النفاق نافذة خطرة لتدمير العلاقات الإنسانية
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
بقلم : اللواء الدكتور سعد معن الموسوي ..
النفاق هو ظاهرة اجتماعية تهدد القيم الإنسانية، ويُعد من أخطر الظواهر التي تفسد العلاقات بين الأفراد وتؤثر في بنية المجتمعات. ليس مجرد سلوك فردي، بل هو انعكاس لخلل عميق في البنية النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمع. على مر التاريخ، تناول العديد من المفكرين هذه الظاهرة، محاولين فهم جذورها وآثارها، بالإضافة إلى وضع استراتيجيات للتعامل معها.
يعتبر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي من أبرز المفكرين الذين تناولوا النفاق في تحليلهم للمجتمعات . ويرى الوردي أن النفاق هو نتيجة طبيعية لازدواجية القيم التي تعيشها هذه المجتمعات، حيث يُجبر الفرد على التوفيق بين التقاليد القديمة ومتطلبات الحداثة. هذا الصراع يولد شعورًا بالضغط يجعل الأفراد يلجؤون إلى إظهار ما لا يبطنون. كما أشار الوردي إلى أن البيئة الاجتماعية والثقافية التي تقوم على المظاهر والتقاليد المتناقضة تشجع على انتشار هذا السلوك.
من منظور علم النفس، يُعرف النفاق على أنه محاولة الإنسان إخفاء نواياه أو مشاعره الحقيقية والتظاهر بعكس ذلك. وأوضح علماء النفس أن ضعف الثقة بالنفس هو أحد الأسباب الرئيسية لهذا السلوك، حيث يلجأ الفرد إلى التظاهر لإخفاء شعوره بالدونية أو نقص الكفاءة. كما أن الحسد والغيرة من نجاح الآخرين قد يدفعان البعض إلى النفاق كوسيلة للتقليل من شأن من حولهم أو لتحقيق مصالح شخصية.
وفي هذا السياق، يرى المفكر المصري الدكتور أحمد زكريا الشنطي أن النفاق قد يكون شعورًا فطريًا، حيث يُحفز الأفراد على التظاهر بغير ما يشعرون به بهدف التقليل من قيمة الآخرين أو إظهار التفوق عليهم. وقد أكد الشنطي أن الشعور بالحسد يعزز من مشاعر الضعف الداخلي ويؤدي إلى سلوكيات غير نزيهة كالنفاق، التي تهدف إلى إخفاء هذه المشاعر وراء قناع من المجاملة أو التوافق الاجتماعي.
من جانب آخر، اعتبر المفكر اللبناني الدكتور عبد الله العروي أن النفاق في المجتمعات العربية ناتج عن صراع بين الغيرة من نجاح الآخر والرغبة في الحفاظ على صورة اجتماعية غير حقيقية. يقول العروي إن المجتمعات التي تُولي أهمية كبيرة للسمعة والمكانة الاجتماعية تشجع الأفراد على إخفاء نواياهم الحقيقية أو مشاعرهم السلبية تجاه الآخرين.
دراسات أخرى تشير إلى أن النفاق ليس دائمًا خيارًا واعيًا، بل قد يكون سلوكًا مكتسبًا نتيجة البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الفرد. فعندما تُربي المجتمعات أفرادها على إظهار الطاعة أو التوافق مع المحيط حتى لو كان ذلك على حساب قناعاتهم، يصبح النفاق أداة للتكيف مع الضغوط الاجتماعية.
تأثير النفاق لا يقتصر فقط على الأفراد، بل يمتد ليشكل خطرًا حقيقيًا على المجتمعات بأسرها. فهو يؤدي إلى زعزعة الثقة بين الأفراد، ما يُضعف العلاقات الإنسانية ويُعطل التعاون البناء. كما أن تفشي هذه الظاهرة يُسهم في تراجع القيم الأخلاقية، حيث تُصبح المظاهر الكاذبة هي الأساس الذي تُبنى عليه العلاقات الاجتماعية والمهنية.
وللتعامل مع هذه الظاهرة، يُجمع الخبراء على أهمية تعزيز ثقافة الصدق والشفافية في المجتمع. تبدأ هذه العملية من التربية الأسرية، حيث يجب تعليم الأطفال التعبير عن آرائهم بحرية دون خوف، مع تشجيعهم على الالتزام بقيم الصدق. في المؤسسات التعليمية، يمكن تعزيز قيم النزاهة من خلال تشجيع التفكير النقدي وتقبل التنوع في الآراء.
أما على المستوى الشخصي، فإن الوعي والذكاء الاجتماعي هما المفتاح للتعامل مع الأشخاص الذين يتصفون بازدواجية السلوك. من المهم ألا ينخرط المرء في صراعات مباشرة معهم، بل أن يُظهر لهم فهمه لحقيقتهم بأسلوب غير مباشر. في الوقت نفسه، يُنصح بتجنب الاعتماد على هؤلاء الأشخاص أو الوثوق بهم، لأن النفاق غالبًا ما يرتبط بالخداع والانتهازية.
إن النفاق ظاهرة اجتماعية معقدة تتطلب فحصًا دقيقًا لفهمها ومعالجتها. من خلال تبني قيم الصدق والوضوح في مختلف جوانب الحياة، يمكن للمجتمعات أن تقلل من انتشار هذه السلوكيات السلبية، وتُحقق بيئة أكثر صحة وثقة، تدعم بناء علاقات إنسانية حقيقية.
اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات التی ت
إقرأ أيضاً:
الإنسان من منظور اجتماعي
منذ قديم الزمن قامت البشرية على مرتكز الإنسان وهو ما يسمى في بعض الاتجاهات العلمية( الوحدة الاجتماعية) وهذه الوحدة تتكامل مع بعضها حتى تشكل البناء الأسري ومن ثما تصل إلى البناء الاجتماعي العام وهو أعلى سقف اجتماعي للمجتمعات ولذلك يرى الكثير من علماء الاجتماع أن البناء الاجتماعي لا يمكن أن يقوم إلا على الإنسان كوحدة اجتماعية صغيرة تعمل على مبدأ التراكمية البشرية وهو ما يطلق عليه في اللفظ العام (اللبنة الأولى ) لبناء أي مجتمع.
وتُعطي الكثير من المجتمعات المتقدمة أهمية كبيرة في العناية والاهتمام بالإنسان وتولى في ذلك جُل جهودها لبناء إنسان متكامل اجتماعياً وناضج من الناحية الفكرية.
وقد اهتم المفكرين وعلماء الاجتماع في هذا الشأن أمثال المفكر ديفيد هيوم الذي يعتبر من المؤسسين للثقافة الغربية وتطرق هيوم إلى أن الإنسان هو المرتكز الأول لبناء المجتمعات وذلك في كتابة الشهير “”مبحث في الفاهمة البشرية”” ولذلك أعطى المفكر هيوم انطلاقه اساسية معاصرة في مرتكز الحياة وهو الإنسان وبالرغم أن العالم العربي عبدالرحمن ابن خلدون قد سبقه بمراحل من الزمن في دراسة الإنسان كعامل أولي في بناء المجتمعات البشرية وهو ما تطرق له في مفهوم العمران البشري في مقدمته الشهيرة حيث عرض ابن خلدون على أن قيام العمران البشري يبدأ من الإنسان .
ومن هذا المنطلق فقد تطور مفهوم المنظور الاجتماعي للإنسان مع تراكمية المعرفة خلال قرون من الزمن حتى وصل إلى تطور كبير في الجانب الاجتماعي وأصبحت التفاصيل الدقيقة للإنسان جزاء مهم في تركيبة الحياة الاجتماعية بعكس سابقاً حيث ينظر إلى الإنسان في جوانب عضوية واخلاقية فقط بعيداً عن الجانب النفسي والاجتماعي والمادي وأصبحت الفلسفة الاجتماعية للإنسان تأخذ نوعاً ذو شمولية أكثر في جميع المجالات بل أن بعض المجتمعات أصبحت جزءً من منظومتها الاجتماعية مفهوم العناية بالإنسان بعد الموت وهو ما يدخل من ضمن الأعمال الخيرية للإنسان.
ومازال الإنسان من منظور اجتماعي يأخذ منحى كبير من الأهمية في أنشاء البرامج الاجتماعية وتطويرها بطريقة احترافية وهي محاولة بشرية للوصول إلى أعلى مستوى من الرعاية الاجتماعية بالإضافة إلى الاستمرار في مشروع الدراسات والابحاث العلمية للعمل على نقل هذا المنظور إلى مستوى أعلى لتحقيق الجودة المرجوة بحيث تواكب متطلبات الإنسان مع مرور الزمن وتسعى لتحقيقها بطريقة حضارية.