لجريدة عمان:
2025-07-02@05:56:22 GMT

الحـق بين الطـبـيعـة والـدولـة

تاريخ النشر: 12th, February 2025 GMT

يعرف دارسو الفـلسفة السياسيـة الحديثة أن انـتـقالها من استخـدام مفهـوم الحـق الطـبيـعي إلى استخـدام مفهوم الحـق المـدني تَـساوَقَ مع عمليـة الانـتـقال من فرضيـة حالة الطـبيـعة (= مجتمع اللادولة) إلى التـنظير لفـكرة المجتمع السياسي (= الـدولـة)؛ إذْ يـقـترن معْـنَيَـا الحـق ذيناك مع حالتـيْـن من الاجتـماع الإنساني مختلـفـتيـن وجوهـًا من الاخـتلاف في السـمات: وإنْ تـفاوتت نِسبُ ذلك الاختلاف ومقاديـرُه من فـيلسوف لآخَـر.

مع ذلك، لا يـذهب فلاسفـة السياسة المحـدثون جميعًا إلى المقابَـلة والمفاصَـلة التـقاطبـيـة بين الحـقـيْن أو، قـل، بين طـبيـعتـيْ الحـق في الحالتـيْـن؛ إذْ مال أكـثرهم إلى افـتـراض قـدْرٍ مـا من المشابَهَـة والتجانـس بين الحـق الذي تسمح بـه حالةُ الطـبيـعة والحـق الذي يُـخـوله المجتمع السياسي. ولقد كـان وراء هـذه المماهاة بينهما - خاصةً عند جون لوك وجان جاك روسو- حرصٌ على بيان أوّلـيـّةِ ما هـو طبـيـعي وحاجـةِ أيِ نظامٍ اجتماعي إلى البناء عليه. ومعنى ذلك، أيضـاً، أن الدولة عند هـذيـن الفـيلسوفين - كما عند إيـمانويـل كَـنْت وقبلـه سپـيـنـوزا- مجرد وسيلـة لإنـفاذ ما هـو خيِـر ونافـع؛ ما هـو قائـمٌ، ابـتـداءً، في الوجود الطـبيـعي. ولذلك وقع الإلحاح كثيراً على فـكرة الطـبيـعة الخيـرة للإنسان، في كتابات فـلاسفة العـقـد الاجتماعي، والتي لم يشـذ عنها سوى هوبس الذي ظل - مثـل ميكياڤـيلـلي قـبله - حريصاً على التـشديد على أثـرِ الغـرائـزيِ والحيوانيِ في السلوك الإنساني.

على أن المشابهة بين الحـق الطـبيـعي والحـق المـدني، عند فلاسفة العـقـد الاجتماعي أُولاء، تأتي من أن الحـق المـدني ليس شيئاً آخـر سوى الحـق الطـبيـعي نـفسه بعد أن أحاطـتْـهُ الـدولـة بضمانات الحماية. هـاهنا، من غير التـبـاس، تبـريرٌ فـلسفي للـدولـة ولحاجة الاجتماع الإنساني إليها. وعلـتُـه أن الحـق الطـبيـعي، وإنْ كان من منتوجات الوجود الطـبيـعي ومسـلماته وممـا يسلـم به العـقـل ويدعو إليه، ليس مضمونًا ولا مـأمونـًا في نطاق حالة الطـبيـعة، نظرًا إلى انعدام وجود وازع (= سـلطة) يَـزَعُ الناس بعـضَهم عن البعض، أي إلى انعدام وجود قوانين زجريـة رادعة تضع حـدًّا للانتهاكات وللعدوان على الحقوق، بل هـو - على العـكس من ذلك - حـقٌ قابلٌ للانتهاك في كـل حيـنٍ من الناس أنفـسِـهم الذين يدفعهم التـنازُعُ عليه إلى الانقـضاض عليه، في الوقـت عيـنِـه، ومنْـعِ الواحـد منهم من التـمتـع بـه.

هذا ما سـوغ، عنـدهم، مبـدأ الـدولـة بما هـو السبيـل إلى إعادة إخضاع الإرادات المتـنازعـة، المُـفضيـة إلى الاصطراع والتـقاتُـل، لإرادةٍ واحدة جامعة هي التي سيطلق عليها جـان جاك روسو، في ما بـعـد، اسـم الإرادة العـامـة: الإرادة المجـسَـدة في الـدولـة والقـانون.

الخوف على تبديد الحـق الطـبيـعي، إذن، هو الميكـانيـزم الـدافـع إلى إيجـاد ما يحمي ذلك الحـق؛ أي الـدافع نحو الخروج من الاجتماع الطـبيـعي وتأسيس الاجتماع السياسي.

على أن الانـتـقال من الأول إلى الثاني يفرض آليـةً سلسة تسمح بإمكانه وتـفـتح الباب أمام تصيـير الحـق الطـبيـعي حـقًـا مـدنيـًّا. سمـى فـلاسفـةُ السياسـة هذه الآلية بعمليـة نـقـل أو تحـويل Transfert لذلك الحـق إلى جهـةٍ تـتـعـهـده بالحمايـة، تـتـمثـل في جسـمٍ سياسي يعبـر عن الجماعـة ويـتـألف منها. على أن النـقـل ذاك لا يكون تخـلـيًا من النـاس عن حقوقـهم تلك وتحـويلها جميعها إلى ذلك الجسم السياسي المؤتَـمَـن عـليها، وإنـما يقع ذلك بـقـدرٍ مـن الرضا والطـوعيـة والإرادة من قِـبَـل مَـن يقـومون بتحويلـه، لعـلمهم بأنـهم لا يـقْـوَوْن على حماية حقوقهم بأنـفسهـم منـفـردين. إن عجـزهم عن الاحتـفاظ بتلك الحقوق الطـبيـعيـة في مَـأْمـنٍ لها مـن كـل تـهـديـدٍ أو خـطر هـو، بالـذات، ما يجـعـل من ذلك النـقـل فعـلاً إراديـًّا حـرًّا وطوعـيـًا لا يـأتـيـه أحـدٌ منهم بالإرغـام. بهذا المعنى يكون نـقْـلاً أو تحـويلاً وليس تخـلـياً أو تـفريطاً. بـل وُجِـدَ من فـلاسفـة العـقـد الاجتماعي مَـنِ اعتـبر ذلك النـقـل تـنازُلاً من الناس لأنفسـهـم، في حـقيقـة أمـره، وإنْ بَـدَا وكـأنـه تنـازُلٌ منهم للمجتمع السياسي.

لا خـلاف، في الفـلسفـة السياسيـة، على حاجة الجماعة الاجتماعيـة الطـبيـعيـة إلى تنازل أفـرادها عن حقـوقٍ لا يملكون الحفاظَ عليها لجسـمٍ (سياسي) وحـده يستطيـع حمايـتها؛ فعلى ذلك يجتمع قـولُ فـلاسفـة السياسة المحدَثـين، الخلافُ بينهم إنما هـو، حصـراً، على مَـن يكـون ذلك الذي يـقع التـنازل له: أَهـو الحاكـم الفـرد أم المجلس (البرلمان)؟ أي بمعنى مَـن عسـاهُ يكون ذلك الذي يجسـد الـدولـةَ والسيادة: الحاكـم أو مـمـثـلو الشـعب؟ ومع أنـه من البـيـن أن السـؤال هذا مضـطربٌ وغيرُ مطابِـق لعمـليـة الانـتـقال من الجماعة الطـبيـعيـة إلى الجماعة السياسيـة؛ بل على الرغـم من أن تناقـضًا صارخًـا يعـتـوره (إذْ كيف يجوز السؤال عن النـصاب الذي تُـنْـقَـل إليه الحقـوق - فـردًا أو مؤسـسة - فيـما الـدولـةُ نفسُـها، في منـطق السـؤال، لم تَـقُـم بعد!)؛ إلا أن الجـدلَ الفلسفي حـولَه ترجَـم حالةَ انـقـسامٍ انشـطاري، داخـل فـلسفة السـياسة، بين ذاهـبٍ إلى التـسويغ للـدولـة ولسلطـةٍ مطلـقـةٍ فيها لوجود الحاجة الماسـة إلى ذلك، وذاهـبٍ إلى تقـيـيد سلطانها وكـبح جِـماح من يتـقـلـد مسؤوليـة إدارتها، بـل إخضاع تلك السـلطـة لمراقبـةٍ صارمة تحُـول دون صـيـرورتها متسـلطة.

خلف الـدفاع عن فـكرة السلطة القـويـة الفـرديـة هـاجـسٌ يـبـرِره: الخـوف على السِـلْم مـن الحرب الداخليـة المفـتوحـة في الجماعة الطـبيـعيـة.

وهكذا، تقـضي الحاجـةُ إلى الأمـن بوجوب قيـام سلطـة رادعة من غير شروطٍ عليها من أجـل أن تضـع حـداً لحالة الطـبيـعة، بحسـبانـها حالةَ حـربٍ عامـة دائـبة (تـوماس هـوبس)؛ فيما يكـمن هاجـسٌ آخر خلف فـكرة تـقـيـيـد تسـلـطيـة الـدولـة: حماية الحقـوق الطـبيـعيـة (جـون لوك). تـقضي هـذه الحماية بانـفـصال المجتمع السياسي، انـفـصالاً كـلـيـاً، عـن المجتمع الطـبيـعي والقطْع مع ما كان سـيـئًا فيه خاصـةً العـنف. هكـذا نظـر دعاة المـوقـف الثاني إلى النـظام الفـردي بوصفه استمرارًا لحالة الطـبيـعة يتـوجـب القـطع معـه لكي تـتكـون الـدولـة ويستـتـب لـها الأمــر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما هـو

إقرأ أيضاً:

سهمٌ فی كنانة رٸيس الوزراء

جعل الدكتور كامل الطيب إدريس، رٸيس الوزراء، مُسمیٰ الأمل عنواناً لحكومته المرتقبة، التي جعل فيها للزراعة سهماً وافراً فی إعادة البناء، وإنعاش الإقتصاد، وتوفير فرص العمل للكثير من الأيدي العاملة، وله الحق فی ذلك فالزراعة ثم الزراعة ثم الزراعة، وأنا أعلم إن البرازيل قد جعلت للزراعة مجلساً فوق مجلس الوزراء!!

نعم سلطة الزراعة أعلیٰ من سلطة مجلس الوزراء بل تقترب من السلطة المطلقة فی تلك البلاد التي نهض إقتصادها من تحت خط الفقر، لينافس أكبر إقتصاديات العالم بفضل نشاط الزراعة بشقيها النباتي والحيوانی، وشرح ذلك يطول .

ونحن فی السودان لسنا بحاجة إلیٰ دراسات علمية معقدة أو تقنيات حديثة مكلفة، وإن كان ذلك مهماً ولكن ليس مُلِحاً أو عاجلاً فی مثل ظروف بلادنا الإستثناٸية التي تمر بها، ولكننا فی حاجة لقيادة شخص استثنائي يقوم بتحريك كل أجزاء ماكينة الزراعة فی كل أنحاء البلاد، شخصٌ تتوفر فيه شروط الكفاءة من علمٍ في مجاله، واستقلالية عن كل التنظيمات السياسية، وقوة في الشخصية، وقدرة فاٸقة للعمل تحت الضغط، ووطنية لا تشوبها شاٸبة، وسجل مهني مشرِّف، وعلاقات خارجية غير مشبوهة، ونحن هنا لا نضع مواصفات لـ(سيوبرمان) لكننا نُسقط هذه المطلوبات علی رجال من بيننا حصلوا علی أعلیٰ المٶهلات وعملوا فی مجالهم بلا كلل أو ملل ولم يشغلوا أي مناصب دستورية فی حياتهم وقد آن الأوان ليتقدموا إلیٰ مواقع قيادية فی الفترة الإنتقالية، وقد سرَّني أن أجد فی الأسافير إسم خضر جبريل موسی إدريس، أقرب المرشحين وزيراً لوزارة الزراعة فی حكومة الدكتور كامل الطيب إدريس وقبل أن تهرع المواقع إلى نسبة من القرابة الرحمية مع رٸيس الوزراء بسبب إسم (إدريس) في عاٸلتيهما لكن ليس هذا صحيحاً، فالسيد خضر جبريل الذی تخرَّج فی كلية الزراعة جامعة الخرطوم بمرتبة الشرف عام 1974م من مواليد شبا مركز مروي وعمل من فوره فی وقاية النباتات بوزارة الزراعة حتی بلغ فيها منصب المدير العام لوقاية النباتات وخاض فيها وبسببها معارك مشهودة فی محاربة الفساد كسبها لأن الحق كان إلیٰ جانبه، ولأن شخصيته مصادمة وله كاريزما عالية ولا يخشیٰ في الحق لومة لاٸم.

وللرجل سجل حافل بالإنجازات فی مجاله بجانب قدراته علی التحليل الإداري الذی حاز علی شهادته من المعهد الملكي البريطاني، وخبرته العملية في المٶسسات الزراعية فی النيل الأزرق والنيل الأبيض والمٶسسة العسكرية الزراعية، الرجل حاصل علی درجة الماجستير فی علوم وقاية النباتات من جامعة الخرطوم، وفی المجال الدولي كان عضواً فی منظمة الزراعة والأغذية العالمية الفاو لقرابة عقد ونصف من الزمان، وعضواً لسنوات فی الاجتماع العالمي لإدارة المبيدات فی جنيف ومشاركاً فی إتفاقيات روتردام وبازل واستوكهولم، وشارك في أكثر من ثمانين فعالية عالمية، وشارك فی قيام منظمة (إيغاد) لمكافحة التصحر في السودان وفي القرن الأفريقی، قبل أن تطغی عليها حُمیٰ السياسة.

السيد الدكتور كامل الطيب إدريس، وأنت تبحث عن مواصفات الكفاءة وعدم الإنتماء الحزبي فدونك سيرة ومسيرة خضر جبريل موسی إدريس وهو خير مثال للمهنية والتجرد.
وعليك أن تسعیٰ وليس عليك إدراك النجاح.
والله الموفق والمستعان.

محجوب فضل بدري

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • نشأت الديهي: ملف الإيجار القديم كان مات وشبع موت والدولة اقتحمت عش المخاطر
  • الدين والسياسة والدولة.. نحو علمانية سودانية
  • هجرة الحق
  • محافظ الدقهلية يشكل لجنة هندسية مكبرة لفحص عينة عشوائية من تراخيص البناء ومراجعتها على الطبيعة بـ طلخا
  • لنقي: المرحلة المقبلة ستشهد حراكًا سياسيًا جادًا بين مجلسي النواب والدولة
  • بأي ميزان تُقاس المبادئ؟
  • سهمٌ فی كنانة رٸيس الوزراء
  • أحمد موسى: تطوير السكك الحديدية مستمر.. والدولة لا تتهاون في حماية أرواح المصريين
  • أحمد موسى: حادث الإقليمي لن يمر دون حساب والدولة لا تتهاون في حق الضحايا
  • الشبلي: الشعب الليبي لم يعُد يحتمل العبث السياسي الذي طال أمده