عندما نستخدم تعبير «جماليات الحياة اليومية» في سياق التحدث أو الكتابة، فمن المتوقع أن يثير هذا التعبير اعتراضًا رئيسًا ممزوجًا بالاستنكار لدى المتلقي، وهو: كيف نتحدث عن جماليات الحياة اليومية وكثير من الناس من حولنا يعانون البؤس والفقر في حياتهم اليومية، بل قد يعانون من عدوان ودمار وقتل وحشي (كما هو حال شعب فلسطين)؛ ولكن هذا الاعتراض يمكن الرد عليه: فكما أن العالم مليء بأشكال القبح، فإنه مليء أيضًا بصور الجمال وتجلياته، والفن نفسه يصوّر هذا الجمال من حولنا في الطبيعة مثلما يصوّر القبح الذي يتجلى في الشر والألم والمعاناة والبؤس وغير ذلك؛ وهو يمتعنا حتى حينما يصور أشكال القبح: فليس ما يمتعنا هنا هو القبح نفسه، وإنما قدرة وبراعة الفنان في التعبير عن شيء من أنفسنا، أي التعبير عن جانب من وجودنا وعالمنا (وهذا ما يُعرَف «بجماليات القبيح»!).
ومن هنا يمكن أن نفهم أيضًا مكانة الفن ودوره في حياتنا -بل في حياتنا اليومية- من الناحية العملية، فحتى عندما لا يكون الفن أو العمل الإبداعي عمومًا موجَّهًا لخدمة أغراض عملية، فإنه يحقق أهدافًا عملية في حياتنا وإن كان بطريقة غير مباشرة، حينما يكفل لنا المتعة الجمالية والسلوى، ليس فحسب من خلال الترفيه أو الترويح عن النفس، وإنما أيضًا من خلال المتعة العقلية والوجدانية التي تكفلها لنا الأعمال الرفيعة؛ فالواقع أننا نتعرف على أنفسنا وعلى عالمنا بطريقة جمالية، وذلك حينما نتعرف على معاني الحب والكراهية والألم والذات والحرية والتطور التاريخي والاجتماعي، إلخ؛ ونحن من خلال الأعمال الفنية ندخل في صلات أخرى مع عوالم وأشياء غير ذواتنا الشخصية.
وفضلًا عن ذلك، فإن الفن يسهم أيضًا في عملية علاج النفس بمعنى تحقيق حالة من التوازن أو الاتزان النفسي عبر عملية التأمل الجمالي، ذلك التوازن المستمد أصلًا من توازن الطبيعة والكون، ولذلك كله، فإن هناك ضرورة للتعاطي مع الفن في حياتنا المعيشة، وهذا أحد تجليات الجمال في حياتنا اليومية. ولكن من الضروري أيضًا أن نلاحظ أن خبراتنا بالجمال الطبيعي في حياتنا اليومية لا تقتصر على خبراتنا بالفن وقيمته العملية في حياتنا، حقًّا إننا يمكن أن نتعلم من خبرتنا بالفن شيئًا ما عن الكيفية التي يمكن أن ننظر بها إلى الجمال البيئي والطبيعي في عالمنا المعيش، ولكن هذا الجمال الأخير يظل له أيضًا خصوصيته التي يمكن أن نتعلم منها وأن نستلهم إحساساتنا الأولية بالضوء والظل والتكوين والملمس والرائحة، وغير ذلك من الخبرات المتعلقة بجماليات المكان في الطبيعة: كما في التجول أو التنزه بين مشاهد الطبيعة كالغابات والجبال والأنهار، وفي خبرات التخييم والتجديف وركوب البحر وممارسة الصيد على سبيل المثال.
هذا النوع من الجمال له خصوصيته؛ لأن المكان هنا لا يكون مؤطَّرًا بحدودٍ كما في اللوحة، ونحن نعايشه عبر زمن ممتد، ونكون منغمسين فيه، وعندما نتحرك فإننا نتحرك داخله، ونستكشفه على التتابع في نوع من المغامرة. ولكننا لا ينبغي أن نفهم من هذا أن جماليات الحياة اليومية تقتصر على خبرات الجمال الطبيعي، فهذا قصور شائع في فهم الخبرات الجمالية في الحياة اليومية؛ لأن هذه الخبرات تتجاوز عملية الاستمتاع بجماليات الطبيعة إلى الاستمتاع بجماليات المكان في البيئات المشيَّدة أيضًا، وهنا يبرز على الفور دور فن العمارة والتصميم الهندسي للمنشآت، سواء في دُور السكن والعمل والعبادة، أو في الطرق التي تؤدي إليها والبيئة المحيطة بها.
ولا شك في أن الإحساس الجمالي بما تكفله بيئة العمل من الناحية الإنشائية يكون له مردود عملي على الاستمتاع بالعمل نفسه، ومن ثم تجويده. وإذا كانت جماليات العمارة تتجلى على أنحاء شتى في حياتنا اليومية، فإن السمة الأكثر أهمية التي تميز دور المعمار في هذا الصدد هي مدى تعبيره عن البيئة، خاصة عندما يكون مخصصًا للسكن والإقامة، بما في ذلك الإقامة السياحية العابرة: فلا شك أن السائح لا يرغب العيش بين جنبات عمارة تشبه عمارة المدن الكبرى التي ربما يحيا فيها؛ فالواقع أن المتعة الجمالية بالإقامة لدى السائح تتعاظم كلما كان معمار الإقامة أكثر تعبيرًا عن بيئته. وبوجه عام، فإن المواطن نفسه يشعر بالسعادة والمتعة والرضا حينما يجد المسكن الذي يعيش فيه معبرًا عن بيئته الاجتماعية وموروثه الثقافي، ومن ثم عن هويته هو نفسه.
ولعلنا نتذكر في هذا الصدد نظرية المعماري المصري الشهير عالميًّا حسن فتحي صاحب كتاب «عمارة الفقراء»؛ وهي النظرية التي أسس عليها مشروعه في إنشاء قرية «القرنة» غرب الأقصر؛ فقد راعى في مشروعه استيعاب المُهجَّرين من أهل النوبة الذين يعيشون في جنبات الآثار، بهدف تأسيس مسكن ملائم من الناحية البيئية لأناس لهم أسلوبهم الخاص في الحياة، فراعى في تصميمه أن تكون منازل القرية بعيدة عن الآثار نسبيًّا، وقريبة من الأراضي الزراعية والمناطق الخدمية كالسكة الحديد؛ وأن تكون المنازل قروية مُشيَّدة من مواد طبيعية مستمدة من البيئة الجبلية للمنطقة؛ وأن تكون لكل منزل خصوصية تميزه عن غيره؛ وأن تتشكل الأسطح من قباب تقلل من حرارة الطقس، وأن تحتوي على باب خاص بالساحة الخلفية المخصصة للبهائم التي يربيها الناس، فضلًا عن إنشاء مركز ثقافي، وآخر لتعليم الحِرف والمهارات الموروثة وتطويرها.
السابق هو مجرد أمثلة على ما نود أن نخلص إليه، وهو أن مفهوم «الجماليات» أصبح موضوعًا لدراسات يمتد إلى ما هو أبعد من خبراتنا بالفن، ليشمل خبراتنا في الحياة اليومية؛ وبذلك فإنه يشكل مجالًا واسعًا للغاية، يتداخل فيه علم الجمال التقليدي (الذي يهتم بالجميل في الفن) مع علم الجمال البيئي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی حیاتنا الیومیة یمکن أن
إقرأ أيضاً:
شهران قبل الكارثة.. صرخة أخيرة لإنقاذ ما تبقى من الحياة في غزة
يعيش سكان قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ المعاصر، بسبب الأعمال العسكرية المكثفة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي أثبتت محكمتي العدل والجنايات الدوليتين أنها ترقى إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية، في قراراتهما المبدئية الخاصة بهذه الحرب.
القطاع، الذي لم يشهد استقرارا منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، تعرض لتدمير ممنهج أعاده إلى ما قبل العصر الحجري بخسائر بشرية ومادية فادحة، ودمار واسع النطاق للبنية التحتية والمرافق المدنية، أضيفت لما يعانيه أصلا من الحصار المطبق عليه برا وبحرا وجوا قبل نحو 18 عاما.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الأونروا تحذر من "عواقب صحية" إثر نقص الماء واكتظاظ الملاجئ بغزةlist 2 of 2مساعدة أممية وخدمة أوروبية لدعم إطفاء الحرائق باللاذقيةend of listوقد دفعت الحرب الإسرائيلية وحرمان السكان من الغذاء والدواء والماء، منظمات إغاثية لإطلاق نداء أخير لإنقاذ سكان غزة من الموت المحقق، مؤكدين أنه "لم يتبق سوى شهرين على هذه الكارثة".
الجزيرة نت ترصد في هذا التقرير الواقع الصحي والإنساني المنهار في غزة، استنادا إلى أرقام مؤسسات تابعة للأمم المتحدة وأخرى تابعة لحكومة غزة.
وضع طبي منهار
يشهد القطاع الطبي في غزة انهيارا كاملا بعد استهداف قوات الاحتلال كافة المنشآت الطبية مع بدء عملياتها العسكرية، فوفق تقرير لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) صدر في مايو/أيار الماضي، فإن 9 مراكز صحية من أصل 27 تابعة لها لا تزال تعمل في القطاع بشكل جزئي، وتعاني من نقص حاد في الموارد، ومن المتوقع نفاد إمداداتها وإغلاقها خلال أيام.
كما أدى الحصار الإسرائيلي الأخير منذ الثاني من مارس/آذار الماضي وحتى اليوم إلى منع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، مما تسبب في نفاد الإمدادات الإنسانية الأساسية، بما في ذلك الغذاء والوقود والمساعدات الطبية ولقاحات الأطفال.
ووفقا لوزارة الصحة الفلسطينية، فإن 43% من الأدوية الأساسية نفدت بحلول نهاية أبريل/نيسان، مع وجود فجوات كبيرة في خدمات العلاج الكيميائي وأمراض الدم (62%)، وصحة الأم والطفل (53%)، والرعاية الأولية (48%).
إعلانبالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تنفد 64% من المستلزمات الأساسية في غضون أسابيع، مما يؤثر بشدة على رعاية القلب المفتوح والقسطرة (100%)، وجراحة العظام (87%)، والرعاية العينية (84%) في ظل تدمير البنية الأساسية الصحية أساسا وافتقادها للوقود اللازم واستهداف الأطقم الطبية.
وينسحب ما يجري مع المنشآت الطبية التي تديرها الأونروا على بقية المنشآت التي تديرها منظمات أخرى، بل يعد وضعها أكثر صعوبة، وقد تم توثيق 720 هجوما على المرافق الصحية حتى 22 مايو/أيار الماضي، مما أدى إلى استشهاد 917 شخصا وإصابة 1406 آخرين، كما تضررت 125 منشأة صحية، بما في ذلك 34 مستشفى، و186 سيارة إسعاف.
الاحتياجات الطبيةومع انهيار المنظومة الصحية وغياب الدواء والوقود، تواجه غزة تحديات هائلة على المدى الطويل، حيث يعاني أكثر من ألفي شخص من السرطان كل عام، بينهم 122 طفلا، وأكثر من 1500 مريض بحاجة إلى غسيل كلوي، وأكثر من 60 ألف شخص يعانون من السكر، و45 ألف مريض يعانون من أمراض القلب، وأكثر من 650 ألف شخص يعانون من ارتفاع ضغط الدم، بالإضافة إلى 485 ألف شخص يعانون من اضطرابات الصحة النفسية.
وفقا لتقرير منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من 500 ألف امرأة في سن الإنجاب تفتقر إلى الوصول إلى الخدمات الأساسية بما في ذلك رعاية ما قبل وما بعد الولادة ونحو 50 ألف حامل بينهن حوالي 5500 امرأة من المتوقع أن يلدن خلال الشهر المقبل، بما في ذلك حوالي 1400 امرأة تتطلب ولادة قيصرية، مع نحو 180 ولادة يوميا.
ومع إصدار قوات الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن 29 أمر إخلاء منذ 18 مارس/آذار الماضي، أصبح حوالي 197.7 كيلومترا مربعا من قطاع غزة تحت أوامر النزوح النشطة (المساحة الإجمالية لقطاع غزة حوالي 365 كيلومترا مربعا).
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 599 ألف شخص قد نزحوا مرة أخرى منذ انهيار وقف إطلاق النار.
كما أدى الحصار الإسرائيلي ومنع وصول المساعدات لكل محافظات القطاع إلى تدهور الوضع الغذائي ووصوله إلى درجة الجوع.
وبحسب مدير الصحة في الأونروا الدكتور أكيهيرو سيتا، فقد أظهرت بياناتهم لشهر أبريل/نيسان الماضي تزايد في حالات سوء التغذية بين السكان، مؤكدا أن استمرار النقص الحالي في الغذاء سيؤدي لخروج الأمر عن نطاق السيطرة.
وتشير التقديرات إلى أن نحو 71 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين 6 و59 شهرا سيعانون من سوء التغذية الحاد بين أبريل/نيسان 2025 ومارس/آذار 2026، بما في ذلك 14 ألف حالة متوقعة من سوء التغذية الحاد، بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج ما يقرب من 17 ألف امرأة حامل ومرضع إلى علاج من سوء التغذية الحاد.
الآثار النفسية للحربكما أدت الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع إلى ارتفاع معدلات انتشار الاضطرابات النفسية بين السكان، مثل اضطرابات ما بعد الصدمة (54% لدى الأطفال، 40% لدى البالغين) والاكتئاب إلى 41% لدى الأطفال، 45% لدى البالغين.
وكذلك بلغت معدلات الإصابة بالقلق 34% لدى الأطفال، و37% لدى البالغين، ويزداد الأمر صعوبة في عدم توافر أي مستوى من الإغاثة في هذا المجال حاليا في القطاع مع استمرار الوضع السيئ حاليا.
إعلان
إغلاق تام للحياة
وفي تصريحات للجزيرة نت، قال الدكتور مالك أبو رجيلة مدير عمليات الشرق الأوسط في منظمة جيفت أوف ذا جيفرز الجنوب أفريقية إن "الوضع في غزة لا يمكن وصفه إلا بالكارثة على كل المستويات، خاصة في ظل استهداف الاحتلال للعاملين في المجال الإغاثي، وقد فقدنا العديد من العاملين معنا، ومن بينهم مدير مكتبنا في غزة، خلال عملهم، ورغم ذلك نحاول توصيل ما نستطيع من أدوية وأغذية إلى السكان".
وأكد أبو رجيلة، الذي يعمل من القاهرة وسيناء وإسطنبول وينسق إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع مع العديد من المنظمات الإنسانية الدولية، أن إدخال المساعدات أصبح شبه مستحيل حاليا بسبب الإغلاق المطبق على القطاع من جانب الاحتلال، وهو ما يؤكد أن القطاع قد يشهد حالة موت تام لسكانه خلال أقل من شهرين.
أضرار مادية هائلةوتقدر احتياجات إعادة الإعمار والتعافي في غزة بنحو 53 مليار دولار، وفقا لتقرير "التقييم السريع المؤقت للأضرار والاحتياجات في غزة والضفة الغربية" الصادر عن البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في فبراير/شباط 2025.
ويحلل التقرير الأضرار والخسائر واحتياجات التعافي وإعادة الإعمار في جميع قطاعات الاقتصاد الفلسطيني تقريبا استنادا إلى بيانات من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وكان قطاع الإسكان هو الأكثر تضررا، حيث يمثل 53% من إجمالي الأضرار، يليه قطاع التجارة والصناعة بنسبة 20%. كما تقدر الأضرار الواسعة النطاق التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية مثل الصحة والمياه والنقل بأكثر من 15% من إجمالي الأضرار.
وفقا لتقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان في يناير/كانون الثاني 2025، تظهر بيانات الأقمار الصناعية أن 60% من المباني متضررة أو مدمرة تماما، بما في ذلك 92% من المنازل و88% من البنية التحتية الأساسية.
وفقا لتحليل الأقمار الصناعية الذي أجرته الأمم المتحدة (يونوسات) في أبريل/نيسان 2025، تضرر نحو 174 ألفا و500 مبنى في جميع أنحاء قطاع غزة، منها 68% دمرت بالكامل.
وتشير تقديرات أخرى إلى أن ما يصل إلى 80% من البنية التحتية المدنية في غزة قد دمرت أو تضررت.
ويضاف إليها إدارة ما بين 41 إلى 47 مليون طن من الأنقاض تحتاج 22 عاما لإزالتها بتكلفة تزيد على مليار دولار، بحسب تقديرات تقرير أممي.
وترتكب إسرائيل، بدعم أميركي مطلق، إبادة جماعية في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلّفت أكثر من 195 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، فضلا عن مئات آلاف النازحين.