لجريدة عمان:
2025-05-16@17:23:49 GMT

الحـق بين الطـبـيعـة والـدولـة

تاريخ النشر: 12th, February 2025 GMT

يعرف دارسو الفـلسفة السياسيـة الحديثة أن انـتـقالها من استخـدام مفهـوم الحـق الطـبيـعي إلى استخـدام مفهوم الحـق المـدني تَـساوَقَ مع عمليـة الانـتـقال من فرضيـة حالة الطـبيـعة (= مجتمع اللادولة) إلى التـنظير لفـكرة المجتمع السياسي (= الـدولـة)؛ إذْ يـقـترن معْـنَيَـا الحـق ذيناك مع حالتـيْـن من الاجتـماع الإنساني مختلـفـتيـن وجوهـًا من الاخـتلاف في السـمات: وإنْ تـفاوتت نِسبُ ذلك الاختلاف ومقاديـرُه من فـيلسوف لآخَـر.

مع ذلك، لا يـذهب فلاسفـة السياسة المحـدثون جميعًا إلى المقابَـلة والمفاصَـلة التـقاطبـيـة بين الحـقـيْن أو، قـل، بين طـبيـعتـيْ الحـق في الحالتـيْـن؛ إذْ مال أكـثرهم إلى افـتـراض قـدْرٍ مـا من المشابَهَـة والتجانـس بين الحـق الذي تسمح بـه حالةُ الطـبيـعة والحـق الذي يُـخـوله المجتمع السياسي. ولقد كـان وراء هـذه المماهاة بينهما - خاصةً عند جون لوك وجان جاك روسو- حرصٌ على بيان أوّلـيـّةِ ما هـو طبـيـعي وحاجـةِ أيِ نظامٍ اجتماعي إلى البناء عليه. ومعنى ذلك، أيضـاً، أن الدولة عند هـذيـن الفـيلسوفين - كما عند إيـمانويـل كَـنْت وقبلـه سپـيـنـوزا- مجرد وسيلـة لإنـفاذ ما هـو خيِـر ونافـع؛ ما هـو قائـمٌ، ابـتـداءً، في الوجود الطـبيـعي. ولذلك وقع الإلحاح كثيراً على فـكرة الطـبيـعة الخيـرة للإنسان، في كتابات فـلاسفة العـقـد الاجتماعي، والتي لم يشـذ عنها سوى هوبس الذي ظل - مثـل ميكياڤـيلـلي قـبله - حريصاً على التـشديد على أثـرِ الغـرائـزيِ والحيوانيِ في السلوك الإنساني.

على أن المشابهة بين الحـق الطـبيـعي والحـق المـدني، عند فلاسفة العـقـد الاجتماعي أُولاء، تأتي من أن الحـق المـدني ليس شيئاً آخـر سوى الحـق الطـبيـعي نـفسه بعد أن أحاطـتْـهُ الـدولـة بضمانات الحماية. هـاهنا، من غير التـبـاس، تبـريرٌ فـلسفي للـدولـة ولحاجة الاجتماع الإنساني إليها. وعلـتُـه أن الحـق الطـبيـعي، وإنْ كان من منتوجات الوجود الطـبيـعي ومسـلماته وممـا يسلـم به العـقـل ويدعو إليه، ليس مضمونًا ولا مـأمونـًا في نطاق حالة الطـبيـعة، نظرًا إلى انعدام وجود وازع (= سـلطة) يَـزَعُ الناس بعـضَهم عن البعض، أي إلى انعدام وجود قوانين زجريـة رادعة تضع حـدًّا للانتهاكات وللعدوان على الحقوق، بل هـو - على العـكس من ذلك - حـقٌ قابلٌ للانتهاك في كـل حيـنٍ من الناس أنفـسِـهم الذين يدفعهم التـنازُعُ عليه إلى الانقـضاض عليه، في الوقـت عيـنِـه، ومنْـعِ الواحـد منهم من التـمتـع بـه.

هذا ما سـوغ، عنـدهم، مبـدأ الـدولـة بما هـو السبيـل إلى إعادة إخضاع الإرادات المتـنازعـة، المُـفضيـة إلى الاصطراع والتـقاتُـل، لإرادةٍ واحدة جامعة هي التي سيطلق عليها جـان جاك روسو، في ما بـعـد، اسـم الإرادة العـامـة: الإرادة المجـسَـدة في الـدولـة والقـانون.

الخوف على تبديد الحـق الطـبيـعي، إذن، هو الميكـانيـزم الـدافـع إلى إيجـاد ما يحمي ذلك الحـق؛ أي الـدافع نحو الخروج من الاجتماع الطـبيـعي وتأسيس الاجتماع السياسي.

على أن الانـتـقال من الأول إلى الثاني يفرض آليـةً سلسة تسمح بإمكانه وتـفـتح الباب أمام تصيـير الحـق الطـبيـعي حـقًـا مـدنيـًّا. سمـى فـلاسفـةُ السياسـة هذه الآلية بعمليـة نـقـل أو تحـويل Transfert لذلك الحـق إلى جهـةٍ تـتـعـهـده بالحمايـة، تـتـمثـل في جسـمٍ سياسي يعبـر عن الجماعـة ويـتـألف منها. على أن النـقـل ذاك لا يكون تخـلـيًا من النـاس عن حقوقـهم تلك وتحـويلها جميعها إلى ذلك الجسم السياسي المؤتَـمَـن عـليها، وإنـما يقع ذلك بـقـدرٍ مـن الرضا والطـوعيـة والإرادة من قِـبَـل مَـن يقـومون بتحويلـه، لعـلمهم بأنـهم لا يـقْـوَوْن على حماية حقوقهم بأنـفسهـم منـفـردين. إن عجـزهم عن الاحتـفاظ بتلك الحقوق الطـبيـعيـة في مَـأْمـنٍ لها مـن كـل تـهـديـدٍ أو خـطر هـو، بالـذات، ما يجـعـل من ذلك النـقـل فعـلاً إراديـًّا حـرًّا وطوعـيـًا لا يـأتـيـه أحـدٌ منهم بالإرغـام. بهذا المعنى يكون نـقْـلاً أو تحـويلاً وليس تخـلـياً أو تـفريطاً. بـل وُجِـدَ من فـلاسفـة العـقـد الاجتماعي مَـنِ اعتـبر ذلك النـقـل تـنازُلاً من الناس لأنفسـهـم، في حـقيقـة أمـره، وإنْ بَـدَا وكـأنـه تنـازُلٌ منهم للمجتمع السياسي.

لا خـلاف، في الفـلسفـة السياسيـة، على حاجة الجماعة الاجتماعيـة الطـبيـعيـة إلى تنازل أفـرادها عن حقـوقٍ لا يملكون الحفاظَ عليها لجسـمٍ (سياسي) وحـده يستطيـع حمايـتها؛ فعلى ذلك يجتمع قـولُ فـلاسفـة السياسة المحدَثـين، الخلافُ بينهم إنما هـو، حصـراً، على مَـن يكـون ذلك الذي يـقع التـنازل له: أَهـو الحاكـم الفـرد أم المجلس (البرلمان)؟ أي بمعنى مَـن عسـاهُ يكون ذلك الذي يجسـد الـدولـةَ والسيادة: الحاكـم أو مـمـثـلو الشـعب؟ ومع أنـه من البـيـن أن السـؤال هذا مضـطربٌ وغيرُ مطابِـق لعمـليـة الانـتـقال من الجماعة الطـبيـعيـة إلى الجماعة السياسيـة؛ بل على الرغـم من أن تناقـضًا صارخًـا يعـتـوره (إذْ كيف يجوز السؤال عن النـصاب الذي تُـنْـقَـل إليه الحقـوق - فـردًا أو مؤسـسة - فيـما الـدولـةُ نفسُـها، في منـطق السـؤال، لم تَـقُـم بعد!)؛ إلا أن الجـدلَ الفلسفي حـولَه ترجَـم حالةَ انـقـسامٍ انشـطاري، داخـل فـلسفة السـياسة، بين ذاهـبٍ إلى التـسويغ للـدولـة ولسلطـةٍ مطلـقـةٍ فيها لوجود الحاجة الماسـة إلى ذلك، وذاهـبٍ إلى تقـيـيد سلطانها وكـبح جِـماح من يتـقـلـد مسؤوليـة إدارتها، بـل إخضاع تلك السـلطـة لمراقبـةٍ صارمة تحُـول دون صـيـرورتها متسـلطة.

خلف الـدفاع عن فـكرة السلطة القـويـة الفـرديـة هـاجـسٌ يـبـرِره: الخـوف على السِـلْم مـن الحرب الداخليـة المفـتوحـة في الجماعة الطـبيـعيـة.

وهكذا، تقـضي الحاجـةُ إلى الأمـن بوجوب قيـام سلطـة رادعة من غير شروطٍ عليها من أجـل أن تضـع حـداً لحالة الطـبيـعة، بحسـبانـها حالةَ حـربٍ عامـة دائـبة (تـوماس هـوبس)؛ فيما يكـمن هاجـسٌ آخر خلف فـكرة تـقـيـيـد تسـلـطيـة الـدولـة: حماية الحقـوق الطـبيـعيـة (جـون لوك). تـقضي هـذه الحماية بانـفـصال المجتمع السياسي، انـفـصالاً كـلـيـاً، عـن المجتمع الطـبيـعي والقطْع مع ما كان سـيـئًا فيه خاصـةً العـنف. هكـذا نظـر دعاة المـوقـف الثاني إلى النـظام الفـردي بوصفه استمرارًا لحالة الطـبيـعة يتـوجـب القـطع معـه لكي تـتكـون الـدولـة ويستـتـب لـها الأمــر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما هـو

إقرأ أيضاً:

بريطانيا: دعوى قضائية ضد حكومة ستارمر بسبب بيعها مكونات طائرة أف 35 إلى إسرائيل

تسعى مؤسسة "الحق" الفلسطينية إلى وضع حد لصادرات الحكومة من مكونات مصنوعة في بريطانيا لطائرات أف 35 المقاتلة. هذه المنظمة ومنظمات أخرى استأنفت دعوى قضائية بهذا الشأن، وتدعمهم منظمتا العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش". فهل ستنجح الدعوى؟ اعلان

بدأت المحكمة العليا في بريطانيا، يوم الثلاثاء، النظر في التماسٍ تقدّمت به مجموعات حقوقيّة ومنظمّات غير حكومية، للمطالبة بوقف تصدير بريطانيا قطع غيار لطائرات حربية من طراز أف 35 إلى إسرائيل.

وتقدمّت هذه المنظمات بالدعوى، بعد رد القضاء دعواها ضد الحكومة البريطانية، بتهمة انتهاك القانون الدولي عبر تزويد إسرائيل بقطع غيار للطائرات مقاتلة، في ظلّ استمرار الحرب في قطاع غزة.

وتبذل مؤسسة "الحق" الفلسطينيّة جهودًا للحدّ من ذلك، وتجمّع نحو 50 متظاهراً داعمًا للدعوى القضائية أمام المحكمة قبيل الجلسة وطالبوا بوقف تسليح إسرائيل و"وقف الإبادة."

المدير العام لمؤسسة الحق شعوان جبارين قال إن "المملكة المتحدة ليست متفرجة. إنها متواطئة، ويجب مواجهة هذا التواطؤ وكشفه ومحاسبته".

Relatedأوكسفام: غزة على شفا مجاعة وأطفال ينهكهم الجوع حتى البكاءنتنياهو عن تهجير سكان غزة: 50% من سكان القطاع سيغادرون والعقبة الوحيدة عدم وجود دول تستقبلهماليونيسف: الحرب دمرت 65 إلى 70% من نظام المياه في غزة والناس تصارع من أجل قطرة ماءبسبب حرب غزة.. إيرلندا تدعو لمراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل

وبينما استخدمت إسرائيل هذه الطائرات الحربية الأميركية في قطاع غزة ولبنان واليمن، في غاراتها المدمرة للبنية التحتية والمباني، فإنّ جزءا أساسيًّا من قطع غيارها تتم صناعته في بريطانيا، مثل مسبار التزود بالوقود، وأنظمة الاستهداف بالليزر، والإطارات، والجسم الخلفي، ونظام دفع المروحة، وقاعدة القذف.

وتستند مؤسسة "الحق" في دعواها على عدم إمكانية طائرة أف 35 مواصلة التحليق من دون استمرارإمدادها بالقطع التي يتم تصنيعها في بريطانيا.

ومن المرتقب أن تتواصل الجلسات 4 أيام في المحكمة العليا ضمن المرحلة الأخيرة من هذه القضية.

وتتهم المنظمات الحقوقية بريطانيا بالسماح بتصدير مكونات أف 35 "رغم معرفتها بوجود مؤشرات واضحة على استخدامها في أنشطة تتضمّن انتهاكًا للقانون الدولي".

هذه القضية ليست جديدة إذ تم رفعها بعد وقت قصير من نهاية عام 2023، حين قررت المملكة المتحدة مواصلة بيع الأسلحة لإسرائيل، في فترة امتدت حتى أيلول سبتمبر 2024.

وكانت الحكومة الجديدة قد علّقت 30 ترخيصا لبيع الأسلحةلإسرائيل، بعد مراجعة معدل امتثالها للقانون الدولي، من دون أن يشمل الحظر قطع غيار طائرة أف 35.

ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن متحدث باسم الحكومة البريطانية أنّه "ليس ممكنًا تعليق تراخيص بيع مكونات أف 35 من دون أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بالبرنامج العالمي لهذه الطائرات".

ولفت المصدر إلى أن لهذه الطائرة دورا بارزا في حلف شمال الأطلسي، وتعليق بيع مكوناتها "ستكون له تداعيات على السلام والأمن الدوليين".

وبحسب مؤسسة "الحق" وشبكة الإجراءات القانونية العالمية "جلان"، يمكن للحكومة البريطانية منع وصول قطع الغيار إلى إسرائيل، وتدعوان الحكومة إلى "اتباع القوانين المحلية".

اعلان

ويقول المنتقدون إنه رغم إصدار الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، كان من الواجب على بريطانيا، بحكم القانونين الدولي والداخلي، وقف بيع الأسلحة لأي دولة تنتهك القانون الدولي الإنساني. لكنّ ما جرى هو أنّ السلطات البريطانية أوجدت استثناءً يسمح بتوريد مكونات أف 35 إلى إسرائيل.

"الحكومة البريطانية انتهكت بشكل صريح قوانينها المحلية من أجل الاستمرار في تزويد إسرائيل بالسلاح"، قالت شارلوت أندروز- بريسكو، المحامية في الشبكة القانونية، الأسبوع الماضي، وأكّدت استخدام إسرائيل طائرات أف 35 في "إلقاء قنابلتزن عدة أطنان على سكان غزة".

وحذّر نواب بريطانيون رئيس الحكومة كير ستارمر الأسبوع الماضي، من أنه قد يكون رئيس الوزراء الذي "سيشهد محاسبة بريطانيا في لاهاي بتهمة التواطؤ في جرائم حرب" في غزة، بعد إعلان إسرائيل خططا جديدة لمواصلة الحرب على القطاع.

انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة

مقالات مشابهة

  • تشكيل مودرن سبورت أمام الإسماعيلي بالدوري
  • إلهام شاهين تخطف الأنظار في أجواء الطبيعة بـ لبنان
  • أعقاب السجائر تهدد دورة الطبيعة.. سم يلوث النباتات ويقتل الحشرات
  • تـضـــامن مــع ثـــورة النـــسـوان
  • الحق راجع .. تعليق ناري لـ بيراميدز قبل قرار لجنة الاستئناف بشأن القمة
  • نائب: ذكرى النكبة تفضح زيف الاحتلال وتؤكد أن الحق لا يسقط بالتقادم
  • غياب السلامة المرورية... الحقّ ليس فقط على الدولة!
  • الحق نفسك.. آخر موعد لصرف الـ500 جنيه الإضافية على بطاقة التموين
  • بنك الإسكان يجدد رعايته الماسية للجمعية العربية لحماية الطبيعة للعام الخامس على التوالي
  • بريطانيا: دعوى قضائية ضد حكومة ستارمر بسبب بيعها مكونات طائرة أف 35 إلى إسرائيل