جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-19@22:16:25 GMT

نقاش في المجلس

تاريخ النشر: 15th, February 2025 GMT

نقاش في المجلس

 

 

 

محمد بن سالم البطاشي

 

بعد أن تناول القهوة العمانية (الفوالة) قال ضيفي أردت أن أسألك عن رأيك في مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القاضي بتهجير سكان غزة والضفة الغربية إلى دول الجوار ودول أخرى؟

التفت إليه لأجده جادا في سؤاله غاية الجد متفرسًا في وجهي ليستشف ملامح الجواب، وتهيئة مني لما سأشرح تاليًا، اختصرت الجواب في جملة قصيرة، فقلت له إنها "زوبعة في فنجان"، فإذا بلسان الرجل تنعقد دهشة لما سمع، وارتفع حاجباه واتسعت عيناه وفغر فمه وتسارعت أنفاسه، فأردت أن أنقله من تلك اللحظة إلى سعة التوضيح والشرح، فبادرته قائلا إن هذا الاقتراح ليس له مكان من الإعراب على الواقع؛ ذلك أن غزة والضفة العربية أرض لا تباع ولا تشترى إلا بأرض من الجنة وليس لها ثمن آخر.

أما مزايدات المقاولين والمطورين العقاريين فلا محل لها هنا، وأن ما لم يستطيع العدو تحقيقه بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتدمير الشامل والتطهير العرقي والفصل العنصري لن يستطيع الرئيس ترامب تحقيقه بالإغراء والتهديد والدسيسة والكذب والمكر والخداع فغزة والضفة باقيتان رغم أنف الجميع.

هنا استجمع ضيفي مداركه وما تبقى لديه من قناعة وقال في حزم إنها أمريكا بجلالة قدرها، وأنه رئيس أمريكا أكبر قوة في العالم فأمره نافذ وطلباته أوامر.

قلت له أعلم ذلك، لكن طلبه لن يتحقق في كل من غزة والضفة، فقد تعلمنا أن الشعب الفلسطيني لا يعترف بالمستحيل وستفشل كل هذه الخطط والرئيس دونالد ترامب يعلم هذا علم اليقين، لكن وراء الأكمَّة ما ورائها فهناك أهداف وغايات أخرى من وراء هذه التصريحات غير تهجير سكان غزة والضفة لتتمدد إسرائيل بالإثم والعدوان وتحقيق أحلام ترامب، هنا اعتدل ضيفي وعاودته الدهشة مجددًا وكأني قد ألقيت للتو بمفاجأة من العيار الثقيل فقال ماذا تعني وما الذي تريد قوله؟

فابتسمت ابتسامة خفيفة واستويت في جلستي، وقلت له يا عزيزي إن الرئيس ترامب قد طالب بأمور كثيرة بخلاف قطاع غزة والضفة الغربية منها أن تتنازل الدنمارك عن غرينلاند وضم كندا بأكملها والاستيلاء على قناة بنما والمطالبة بأراض شاسعة في المكسيك، وغيرها من المطالب المستحيلة، فهي إما من أضغاث الأحلام أو تخفي وراءها أهدافا أخرى؛ فالرئيس ترامب ليس رجلًا غبيًا؛ بل هو رجل أعمال ناجح وملياردير معروف بضخامة ثروته، وكما يقال فإن رأس المال جبان ويحب الدفء والهدوء والأمان، وعلى ذلك فليس من المعقول أن يكون الرئيس ترامب جادا في طرحه هذا، ليس لأسباب أخلاقية أو إنسانية أو شرعية أو مراعاة لمواثيق ومعاهدات دولية فذاك شعور ومسؤولية لا يعترف بها من كان همه تكديس المال وطبعه التعالي والاستكبار، ولكن العوامل المادية والوقائع على الأرض تجعل من هذا المقترح مستحيلا فكيف يأمن ويطمئن الرئيس ترامب على استثماراته ومشاريعه في بيئة تغلي بعوامل العداء وحب الانتقام والثأر والشعور بالظلم والقهر والخذلان الذي يتأجج في صدور الفلسطينيين، ناهيك عن الشعوب العربية؟ فهذا الجو المسموم لا يستقيم أو يتوافق البتة مع أبسط مبادئ الاستثمار.

وقبل أن أتمم الجملة بادرني الضيف قائلا: إنه يريد تهجير سكان غزة كلهم خارج القطاع ليأمن انتقامهم ومقاومتهم، فقلت له وهذه معضلة كبرى تجعل من أفكار الرئيس ترامب كسراب في قيعة.

هنا اشتدت الحيرة بصاحبي، فقال بلسان مُتحيِّر إذن فما هو هدف هذه التصريحات وما تفسيرك لنشوة كبار مسؤولي الكيان؟

فقلت له إن هذا المقترح ليس جديدًا كليًا وله سوابق تاريخية؛ فمثلًا نشرت إحدى الصحف قبل نحو 55 عامًا خبرًا بالخط العريض عام 1970م، نصه: "بدء تفريغ قطاع غزة من السكان". يومئذ لم يكن عدد سكان القطاع يتجاوز مائتي ألف نسمة، وقد فشل هذا المخطط فشلا كاملا، أما اليوم فعدد سكان غزة يتجاوز 2.3 مليون نسمة فهل سينجح هذه المرة؟ والجواب بالطبع لا، فالرفض والاستنكار الدولي من حلفاء أمريكا الأقربين واضح وجلي؛ بل وعنيف، أما الاعتراض القاطع والاستنكار والاستهجان العربي؛ فهو كالشمس في رابعة النهار. أما الرفض الفلسطيني البات والقاطع فمعلوم للقاصي والداني، هذا بالإضافة إلى الكلفة المالية الخيالية وكيفية إدارة هذه العملية التي ستتطلب وقتا طويلا وترتيبات ضخمة وجهودا دولية لا سابقة لها، بحيث لن تستطيع إدارة ترامب في فترة رئاستها الأخيرة إنجازها، مما يجعلها أكثر استحالة.

لكن أغلب الظن أن الرئيس ترامب أطلق هذا المقترح لغايات في نفسه، تتمثل إحداها في رفع أسهم شركاته العقارية في السوق الدولية ولحرف الأنظار عن التغيرات الإدارية والاستراتيجية في الحكومة الأمريكية وبيعه للمصالح الحكومية للشركات الخاصة؛ فحسب صحيفة الجاديان الصادرة بتاريخ 8/12/2024، فإن حكومة الرئيس ترامب تضم عددا من المليارديرات مثل إيلون ماسك وفيفيك راماسوامي، اللذين يتوليان الآن مناصب كبرى ويقودان هذه التغيرات الجذرية في الإدارة الأمريكية وما تعكسه هذه التغيرات العميقة على مستقبل أمريكا كقوة كبرى.

وفي اعتقادي أن هذا من بين الغايات التي يسعى إليها الرئيس ترامب؛ فهو يريد أن يحرف بوصلة الإعلام إلى قضايا خيالية ويستنزف طاقاته في نقاشات حامية وعقيمة، بعيدا عن هذه التغيرات وما قد تحدثه على معيشة الشعب الأمريكي. أما الغاية الثالثة فلربما تتعلق بالوفاء بالتزاماته تجاه اللوبي الصهيوني والمانحين الصهاينة الذين اشترطوا عليه الاعتراف بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل مقابل دعمهم للحملة الانتخابية للرئيس، كما فعل واعترف بالقدس عاصمة للكيان مقابل 37 مليون دولار منحها الملياردير الراحل شيلدون أديلسون في حملة الرئيس ترامب للفترة الأولى، وتواصل أرملته المتطرفة مريم أدلسون السير على نهج زوجها؛ حيث منحت حملت ترامب مبلغ 100 مليون دولار مقابل اعتراف الرئيس بضم الكيان الصهيوني للضفة الغربية، أما الهدف الثالث لمقترح الرئيس ترامب فهو ابتزاز الدول العربية وسرقة ثرواتها ومقدرات شعوبها فهو يرفع سقف مقترحاته عاليا ليقبض أكثر في مقابل أن يتنازل عن مخططه الكارثي.

كان ضيفي يستمع إليَّ والجدية بادية عليه، ويبدو أنه قد اتفق معي في هذا التشخيص وأكد ذلك بقوله إن السياسة هي فن الممكن ويبدو أن الممكن هذه الأيام هو جمع المال بأي وسيلة والاستحواذ على المؤسسات الحكومية وخصخصتها بالرغم مما يستجلبه ذلك من تعميق التفاوت الاجتماعي وانحراف القرار الحكومي إلى طبقة الأثرياء وتقليص صلاحيات السلطة التنفيذية والتسريح الوظيفي وتفشي عدم الشفافية وفقدان السيطرة الحكومية على الموارد الأساسية وتفشي الفساد وغير ذلك من الكوارث.

وقد لمحت على وجه ضيفي شيئًا من الإحراج لطول الوقت الذي يظن أنه قد استقطعه مني، فبادرته بأن لا يهتم لذلك مُطلقًا، فمثل هذه النقاشات لا تُمَل ولا ينبغي أن تُفوَّت لما تحمله في طياتها من تثقيف وتعزيز الوعي بالقضايا العامة وتحفيز التفكير النقدي وتعزيز المشاركة المجتمعية في قضايا الوطن المختلفة وقضايا الأمة بأسرها باعتبار المصير المشترك الذي يجمعها.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

قراءة في زيارة الرئيس الأمريكي للخليج

 

 

د. أحمد بن علي العمري

 

زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دول مجلس التعاون الخليجي؛ حيث بدأ زيارته بالمملكة العربية السعودية في أول رحلة خارجية له منذ توليه الرئاسة في فترته الثانية.

وخلال هذه الزيارة، اجتمع بقادة دول المجلس في القمة الخليجية الأمريكية، لكن لم يُذكر اسم غزة الملتهبة إلا في كلمة سلطنة عُمان، ولم تتم الإشارة، ولو بإيجاز، إلى المبادرة العربية المطروحة على الطاولة منذ عقود، والتي تبناها الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله-. حتى خلال القمة العربية الـ34 في بغداد، لم يرد أي ذكر لهذه المبادرة، وكأنها أصبحت طيّ النسيان، شيئًا من الماضي مع "كان" وأخواتها.

ثم انتقل ترامب إلى دولة قطر، ليختتم زيارته للمنطقة في دولة الإمارات العربية المتحدة. لقد كنا نأمل ونتطلع إلى أن يعترف بالدولة الفلسطينية، كما اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل خلال فترته الأولى، ولكن ذلك لم يحدث. وكنَّا نرجو أن يضع حدًا للحرب الجائرة والظالمة على غزة، ويفك حصارها المخجل، وينقذ ما يمكن إنقاذه، خاصة أنه كان يلوّح بالسلام منذ خطاب تنصيبه، ولكن هذا أيضًا لم يتحقق.

لقد قدم ترامب غصن الزيتون للجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكنه لم يقدمه لغزة أو فلسطين أو للعرب، حتى ولو غصن زعتر. صحيحٌ أنه لم يزر إسرائيل كما جرت العادة في فترته الأولى ومع جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين، وصحيحٌ أنه أكد بأنه سيرفع العقوبات عن سوريا بجهد متميز من صاحب السمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وله كل الشكر والتقدير. هذا خبر يثلج الصدر، لكننا نأمل ألا يكون ذلك مقدمةً لاتفاقيات تجر سوريا إلى الاتفاقية الإبراهيمية، كما يحلو له تسميتها، والتي قد تنتهي بالتنازل عن الجولان وضمها لإسرائيل، فيحدث ما لا يُحمد عقباه بعد هذا العناء الطويل.

إن الرجل يفكر بعقلية التاجر، وهي مهنته التي تجري في شرايينه؛ فهو يحسب الأمور بدقةٍ متناهية وبأرقامٍ ثابتةٍ لا شك فيها. لربما فكّر أن إسرائيل تستنزف منَّا المليارات، بينما نحن من يدعمها دائمًا، حتى في حروبها المستمرة التي لا تهدأ. في المقابل، العرب يُقدمون التريليونات، ونحن المستفيدون. وصحيحٌ أن ترامب أبدى تعاطفًا ملحوظًا مع العرب، وأشاد كثيرًا بقادة الدول التي زارها، وصرّح بأنَّ زيارته للمنطقة تاريخيةٌ وممتازة؛ بل وتحدث عن الحضارة العربية ومكنونها، وأبدى انبهاره وإعجابه بها بشكلٍ ملفت.

وصحيحٌ أنه أعاد تركيز الولايات المتحدة على المنطقة بعد فترةٍ من التراجع، حيث قال: "أمريكا غابت عن الشرق، ولكننا سنعوض ذلك"، وهذا يُحسب من مكاسب الزيارة. لقد حصل الرجل على التريليونات المُذهّبة، وباشر هوايته المفضلة في عقد الصفقات، فأبرم العديد من الاتفاقيات في مختلف المجالات الدفاعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، وعاد بسلةٍ مليئةٍ بالأموال وبما لذَّ وطاب، ناهيك عن الهدايا المجزية التي فاقت كل التوقعات وتجاوزت حدود الخيال.

والآن، بعد مُغادرته المنطقة وعودة الفكرة بعد زوال النشوة، لو حكمنا عقولنا، ألا يتضح لنا بعض الاندفاع المغلّف بالحماس والعاطفة؟ ألا يبدو أننا وضعنا بيضنا في سلة واحدة؟ أليس من الأفضل لو أبقينا بعض البيض للصين وروسيا، فقد نحتاج إليهما يومًا ما إن دعت الحاجة؟

إنَّ الرئيس الأمريكي يتغير كل أربعة أعوام، وقد يأتي من يقلب الطاولة رأسًا على عقب. لقد علمتنا الأيام والتجارب أن أمريكا، عند بوادر أي خلاف، تتجه مباشرةً إلى تجميد الأصول وحجز الأموال، كما حدث مع العديد من الدول من قبل، أبرزها ليبيا وإيران والصين وروسيا. فهل ستتردد في الحجز على أموالنا إن تطلب الأمر؟ بإمكانها اختلاق الأعذار، وما أسهل ذلك عليها.

فهل تسرّعنا بالاندفاع تحت وطأة النشوة والحماس والعاطفة؟ وهل استجبنا لعواطفنا على حساب عقولنا؟

ربنا يحفظ ويستر، ولله في خلقه شؤون.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • قراءة في زيارة الرئيس الأمريكي للخليج
  • فلسطين تطالب بتدخل دولي عاجل لوقف العدوان على غزة والضفة
  • المجلس الأوروبي: عقوبات جديدة ضد روسيا إذا لم توقف العدوان على أوكرانيا
  • رباب ممتاز: تم استبعادي من إحدى المسلسلات دون نقاش بسبب الأجر
  • ترامب يضغط لخفض الفائدة.. وانتقاد لاذع لرئيس الاحتياطي الاتحادي
  • أمين مجلس التعاون: ما يجري في غزة والضفة اقتلاع شعب من جذوره
  • «البديوي»: ما يجري في غزة والضفة سياسة ممنهجة لاقتلاع شعبٍ من جذوره وفرض واقع استعماري جديد
  • الرئيس التنفيذي للمتحف المصرى الكبير: فيلم على البر وجد حلول مناسبة للهجرة غير الشرعية
  • غينيا تعتقل أمين عام حزب الرئيس السابق ألفا كوندي
  • رئيس وزراء إسبانيا: ما يحدث في غزة والضفة الغربية لا يمكن غض الطرف عنه