسلامية، ارتباط الأخلاق بالعادات الشرعية. بينما يلقي الفصل الرابع الضوء على الخلق والتخلق، فاشتمل على المباحث التالية: تعريف الخلق، الخلق فطري ومكتسب، مراحل تكوين الخلق، الخلق والسلوك والعلاقة بينهما، بناء الخلق: الوسيلة الأولى: الوعظ والنَّصيحة، الوسيلة الثانية: تعود الخلق الفاضل، الوسيلة الثالثة: صداقة الأخيار، الوسيلة الرابعة: الثواب أو العقاب، الوسيلة الخامسة الأسوة والقدوة، صيانة الأخلاق الفاضلة. ويأتي الفصل الخامس والأخير من الباب الأول تحت عنوان "حماية أخلاقنا"، واشتمل على المبحثين التاليين: حق ولي الأمر في سن عقوبات على المخالفات الأخلاقية، هذه التشريعات لا تعارض الحرية الشخصية.

أما الباب الثاني من الكتاب فجاء تحت عنوان "في الدروس العملية"، ويضم 7 فصول، الأول: "دروس الرحمة"، ويشتمل على المباحث التالية: معنى الرحمة، الرحمة في القرآن الكريم، رحمة النبي صلوات الله وسلامه عليه، المسلمون وخلق الرحمة، الرحمة بذوي الأرحام، الرحمة بالأطفال، الرحمة بالحيوان. الفصل الثاني: "دروس الحياء والعفة"، ويشتمل على المباحث التَّالية: معنى الحياء والعفة، الحياء والعفة في القرآن الكريم، أحكام النظر، حياء النبي وعفته، حث النبي على الحياء والعفة، من صور الحياء والعفة، تشريعات أخلاقية لتأصيل الحياء والعفة، ليس من الحياء. ويناقش الفصل الثالث درس الصدق، ويشتمل على المباحث التالية: معنى الصدق، الصدق في القرآن الكريم، صدقه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الترغيب في الصدق، الصدق وتربية الأطفال، الصدق والمزاح، الصدق والمدح، أنواع الصدق المحمود، أنواع الصدق المذموم، من نتائج الصدق، الكذب السائغ. ويلقي الفصل الرابع الضوء على درس الأمانة، ويشتمل على المباحث التالية: معنى الأمانة، الأمانة في القرآن الكريم، أمانته عليه الصَّلاة والسلام، من صور الأمانة. ويتناول الفصل الخامس "درس العدل"، ويشتمل على المباحث التالية: معنى العدل، العدل في القرآن الكريم، العدل في السنة المطهرة، من مجالات العدل. ويذهب بنا الفصل السادس نحو درس الحلم ويشتمل على المباحث التالية: معنى الحلم، الحلم في القرآن الكريم، حلمه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حثه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ على الحلم، مظاهر الغضب وخطورته، علاج الغضب. ويأتي الفصل السابع والأخير حول درس الصبر ويشتمل على المباحث التالية: معنى الصبر، الصبر في القرآن الكريم، صبره عَلَيْهِ الصَّلاة والسلام، تعليمه الصحابة الصبر، أقسام الصبر، الشكوى والصبر.

ويشارك الأزهر الشريف -للعام التاسع على التوالي- بجناحٍ خاص في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56 وذلك انطلاقًا من مسؤولية الأزهر التعليمية والدعوية في نشر الفكر الإسلامي الوسطي المستنير الذي تبناه طيلة أكثر من ألف عام.

ويقع جناح الأزهر بالمعرض في قاعة التراث رقم "4"، ويمتد على مساحة نحو ألف متر، تشمل عدة أركان، مثل قاعة الندوات، وركن للفتوى، وركن الخط العربي، فضلًا عن ركن للأطفال والمخطوطات.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: جناح الأزهر الأزهر معرض الكتاب جناح الأزهر الشريف أخلاقنا فی القرآن الکریم

إقرأ أيضاً:

العقل والروح.. طه عبد الرحمن وسؤال الأخلاق في مشروع النهضة (2)

"إذا لم يكن الفكر متخلِّقًا، فهو آلة في يد المستبدّ" ـ  طه عبد الرحمن

في تسعينيات القرن الماضي، كنت طالبًا شغوفًا بين مدرجات جامعتي القاضي عياض بمراكش ومحمد الخامس بالرباط، أتنقّل بين النصوص الأدبية والمباحث اللغوية، وأصغي بلهفة إلى أساتذة كانوا بدورهم منخرطين في النقاش العربي الكبير حول شروط النهضة ومعناها. في ذلك الزمن، كانت الساحة الفكرية المغربية تعيش لحظة نادرة من التوتر الخلّاق: محمد عابد الجابري كان في ذروة اشتغاله على نقد العقل العربي، واضعًا تحت مشرط التحليل بنية هذا العقل كما تجلت في التراث، بينما كان طه عبد الرحمن ـ بهدوئه وفرادته ـ ينحت معالم مشروع موازٍ، يؤمن بأن لا نهضة بدون تزكية روحية وأخلاقية للعقل.

وقد سمح لي وجودي داخل الجامعة لا فقط بمتابعة هذا الجدل من موقع القارئ المهتم، بل بالانخراط المباشر فيه، من خلال النقاشات الفكرية داخل قاعات الدرس، وبين الزملاء، وفي هوامش الكتب التي كنا نقرؤها بشغف. كنت، ككثيرين من جيلي، مأخوذًا بدهشة الاكتشاف: بين الجابري الذي يزيل الغبار عن طبقات العقل العربي، وطه الذي يذكّرنا بأن هذا العقل لا يكتمل بدون قلبٍ ينبض بالقيم. وبين الإثنين، كانت الأسئلة تتكاثر، وتتعمق: هل مشكلتنا مع العقل أم مع الروح؟ مع التراث أم مع الحداثة؟ مع المعرفة أم مع الأخلاق؟ وكنت أشعر ـ في لحظات كثيرة ـ أن الجواب لا يكمن في أحدهما دون الآخر، بل في المسافة الخصبة التي تفصل بين رؤيتيهما.

واليوم، بعد مرور ما يكفي من الزمن، أعود إلى تلك المرحلة لا باعتبارها مجرد ذكرى طلابية، بل بوصفها لحظة تأسيس، شكّلت وعيي الفكري ووجهت اهتمامي إلى سؤال النهضة لا كمطلب سياسي أو ثقافي فحسب، بل كسؤال وجودي عميق: كيف نفكر؟ وبأي روح؟ ومن أين نبدأ ترميم هذا الإنسان العربي الذي أنهكته الأنساق وأعياه الفراغ القيمي؟

من نقد العقل إلى تزكية الفكر

بعد أن مررنا مع الجابري في نفق التفكيك النقدي لبنية العقل العربي، نصل الآن إلى ضفة أخرى من المشروع النهضوي، أكثر روحانية وأخلاقية، يمثلها المفكر المغربي طه عبد الرحمن.

في مقاربته، لا تكمن الأزمة في غياب العقل النقدي فحسب، بل في تفريغ العقل من بُعده القيمي. فالعقل الذي يُفكر دون تزكية، وينتج دون ضمير، يظل ـ في رأيه ـ عقلًا ناقصًا، قابلًا للاستلاب، بل وربما للعدمية.

يرى طه عبد الرحمن أن معظم مشاريع النهضة العربية ارتكزت على استيراد نماذج عقلانية غربية دون مساءلة "الأساس الأخلاقي" الذي يفترضه أي مشروع فكري. ولذلك فهو يدعو إلى ما يسميه "فلسفة الائتمان"، حيث لا يكون العقل منفصلاً عن الأخلاق، بل يكون مؤتمَنًا على المعنى، ومسؤولًا أمام الله والمجتمع، لا مجرد أداة لإنتاج المعرفة أو تبرير السلطة.

بين الجابري وطه.. العقل في ميزان القيم

بعكس الجابري، الذي مارس نقدًا عقلانيًا لبنية التراث، يذهب طه إلى ما هو أعمق:الجابري يفتش في الأنظمة المعرفية، وطه عبد الرحمن يفتش في النية، في المقصد، وفي البعد الروحي والأخلاقي للعقل.

في نقده للحداثة الغربية، لا يرفض طه أدواتها، بل يرفض فلسفتها النفعية وميلها إلى فصل الإنسان عن مصدر المعنى. فالحداثة كما يراها، جردت الإنسان من الروح، وحوّلت العقل إلى أداة حسابية مفرغة من أي التزام أخلاقي.طه لا يطرح بديلاً متزمتًا عن العقلانية، بل يقدم ما يسميه "العقل المؤيد"، وهو عقل لا يكتفي بالبرهان المنطقي، بل يستنير بالبصيرة، ويتغذى من قيم روحية تجعل من التفكير فعلًا أخلاقيًا مسؤولًا، لا مجرد تمرين ذهني أو تنظير محايد.

نقد الحداثة الغربية.. أزمة في المعنى

في نقده للحداثة الغربية، لا يرفض طه أدواتها، بل يرفض فلسفتها النفعية وميلها إلى فصل الإنسان عن مصدر المعنى. فالحداثة كما يراها، جردت الإنسان من الروح، وحوّلت العقل إلى أداة حسابية مفرغة من أي التزام أخلاقي. بينما في الفلسفة الإسلامية كما يتصورها، هناك وحدة عضوية بين الفكر والعمل، بين العقل والقلب، بين الحقيقة والقيمة.ولهذا، فإن مشروعه لا يسعى إلى تحديث سطحي، بل إلى نهضة جوهرية تُعيد تأسيس الحداثة على قاعدة أخلاقية وروحية متجذرة في الذات.

العلاقة مع التراث.. التجديد من الداخل

طه عبد الرحمن لا يُقدّس التراث، لكنه يرى أن كل تجديد لا ينبع من داخل المنظومة القيمية للأمة يبقى غريبًا، وعاجزًا عن التجذر أو الإقناع.

يدعو إلى:إعادة فهم المفاهيم الإسلامية الكبرى (مثل الحرية، العقل، الحكم، المسؤولية) من جذورها الفلسفية واللغوية الأصيلة. ورفض القطيعة مع التراث دون الوقوع في أسره.إنه يميز بوضوح بين "التقليد الأعمى" و"الاجتهاد الأصيل"، معتبرًا أن الاستنارة الحقيقية تأتي من تفعيل العقل في ضوء الأخلاق، لا من تقليد أنساق معرفية جاهزة.

نقد المشاريع الحداثية العربية

مارس طه عبد الرحمن نقدًا حادًا لبعض أعلام الفكر العربي المعاصر ـ وعلى رأسهم الجابري ـ معتبرًا أن كثيرًا من هذه المشاريع تعامل مع الدين كمعطى معرفي محض، وأفرغه من روحه التزكوية.وهنا تتجلى نقاط قوته: يرفض عقلنة الدين كما فعل بعض الحداثيين.ويرفض تديين السياسة دون تأسيس أخلاقي وروحي عميق.

طه لا يقبل بعقل منفصل عن الإيمان، ولا بإيمان بلا مسؤولية عقلية. إنه يقدم منظورًا توحيديًا يرى الإنسان كائنًا روحيًا وعقليًا معًا، ويعيد للفكر العربي بعده الوجودي الذي افتقده طويلًا.

هل يمكن تأسيس عقل أخلاقي؟

في زمن الأزمات السياسية والاقتصادية، قد تبدو دعوة طه عبد الرحمن أقرب إلى "ترف نظري" في أعين البعض. لكن الحقيقة أن أزمة الإنسان العربي اليوم لا تكمن فقط في بنى الحكم أو الاقتصاد أو المؤسسات، بل في بنية الضمير.

يرى طه عبد الرحمن أن معظم مشاريع النهضة العربية ارتكزت على استيراد نماذج عقلانية غربية دون مساءلة "الأساس الأخلاقي" الذي يفترضه أي مشروع فكري. ولذلك فهو يدعو إلى ما يسميه "فلسفة الائتمان"، حيث لا يكون العقل منفصلاً عن الأخلاق، بل يكون مؤتمَنًا على المعنى، ومسؤولًا أمام الله والمجتمع، لا مجرد أداة لإنتاج المعرفة أو تبرير السلطة.ولعل أعظم ما يقدمه مشروع طه هو هذا الوعي العميق بأن النهضة ليست مجرد مسألة تقنية أو إدارية، بل مسألة إنسانية تتطلب إعادة بناء الإنسان في عمقه: عقله وروحه معًا.

طه عبد الرحمن لا يمنحنا أجوبة جاهزة، بل يفتح أمامنا ورشة فكرية شاقة، تتطلب إعادة النظر في مفاهيمنا ومواقفنا وأسئلتنا الكبرى. مشروعه لا يسبح في التجريد، بل يضعنا أمام مرايا صادقة: هل نحن نفكر بعقولنا فقط؟ أم بأخلاقنا أيضًا؟ هل نريد نهضة تقنية؟ أم نهضة إنسانية شاملة؟

وهكذا، من تفكيك العقل عند الجابري، إلى تزكية الفكر عند طه، نكتشف أن الأزمة أعمق مما نظن، وأن التحرر لا يكون فقط من قيود الماضي، بل من فقر المعنى الذي يخنق حاضرنا.

وهكذا، من بين جدل العقل والروح، ومن بين سطور النقد والتزكية، نستعيد وعينا بسؤال النهضة لا بوصفه مشروعًا فكريًا وحسب، بل بوصفه محنة وجودية يعيشها الإنسان العربي في رحلته نحو المعنى. فإذا كان الجابري قد قادنا إلى عمق البنية، وطه عبد الرحمن قد نبهنا إلى نبل المقصد، فإن ما بينهما ليس صراعًا، بل حوار خصب يمكن أن يؤسس لمسار أكثر اكتمالًا.

ومن هناك، من غروب الوطن العربي، حيث انطلقت شرارة هذا التوتر الخلّاق، نمدّ أبصارنا نحو مشرقه، وتحديدًا إلى قطر، حيث يبرز اسم الدكتور نايف بن نهار، مفكرًا شابًا لا يقلّ حيوية ولا طموحًا، يُعيد مساءلة السلطة والمعرفة والدين في آن. في مشروعه، تنبض الأسئلة ذاتها، لكنها تُطرح في سياق مختلف، وعبر أدوات جديدة، تستدعي استكمال هذا المسار الفكري، لا بصفته حنينًا إلى الماضي، بل بحثًا مستمرًا عن الإنسان: عقله، وضميره، وحقه في المعنى.

في المقال المقبل، سنعبر إلى هذا الأفق، حاملين معنا تراث السؤال، ومترقبين كيف يتقاطع العقل والسلطة والدين في خطاب نايف بن نهار، لنواصل ـ بأمل ويقظة ـ هذا البحث العميق عن نهضة لا تبدأ من الأنظمة، بل من الإنسان ذاته.

المراجع:

ـ طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي
ـ طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق
ـ طه عبد الرحمن، روح الحداثة
ـ حوارات ومقالات منشورة
ـ دراسات نقدية حول مشروعه (انظر: رضوان السيد، سعيد شبار، عبد المجيد الصغير)

مقالات مشابهة

  • مفتي الهند يفتتح العام الدراسي لأكاديمية القرآن الكريم
  • الأولى إعدادية أزهرية بالغربية: ربنا كرمني بالتفوق.. وحفظ القرآن سندي بالحياة
  • «محمد» الثاني على الإعدادية الأزهرية بالشرقية: سر تفوقي القرآن الكريم وهدفي التحق بكلية الطب
  • «جني» الأولى على الإعدادية الأزهرية مكفوفين بالشرقية حلمي أكون دكتورة في جامعة الأزهر
  • علي الرواحي.. ستيني ينافس فـي ميدان القرآن الكريم ويحصد جائزة «أكبر متسابق»
  • العقل والروح.. طه عبد الرحمن وسؤال الأخلاق في مشروع النهضة (2)
  • «سلمي وائل».. الأولى على الشرقية بالثانوية الأزهرية: حفظ القرآن سر تفوقي وحلمي الطب
  • وكيل الأزهر يعتمد نتيجة الدور الأول لشهادات القراءات 2025
  • وكيل الأزهر يعتمد نتيجة الدور الأول لشهادات القراءات للعام 2025
  • يوسف فوزي في لقاء نادر: القرآن الكريم سر سعادتي وأتمنى حسن الختام | خاص