لجريدة عمان:
2025-12-09@19:37:40 GMT

جماليات الحياة اليومية

تاريخ النشر: 11th, February 2025 GMT

عندما نستخدم تعبير «جماليات الحياة اليومية» في سياق التحدث أو الكتابة، فمن المتوقع أن يثير هذا التعبير اعتراضًا رئيسًا ممزوجًا بالاستنكار لدى المتلقي، وهو: كيف نتحدث عن جماليات الحياة اليومية وكثير من الناس من حولنا يعانون البؤس والفقر في حياتهم اليومية، بل قد يعانون من عدوان ودمار وقتل وحشي (كما هو حال شعب فلسطين)؛ ولكن هذا الاعتراض يمكن الرد عليه: فكما أن العالم مليء بأشكال القبح، فإنه مليء أيضًا بصور الجمال وتجلياته، والفن نفسه يصوّر هذا الجمال من حولنا في الطبيعة مثلما يصوّر القبح الذي يتجلى في الشر والألم والمعاناة والبؤس وغير ذلك؛ وهو يمتعنا حتى حينما يصور أشكال القبح: فليس ما يمتعنا هنا هو القبح نفسه، وإنما قدرة وبراعة الفنان في التعبير عن شيء من أنفسنا، أي التعبير عن جانب من وجودنا وعالمنا (وهذا ما يُعرَف «بجماليات القبيح»!).

ومن هنا يمكن أن نفهم أيضًا مكانة الفن ودوره في حياتنا -بل في حياتنا اليومية- من الناحية العملية، فحتى عندما لا يكون الفن أو العمل الإبداعي عمومًا موجَّهًا لخدمة أغراض عملية، فإنه يحقق أهدافًا عملية في حياتنا وإن كان بطريقة غير مباشرة، حينما يكفل لنا المتعة الجمالية والسلوى، ليس فحسب من خلال الترفيه أو الترويح عن النفس، وإنما أيضًا من خلال المتعة العقلية والوجدانية التي تكفلها لنا الأعمال الرفيعة؛ فالواقع أننا نتعرف على أنفسنا وعلى عالمنا بطريقة جمالية، وذلك حينما نتعرف على معاني الحب والكراهية والألم والذات والحرية والتطور التاريخي والاجتماعي، إلخ؛ ونحن من خلال الأعمال الفنية ندخل في صلات أخرى مع عوالم وأشياء غير ذواتنا الشخصية.

وفضلًا عن ذلك، فإن الفن يسهم أيضًا في عملية علاج النفس بمعنى تحقيق حالة من التوازن أو الاتزان النفسي عبر عملية التأمل الجمالي، ذلك التوازن المستمد أصلًا من توازن الطبيعة والكون، ولذلك كله، فإن هناك ضرورة للتعاطي مع الفن في حياتنا المعيشة، وهذا أحد تجليات الجمال في حياتنا اليومية. ولكن من الضروري أيضًا أن نلاحظ أن خبراتنا بالجمال الطبيعي في حياتنا اليومية لا تقتصر على خبراتنا بالفن وقيمته العملية في حياتنا، حقًّا إننا يمكن أن نتعلم من خبرتنا بالفن شيئًا ما عن الكيفية التي يمكن أن ننظر بها إلى الجمال البيئي والطبيعي في عالمنا المعيش، ولكن هذا الجمال الأخير يظل له أيضًا خصوصيته التي يمكن أن نتعلم منها وأن نستلهم إحساساتنا الأولية بالضوء والظل والتكوين والملمس والرائحة، وغير ذلك من الخبرات المتعلقة بجماليات المكان في الطبيعة: كما في التجول أو التنزه بين مشاهد الطبيعة كالغابات والجبال والأنهار، وفي خبرات التخييم والتجديف وركوب البحر وممارسة الصيد على سبيل المثال.

هذا النوع من الجمال له خصوصيته؛ لأن المكان هنا لا يكون مؤطَّرًا بحدودٍ كما في اللوحة، ونحن نعايشه عبر زمن ممتد، ونكون منغمسين فيه، وعندما نتحرك فإننا نتحرك داخله، ونستكشفه على التتابع في نوع من المغامرة. ولكننا لا ينبغي أن نفهم من هذا أن جماليات الحياة اليومية تقتصر على خبرات الجمال الطبيعي، فهذا قصور شائع في فهم الخبرات الجمالية في الحياة اليومية؛ لأن هذه الخبرات تتجاوز عملية الاستمتاع بجماليات الطبيعة إلى الاستمتاع بجماليات المكان في البيئات المشيَّدة أيضًا، وهنا يبرز على الفور دور فن العمارة والتصميم الهندسي للمنشآت، سواء في دُور السكن والعمل والعبادة، أو في الطرق التي تؤدي إليها والبيئة المحيطة بها.

ولا شك في أن الإحساس الجمالي بما تكفله بيئة العمل من الناحية الإنشائية يكون له مردود عملي على الاستمتاع بالعمل نفسه، ومن ثم تجويده. وإذا كانت جماليات العمارة تتجلى على أنحاء شتى في حياتنا اليومية، فإن السمة الأكثر أهمية التي تميز دور المعمار في هذا الصدد هي مدى تعبيره عن البيئة، خاصة عندما يكون مخصصًا للسكن والإقامة، بما في ذلك الإقامة السياحية العابرة: فلا شك أن السائح لا يرغب العيش بين جنبات عمارة تشبه عمارة المدن الكبرى التي ربما يحيا فيها؛ فالواقع أن المتعة الجمالية بالإقامة لدى السائح تتعاظم كلما كان معمار الإقامة أكثر تعبيرًا عن بيئته. وبوجه عام، فإن المواطن نفسه يشعر بالسعادة والمتعة والرضا حينما يجد المسكن الذي يعيش فيه معبرًا عن بيئته الاجتماعية وموروثه الثقافي، ومن ثم عن هويته هو نفسه.

ولعلنا نتذكر في هذا الصدد نظرية المعماري المصري الشهير عالميًّا حسن فتحي صاحب كتاب «عمارة الفقراء»؛ وهي النظرية التي أسس عليها مشروعه في إنشاء قرية «القرنة» غرب الأقصر؛ فقد راعى في مشروعه استيعاب المُهجَّرين من أهل النوبة الذين يعيشون في جنبات الآثار، بهدف تأسيس مسكن ملائم من الناحية البيئية لأناس لهم أسلوبهم الخاص في الحياة، فراعى في تصميمه أن تكون منازل القرية بعيدة عن الآثار نسبيًّا، وقريبة من الأراضي الزراعية والمناطق الخدمية كالسكة الحديد؛ وأن تكون المنازل قروية مُشيَّدة من مواد طبيعية مستمدة من البيئة الجبلية للمنطقة؛ وأن تكون لكل منزل خصوصية تميزه عن غيره؛ وأن تتشكل الأسطح من قباب تقلل من حرارة الطقس، وأن تحتوي على باب خاص بالساحة الخلفية المخصصة للبهائم التي يربيها الناس، فضلًا عن إنشاء مركز ثقافي، وآخر لتعليم الحِرف والمهارات الموروثة وتطويرها.

السابق هو مجرد أمثلة على ما نود أن نخلص إليه، وهو أن مفهوم «الجماليات» أصبح موضوعًا لدراسات يمتد إلى ما هو أبعد من خبراتنا بالفن، ليشمل خبراتنا في الحياة اليومية؛ وبذلك فإنه يشكل مجالًا واسعًا للغاية، يتداخل فيه علم الجمال التقليدي (الذي يهتم بالجميل في الفن) مع علم الجمال البيئي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی حیاتنا الیومیة یمکن أن

إقرأ أيضاً:

جورجيا.. وجهة سياحية غنية بسحر الطبيعة وعمق الحضارة والتنوع الثقافي

 

 

الرؤية- أحمد الجهوري

في ملتقى قارتي آسيا وأوروبا، تتجلى جورجيا بوصفها واحدة من أبرز الوجهات السياحية التي تجمع في طياتها ثراء الطبيعة، وعمق التاريخ، وأصالة الإنسان، حيث تتعانق الجبال الشاهقة مع الأنهار المتدفقة، وتنتشر الغابات الكثيفة والينابيع المعدنية، وتتجاور المدن الحديثة مع الأزقة القديمة التي تحمل عبق القرون الماضية. وبدعوة إعلامية من الإدارة الوطنية للسياحة في جورجيا، أُتيحت فرصة استثنائية لاكتشاف هذا البلد عن قرب، والاطلاع على ملامح تنوعه الجغرافي، وغناه الحضاري، ودفء ضيافته التي تُعد من أبرز سمات الشخصية الجورجية، إلى جانب التعرّف على ثقافته، ومطبخه التقليدي، وإرثه التاريخي العريق.

انطلقت الرحلة من العاصمة تبليسي مع الوصول إلى مطارها الدولي، حيث بدأت أولى محطات البرنامج بزيارة كنيسة ميتيخي التاريخية، التي شُيدت في القرن الخامس الميلادي بأمر من الملك فاختانغ غورغاسالي، والتي تتربع على منحدر صخري يطل على نهر متكفاري في مشهد يجمع بين جلال المكان وروعة الطبيعة. واستُكملت الجولة بزيارة قلعة ناريكالا التي تعلو المدينة وتحرسها منذ قرون طويلة، حيث أتيح للزوار الاستمتاع بمشهد بانورامي شامل للعاصمة وأحيائها القديمة ومعالمها الحديثة. ثم جاءت محطة شارع شاردين، أحد أقدم شوارع تبليسي وأكثرها حيوية، والذي تحوّل إلى مركز نابض بالمقاهي والمعارض الفنية والمطاعم، قبل الانتقال إلى منطقة الحمامات الكبريتية في حي ليغفتاخيفي العريق، حيث تتصاعد أبخرة المياه الساخنة من القباب المبنية بالطوب الأحمر في مشهد تاريخي فريد، يعكس هوية تبليسي القديمة ويمنح المكان بعدًا إنسانيًا وحضاريًا خاصًا.

وفي اليوم التالي، توجّه الوفد الإعلامي إلى مدينة أخالتسيخه في إقليم سامتسخي–جافاخيتي، وهي مدينة تاريخية تقع في الجنوب الغربي من جورجيا، وتُعد من أبرز المدن التي احتضنت تعاقب الحضارات. وكانت الزيارة الأبرز إلى قلعة راباتي، التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن التاسع الميلادي، والتي خضعت لعمليات ترميم شاملة أعادت إليها رونقها التاريخي، لتتحول اليوم إلى معلم سياحي وثقافي بارز يجسّد التعايش الحضاري بين الثقافات المختلفة، ويضم في أروقته وساحاته نماذج معمارية تجمع بين الطابعين الإسلامي والمسيحي.

ومن عبق التاريخ، انتقلت الرحلة إلى عمق الطبيعة في منتجع سايرمي الجبلي الصحي، الواقع في غرب جورجيا على ارتفاع يقارب تسعمائة وخمسين مترًا فوق مستوى سطح البحر، وسط غابات كثيفة وبيئة طبيعية نقية. ويُعد هذا المنتجع من أقدم الوجهات العلاجية في البلاد، حيث يحتوي على عدة ينابيع معدنية تختلف في تركيبتها وخصائصها العلاجية، وقد ذاع صيته منذ القرن التاسع عشر بوصفه مقصدًا للاستشفاء والعناية بالصحة.

وشملت الزيارة جولة داخل المنتجع، والاطلاع على منظومة توزيع المياه المعدنية، وتجربة تذوق مياه سايرمي ذات الفوائد الصحية المتعددة، إلى جانب ممارسة نشاط الرماية في أحد الميادين المخصصة، في تجربة جمعت بين الترفيه والتركيز والانضباط.

كما شهد البرنامج تجربة الانزلاق الهوائي عبر أطول مسار من نوعه في منطقة جنوب القوقاز، بطول يصل إلى ثمانمائة متر، حيث انطلق المشاركون من أعالي الجبال محلقين فوق الغابات وحدائق المنتجع في تجربة مليئة بالإثارة، عكست الجمال الطبيعي والتنوع البيئي الذي تتميز به جورجيا.

وفي واحدة من أكثر محطات الرحلة إبهارًا، تمت زيارة كهف بروميثيوس، الذي يُعد من أغنى وأجمل الكهوف في أوروبا، حيث يمتد المسار السياحي داخله لأكثر من ألف متر، متخللًا شبكة من القاعات الطبيعية التي يبلغ عددها ست عشرة قاعة، تتزين بتكوينات صخرية مذهلة من الهوابط والصواعد، إلى جانب الأنهار والبحيرات الجوفية، التي أضفت على المكان طابعًا جماليًا فريدًا يعكس عظمة التشكيلات الطبيعية عبر آلاف السنين، كما أتاح الكهف للزوار تجربة الإبحار بالقوارب داخل مياهه الجوفية في مشهد استثنائي قلّ نظيره.

واختُتمت الرحلة بالعودة إلى العاصمة تبليسي، حيث خُصص وقت حر لاستكشاف المدينة ومرافقها وأسواقها، قبل الانتقال في اليوم الأخير إلى المطار وفق مواعيد الرحلات الجوية، بعد جولة سياحية وإعلامية متكاملة كشفت عن الوجه الحقيقي لجورجيا بوصفها دولة تجمع بين التاريخ العريق، والطبيعة الخلابة، والتنوع الثقافي، والضيافة الإنسانية الراقية، لتؤكد مكانتها كوجهة سياحية واعدة على خارطة السياحة العالمية.













 

مقالات مشابهة

  • تعلن محكمة بعدان والشعر الابتدائية بأن على/ عبدالقادر محمد الجمال الحضور إلى المحكمة
  • استشاري: الترند يؤثر على خيارات الحياة اليومية
  • جورجيا.. وجهة سياحية غنية بسحر الطبيعة وعمق الحضارة والتنوع الثقافي
  • نقل الكهرباء توقع مع الجمال للمقاولات عقود تنفيذ مشروعات خطوط نقل جهد عالٍ
  • بلدية أم الجمال تعلن وظائف جديدة بالتعاون الغذائي
  • مطاردة غير مرئية… «كان كيس أسود» يكشف شبح القمامة في حياتنا
  • فيلم «القيمة العاطفية»: جماليات التعبير السينمائي تعكس أزمات الذات والآخر
  • عدد خطواتك اليومية مؤشر لدرجة إصابتك بمرض الباركنسون
  • دورة متخصصة للتوعية الأمنية في البيئة المعادية
  • «وما بعد».. هذه هي تحولات الطبيعة