د. محمد بن خلفان العاصمي

خلال الأيام الماضية، تلقيتُ دعوة من صديق لدخول أحد المساحات الحوارية التي تناقش الوضع في المنطقة، وبالتحديد في الجارة الجنوبية الجمهورية اليمنية، ومن باب الفضول وتقديرا لهذه الدعوة دخلت مستمعًا للحوار، ومكثت فترة طويلة وأنا أستمع لما يطرح في هذه الساحة من حديث جدلي بين المتحدثين، وقد كان حديثًا متوقعًا؛ حيث هناك من يحاول إثبات وجهة نظره الضد وتسويق ما يعتقده أو بالأدق ما يهدف إلى إيصاله للمستمعين في المساحة من أجندة ممنهجة وتوجهات محددة ألقيت عليه وكلف بها.

مكثت فترة ليست طويلة وأنا أستمع وأخضع ما أسمعه من حديث للمقارنة مع ما أملكه من معلومات من جانب ومع الواقع من جانب آخر، وقد وجدت أن كثيرا مما طرح ولا أبالغ عندما أقول كثيرا ما هو إلا حديث مكرر وأجندة واضحة لمحاولة زج اسم سلطنة عمان في هذا الصراع ولأهداف معروفة ولصالح جهات أيضًا معلومة، واستمر الحديث على هذا النحو فترة طويلة بين شد وجذب وتمسك كل طرف بما يطرحه وكيل متواصل بالاتهامات والإدانات ومحاولات ربط كل طرف الطرف الآخر بمصالح معينة في هذا الصراع الداخلي، وانتهى الحوار في المساحة بعد مدة تزيد عن 6 ساعات من الحوار المتواصل والنقاش الذي أجزم أنه لم يخرج بأي حصيلة سوى شتات أكثر للتابعين.

أذكر عندما بدأت منصة "إكس" إطلاق خدمة المساحات الحورية، كنتُ أدخل في بعض المساحات لأتعرف على الفكر الذي يحمله أصحابها، خاصة تلك التي تتعلق بقضايا جدلية مثل النسوية والإلحاد وما يسمون بالعقلانيين، وكنت أستمع للحوار وأحاول أن أُحلِّل هذه الشخصيات للوصول إلى أسباب تشكُّل هذه التوجهات والميول لديهم، وما الذي رسخ هذه الأفكار عندهم لدرجة جعلتها معتقدات في عقولهم يدافعون عنها بكل شراسة وقوة وتطرف! وفي حقيقة الأمر، كنت أصل إلى نتيجة واحدة وهي الفراغ القِيَمي والديني، وانخفاض الوعي لدى أغلبهم، خاصة فئة الشباب التي تمثل الشريحة الأكبر، وفي علم النفس السلوكي والعقلي إجابات واضحة لهذا السلوك والمعتقدات قد يكون لي حديث حولها لاحقًا بشيء من التفصيل.

إن استغراق الفرد كل هذا الوقت للاستماع إلى مساحة أو المشاركة بالحديث فيها أمر يدعو للتساؤل والاستغراب، خاصة في هذا الوقت الذي ينشغل فيه البشر بأمور حياتية كثيرة تكاد تأخذ جل وقتهم، وقد يكون الحديث في هذه المساحات في بعض الأحيان سطحيًا لدرجة عدم وجود قيمة مضافة من الاستماع لهذا الحوار من الأساس، ورغم ذلك يظل البعض مرابطًا فيه. وإذا استثنينا صاحب المساحة الذي يكون له هدف من الأساس ومكسب مادي، حسبما سمعت من خلال هذه المساحات، يظل الآخرون مجرد أرقام تصعد وتهبط داخل هذا المجتمع الافتراضي، الذي يكاد لا يعرف الواحد منهم الآخر، وقد تتشكل آراء حول بعض الشخصيات من خلال هذه المساحات.

تحاول المساحات الحوارية تنميط الناس في قوالب فكرية لا شعورية، وجذبهم إلى مربع محدد دون شعور منهم، وتسريب أفكار ذات أبعاد معينة في أذهانهم وتشكيل رأي حول قضايا عامة من خلال إثارة جدلية مفتعلة وسيناريوهات متفق عليها، ومن المؤسف أن البعض ينساق إلى هذا الاتجاه لقلة الوعي وضعف البناء المعرفي ونقص الخبرة الحياتية وهشاشة المكون الثقافي لديهم.

ولكل هذه المعطيات أسباب، ولعل أبرزها التعليم وإشكالياته والمجتمع وغياب دوره والأسرة وتقصيرها، وقد تكون هناك مشكلة أعمق بكثير من كل ما ذكر وهو غياب الهوية بشتى أنواعها، وهذه الحالة تستوجب دراستها بشكل دقيق والوقوف عليها لأنها تمثل تهديدا للمجتمع بكل ما تحمله الكلمة من معنى خاصة عند غياب الهدف والمعنى لدى الأجيال وفقدان الهوية أو ذوبانها في معترك الحياة العصرية.

لا شك أن لهذه المساحات تأثيرًا، وإن كان تأثيرها وقتيًا، لكنني ما زلت أجدها فقاعات تمتلئ بالهواء وتكبُر، لكنها في النهاية تنفجر وتختفي، ثم تعاود الكَرَّة مرة بعد مرة، وبكثافة كبيرة وقد يكبر حجمها في مرات لدرجة كبيرة وفي أحيان تختفي لحظة ولادتها. ومثل هذه الحالات لا يمكنها أن تشكل رأيًا عامًا حقيقيًا ولا يمكن أن يعتبر ما يدور داخلها توجهًا وسلوكًا مجتمعيًا، ولكن يمكن أن يمثل إشارات إلى تغييرات في السلوك والمعارف والثقافة المجتمعية، ويمكن قراءتها كمؤشرات للتحولات التي قد تشهدها المجتمعات في لحظة ما لا يجب تجاهلها، وكما قال جوستاف لوبون: "السهولة التي تنتشر فيها بعض الآراء وتصبح عامة تعود بشكل خاص إلى عجز معظم الناس عن تشكيل رأي خاص مستوحى من تجاربهم الشخصية في المحاكمة والتعقل"، وهذا ما يحدث في وسائل التواصل بشكل عام والمساحات بشكل خاص؛ حيث يتم طرح الآراء الفردية والتصورات الخاصة وما تلبث أن تتحول لقضايا عامة نتيجة ضعف المتلقي.

ما زلتُ أتساءل لماذا لا يستطيع كثير من الناس إخضاع ما يتلقونه للمنطق والفحص والتحليل والتقييم؟ ولماذا يستقبل الفرد أغلب ما يصل إليه على أنه حقيقة مُسلَّمة؟ وما المنطق في رغبة الناس أن يقضوا وقتهم في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي والمساحات الحوارية المفتوحة؟

كل هذه التغييرات التي طرأت في السلوك البشري الاجتماعي يجب أن تكون محل بحث ودراسة علمية شاملة، وتقصي مدى تأثيرها على جميع الجوانب خاصة الثقافية والفكرية والسياسية، والخوف الأكبر هو تحول القدوات من العلماء والمفكرين والأدباء والمثقفين إلى أصحاب هذه المساحات ورواد المجتمعات الافتراضية، وهنا يكمُن الخطر عندما يتأدلج المجتمع عن طريق الفقاعات والظواهر الصوتية.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

برنامج "حديث القاهرة" يسلط الضوء على خبر بوابة الوفد حول قضية الأكيلانس وفيديو تلوث المياه

أبرز برنامج "حديث القاهرة"، تقديم الإعلامية كريمة عوض عبر شاشة "القاهرة والناس"، ما نشرته بوابة الوفد بشأن فيديو تلوث المياه المعدنية الذي نشره صناع المحتوى المعروفون باسم "الأكيلانس"، في خبر بعنوان: "إعدام بهذه الحالة.. خبير قانوني يكشف لـ'الوفد' العقوبات القانونية لـ'الأكيلانس'".

وأثار خبر القبض على شباب الأكيلانس، أصحاب الفيديو الذي يظهر تلوث المياه المعدنية بالفضلات البشرية في مصر، حالة جدل واسعة عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث انقسمت الآراء بين التأييد والرفض.

وأشار بعض المتابعين إلى أن هؤلاء الشباب يقدمون فيديوهات توعوية موثقة بالتحاليل، بينما انتقد آخرون ما وصفوه بـ الترويع للمواطنين ونشر الأكاذيب المضللة التي قد تهدد الأمن الصحي.

في هذا السياق، تساءل الكثيرون عن مصير هؤلاء الشباب والعقوبة التي قد تواجههم قانونيًا. ووفق ما أوضح المحامي أيمن محفوظ لـ"بوابة الوفد"، فإن صناع المحتوى قد يواجهون عقوبات صارمة بموجب القوانين المصرية المتعلقة بالأمن الصحي والنشر المضلل، تصل إلى السجن والغرامة، وفقًا لخطورة الفعل والتأثير على المجتمع.

ويستمر النقاش في الرأي العام حول حدود حرية صناعة المحتوى، والموازنة بين التوعية الصحية وحماية المواطنين من المعلومات المضللة، وسط متابعة الأجهزة الأمنية للقضية لضمان احترام القانون وحماية الصحة العامة.

مقالات مشابهة

  • رئيس مدينة سمنود: غرس 75 شجرة مثمرة وزينة ضمن حملات التجميل
  • ذكرى رحيل سامية جمال.. فراشة الشاشة التي صنعت مدرسة خاصة في الرقص والسينما
  • برنامج "حديث القاهرة" يسلط الضوء على خبر بوابة الوفد حول قضية الأكيلانس وفيديو تلوث المياه
  • أمين الفتوى: حديث "لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة" موضوعٌ ولا يصح عن النبي
  • ممشى القصواء.. متنزه حضري حديث يجذب سكان المدينة وزوارها
  • بمناسبة تعيينه حديثًا.. محافظ الطائف يلتقي مدير مرور المحافظة
  • تعرف على شرح حديث.. (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك)
  • حديث خاص بين غوارديولا وهالاند.. ونصيحة قبل "الهدف 100"
  • تعليمات لتوسيع الأراضي الفلاحية المخصصة لزراعة القمح الصلب
  • يديعوت أحرونوت تستدعي تصريحات للسنوار بعد حديث نتنياهو عن حظر القائمة العربية الموحدة