النظام التجاري العالمي في حاجة إلى إنقاذ عاجل
تاريخ النشر: 17th, February 2025 GMT
لم يسحب الرئيس دونالد ترامب رسميا بعد الولاياتِ المتحدة من منظمة التجارة العالمية. لكنه يبتعد عن قواعد ومعايير المنظمة بعدما فرض وطبّق رسوما جمركية على الصين وكاد أن يفعل ذلك مع كندا والمكسيك.
لدى باقي العالم مصلحة قوية في الحفاظ على النظام التجاري العالمي حتى إذا اختارت الولايات المتحدة عمليا الخروج منه.
لم يترك ترامب أي شك أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة بأنه يعتبر الرسوم الجمركية أداة مرغوبة في السياستين الاقتصادية والخارجية. رغم ذلك كان قراره صادما في 1 فبراير بفرض رسوم جمركية تتراوح بين 10% إلى 25% ضد المكسيك وكندا والصين. فتجارة هذه البلدان الثلاثة تزيد عن 40% من إجمالي تجارة الولايات المتحدة في السلع.
رُبطَت هذه الخطوة بمطالب غامضة. ولم تسبقها أية محاولة جادة للتفاوض، كما لم تميز بين الحلفاء القريبين والمنافسين الاستراتيجيين أو بين البلدان التي ترتبط باتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة وتلك التي ليست كذلك. إلى ذلك، استُخدم لتبرير هذا القرار مبدأٌ قانوني داخلي غير قاطع ومن المستبعد جدا أن يكون القرار قد تقيد بالتزامات الولايات المتحدة بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية.
يعتبر الرئيس ترامب الرسومَ الجمركية أداة متعددة الأغراض. لقد هدد باستخدامها لجعل الحلفاء ينفقون المزيد على احتياجاتهم الدفاعية وإجبار البلدان على الاحتفاظ بالدولارات الأمريكية كأصل احتياطي والتراجع عن الضرائب التي تفرضها على شركات التقنية الأمريكية الكبيرة أو حتى فرض التنازل عن أراضٍ للولايات المتحدة سواء قناة بنما أو جزيرة جرينلاند.
حدّد ترامب أيضا الاتحاد الأوروبي كهدف لفرض رسوم جمركية في المستقبل بسبب حجم العجز في التجارة الثنائية بينه وبين والولايات المتحدة. ومؤخرا أعلن عن رسم جمركي بنسبة 25%على كل واردات الصلب والألمونيوم القادمة للولايات المتحدة، كما أضعف القواعد الحاكمة للتجارة والاستثمار الدوليين بإعلانه أن وزارة العدل الأمريكية ستكُفُّ عن تطبيق قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة. وهذه ربما مجرد البداية.
استراتيجية ترامب أبعد من أن تكون واضحة. فهو يبدو سعيدا بأن يرى ارتفاعا دائما في متوسط الرسوم الجمركية الأمريكية على السلع من 2.7% إلى 15% أو 20%. وهو يحاجج بأن ذلك سيفيد اقتصاد الولايات المتحدة بزيادة الإيرادات الجمركية المتحصلة من الأجانب مما سيسمح بدوره في إجراء تخفيضات في الضرائب المحلية، كما يزعم أيضا أنه سيشجع على المزيد من الاستثمار (وبالتالي إيجاد المزيد من الوظائف) في الولايات المتحدة وخفض العجز التجاري الأمريكي.
من الممكن أن تبلغ الحصيلة الإضافية من الرسوم الجمركية مئات البلايين من الدولارات سنويا، لكن سيقع العبء في معظمه على المستهلكين والشركات في الولايات المتحدة. ومن المستبعد أن تُحدِث الرسوم تغييرا مهما في الموقف المالي للحكومة الأمريكية نظرا إلى أن الحزب الجمهوري يفكر في إجراءات تحفيزية تقارب تكلفتها خمسة تريليونات دولار تراكميا. كما قد تتراجع حصيلتها بمرور الوقت مع حصول الشركاء التجاريين للولايات المتحدة على أسواق تصدير بديلة.
قد تحفز الرسوم على بعض الاستثمارات الإضافية في الولايات المتحدة. لكن ربما يحدُّ منها تصور يتعزّز بأن الولايات المتحدة حلقة لا يمكن الاعتماد عليها في سلسلة التوريد العالمية. أيضا ارتفاعُ أسعار الفائدة المحلية مع محاولة البنك المركزي الأمريكي خفض الأثر التضخمي للرسوم الجمركية يمكن أن يعرقل الاستثمار.
لا يعتبر آخرُ تحليلٍ لصندوق النقد الدولي المستوى العام للعجز الأمريكي أمرا إشكاليا سواء للولايات المتحدة أو البلدان الأخرى. في الأثناء، تركيز ترامب على القضاء على العجوزات التجارية الثنائية مع كل بلد على حدة سيزيد التشوهات ومواضع الضعف في اقتصاد الولايات المتحدة.
من الممكن أن تكون أهداف ترامب في المقام الأول سياسية وليست اقتصادية. لكن من المستبعد أن تكون ترتيبات الدفاع المشترك التي ترتكز على الإكراه الاقتصادي فعالة أو مستدامة. (الإكراه الاقتصادي هنا يعني اتخاذ إجراءات اقتصادية ضد دولة ما لإجبارها على تغيير سياساتها- المترجم). إلى ذلك، مطالب ترامب الاقتصادية متطرفة بحيث من غير المتصوَّر أن يكون أي قدر من الضغوط السياسية فعالا في تحقيقها.
حتى الآن البلدان التي استهدفتها رسوم الولايات المتحدة أعلنت بسرعة أنها تنوي الرد عليها فيما أشارت أيضا إلى استعدادها للتفاوض. وفي حالتي كندا والمكسيك ساهمت تعهداتهما المعلنة بتعزيز أمن الحدود في تأجيلها لمدة شهر. وأشار الاتحاد الأوروبي على نحو مماثل إلى أنه سيرد على أية رسوم أمريكية جديدة بإجراءات مضادة بما في ذلك استخدام «أداة الإكراه الاقتصادي الجديدة» الخاصة به لاستهداف صناعة التقنية الأمريكية. كما أشار في نفس الوقت إلى استعداده للتفاوض.
من المفهوم أن يكون هنالك إجراء انتقامي من البلدان المستهدفة على الرغم من احتمال تعرضها إلى ضرر اقتصادي إضافي في الأجل القصير. ذلك لأنها تدرك أن عدم ردها على الرسوم سيشجع في الغالب الرئيس ترامب على تقديم المزيد من المطالب.
وقد يرى بعض واضعي السياسات أيضا فرصة للجمع بين الرد الانتقامي والسعي وراء أهداف أخرى، ففرض الاتحاد الأوروبي رسوما جمركية على صناعة التقنية الأمريكية يتَّسِق مع رغبته في الحدِّ من النفوذ الاحتكاري لشركات التقنية الأمريكية الكبرى والتشجيع على نمو شركات تقنية في بلدان الاتحاد.
هنالك قدر كبير من الإحباط إزاء منظمة التجارة العالمية. بعض هذا الإحباط متعلق مباشرة بتصرفات الولايات المتحدة مثل تعليق «نظام تسوية النزاعات» والاتساع المستمر لنطاق «استثناء الأمن الوطني». (عطلت الولايات المتحدة عمليا آلية حل النزاعات في المنظمة من خلال الحيلولة دون تعيين قضاة جدد لهيئة الاستئناف منذ عام 2019. ترتب عن ذلك تجميد تسوية النزاعات ضد الولايات المتحدة عند مرحلتها الأولى مثل تجاهل واشنطن الحكم بعدم قانونية فرض الولايات المتحدة رسوما جمركية على واردات الصلب والألمونيوم، كما تتوسع الولايات المتحدة في استخدام بند استثناء الأمن الوطني في اتفاقية الجات لتبرير فرض قيود تجارية مثل الحد من تصدير أشباه الموصلات للصين – المترجم.)
هنالك مصادر إحباط أخرى أقدم كثيرا بما في ذلك العجز عن معالجة موضوع الدعومات الحكومية الصينية غير العادلة أو إيجاد سبل لتحديث القواعد والمعايير والذي يأخذ بعين الاعتبار سرعة الابتكار التقني والانتقال إلى الطاقة المتجددة.
على أية حال الأغلبية الغالبة من أعضاء منظمة التجارة العالمية سترغب في الحفاظ على النظام المرتكز على قواعد بدلا عن التخلي عنه. لكن ذلك سيحتاج إلى ما هو أكثر من التجاهل الحميد.
لا ترتبط حوالي 80% من التجارة العالمية في السلع بالولايات المتحدة مباشرة. وهي لم تعد أكبر شريك تجاري لبلدان عديدة. لكن دور الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي يظل محوريا. وبالتالي من المطلوب وبسرعة تبني استراتيجية استباقية بقدر أكبر.
ذلك يتطلب ثلاث خطوات ابتدائية. أولا، على التكتلات التجارية غير الأمريكية الثلاث (الاتحاد الأوروبي والاتفاقية الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادي والصين) إصدار بيان جماعي يؤكد دعمها لمنظمة التجارة العالمية والتزامها بمبادئها.
ثانيا، تحتاج نفس المجموعة إلى دراسة وفهم عواقب استراتيجية الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على استقرار منظمة التجارة العالمية. وإذا كان هنالك احتمال بأن تقود إلى موجة من الزيادات في الرسوم الجمركية وسط أعضاء المنظمة الآخرين يجب معالجة ذلك.
ثالثا، مطلوب استراتيجية عالمية منسقة لدعم وتنشيط منظمة التجارة العالمية ومعايير التجارة الدولية الأخرى التي تهددها تصرفات الولايات المتحدة.
قد يرجئ الرئيس ترامب الانسحاب من المنظمة جزئيا لعرقلة مثل هذا التعاون. لكن مع ذلك البلدان الأخرى بحاجة إلى التحرك. لذلك قد يتطلب الإصلاح تطوير هياكل موازية وشاملة واتفاقيات طوعية لتعزيز الاتفاقيات الرسمية لمنظمة التجارة العالمية. وفي الواقع يجري استكشاف ذلك في مجال تسوية النزاعات.
الاتحاد الأوروبي في وضع أفضل لقيادة هذا المجهود نظرا إلى سجله في دعم التجارة الدولية وحجمه ومكانته كثاني أكبر مصدِّر في العالم بعد الصين. أيضا خلافا للصين لم يلجأ الاتحاد (حتى الآن) للإكراه الاقتصادي مما يمنحه المزيد من الصلاحية للدفاع عن النظام التجاري العالمي الذي تهدد رسومُ ترامب الجمركية بتفكيكه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: منظمة التجارة العالمیة التقنیة الأمریکیة الولایات المتحدة للولایات المتحدة الاتحاد الأوروبی الرسوم الجمرکیة المزید من
إقرأ أيضاً:
فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
تكشف العديد من استطلاعات الرأي حول العالم تراجعاً في صورة الولايات المتحدة الأمريكية منذ الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، واستمرت أزمة القوة الناعمة الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية. وبالتزامن مع ذلك، باتت الصين تتطلع إلى أداء دور أكثر نشاطاً على الساحة الدولية، مدركة بشكل أكبر أن صورتها الذهنية تصنع فارقاً، وعلى نحو جعل عالِم العلاقات الدولية الراحل، جوزيف ناي، يحذر، في مستهل عام 2025، من أن “الصين على أهبة الاستعداد لملء الفراغ الذي خلفته سياسات الرئيس ترامب”. وفي هذا الإطار، تُثار تساؤلات من قبيل: هل تملك الصين مقومات حقيقية للقوة الناعمة؟ وهل تستطيع الاستفادة من التراجع النسبي الأمريكي في هذا المجال؟
ترامب وتراجع القوة الناعمة:
قدّم جوزيف ناي، في عام 1990، مفهوم القوة الناعمة للدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية، معرفاً إياها بأنها “قدرة الدولة على جعل الآخرين يريدون ما تريده”؛ ومن ثم فهي القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين، وتنبني بصورة رئيسية على جاذبية الأفكار والممارسات، بخلاف القوة الصلبة أو الخشنة التي تتضمن “إصدار الأوامر” وتستند بالأساس إلى الإكراه العسكري والحوافز الاقتصادية. واعتبر ناي أن الثقافة والقيم السياسية الليبرالية والسياسة الخارجية هي المرتكزات الرئيسية للقوة الناعمة الأمريكية، وقدم المفهوم باعتباره أساساً لرسم سياسة أمريكية أكثر فعالية. وفي العقود اللاحقة، ذاع مصطلح القوة الناعمة وارتبط بجهود الدبلوماسية العامة وبناء السمعة الدولية.
وقد حاولت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تحقيق القيادة العالمية بالاستثمار في أرصدة القوة الناعمة، مع الاعتماد على الجاذبية والإقناع. ويمكن عزو القوة الناعمة الأمريكية خلال تلك الحقبة، بدرجة رئيسية، إلى تجسيد الولايات المتحدة للقيم الليبرالية، وحيوية مؤسساتها الديمقراطية، فضلاً عن النموذج الأمريكي الناجح المتمثل في مجتمع منفتح يستوعب مختلف الإثنيات.
وتبنى الرئيس ترامب، سواء في ولايته الأولى أم الثانية، سياسات أدت إلى تراجع القوة الناعمة الأمريكية، ومنها الآتي:
1- التشكيك في القيم الديمقراطية: تبنى الرئيس ترامب خطاباً سياسياً يشوه المؤسسات الإعلامية، ويقوض الثقة في الانتخابات الأمريكية مثلما حدث في عام 2020؛ مما نال بالسلب من صورة الولايات المتحدة كبلد يجسد تقاليد راسخة للانتقال السلمي للسلطة. وبعد تنصيبه رئيساً للمرة الثانية في يناير 2025، استمر ترامب في انتهاج السياسات ذاتها التي تنعكس سلباً على مصداقية الولايات المتحدة وقيمها الليبرالية؛ وهو ما ظهر مثلاً في التضييق على الحريات الأكاديمية والدخول في صدام مع بعض الجامعات الأمريكية.
2- تراجع واشنطن عن التزاماتها الدولية: بدت الولايات المتحدة كحليف دولي غير موثوق به، عبر تشكيك ترامب في جدوى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والهجوم على حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية ومطالبتهما بدفع مقابل أكبر للحماية الأمريكية، فضلاً عن الانسحاب من منظمة الصحة العالمية خلال ذروة انتشار وباء كورونا.
وفي ولايته الرئاسية الثانية، أعلن ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بالرغم من تهديدات التغير المناخي، وكذلك الانسحاب من منظمة اليونسكو، فضلاً عن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). كما أطلق ترامب تصريحات غير ودية تجاه حلفاء تقليديين مثل الدنمارك وكندا، وأيقظ المخاوف في أمريكا اللاتينية عبر تهديد بنما ثم فنزويلا. كذلك أدى إفراط ترامب في سياسات الحمائية التجارية إلى جعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها شريك اقتصادي غير موثوق به.
وللتدليل على الضرر الذي ألحقته سياسات الرئيس ترامب بالقوة الناعمة الأمريكية، وجد استطلاع للرأي أجراه مركز (YouGov) في فبراير 2025 أن شعبية الولايات المتحدة قد انخفضت في سبع دول أوروبية هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والدنمارك والسويد وإسبانيا وإيطاليا بنحو 8% منذ نوفمبر 2024 لتصل إلى 34%. وفي استطلاع رأي آخر أجرته (Le Grand Continent) في مارس 2025، كان ترامب ثاني قائد يحظى بأقل قدر من الثقة بين 13 قائداً سياسياً، بعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما رأى 70% من المبحوثين أنه يجب على أوروبا الاعتماد على قوتها الذاتية لضمان أمنها، مع تراجع نسبة من يثقون بمصداقية الولايات المتحدة كشريك قادر على الدفاع عن أوروبا إلى 10% فقط.
ركائز القوة الناعمة الصينية:
ظهر مصطلح القوة الناعمة لأول مرة في الصين في الخطاب السياسي الرسمي عام 2007، حين تحدث الرئيس السابق، هو جنتاو، في المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي، عن أهمية تعزيز القوة الثقافية الناعمة للصين. ويعمد الرئيس الحالي، شي جين بينغ، إلى التشديد على أهمية القوة الناعمة من خلال استدعاء المفهوم في العديد من اللقاءات والخطابات الرسمية، والتي تفصح عن إدراك متزايد لأهميته في تطور الصين كقوة عظمى، وضرورة تحسين القوة الصلبة في بُعديها العسكري والاقتصادي بالتوازي مع الارتقاء بالقوة الناعمة التي تقوم على القيم والأفكار والثقافة.
ويكشف تقصي السجالات الفكرية للأكاديميين الصينيين أن القوة الناعمة للصين ترتكز على عدد من المصادر والمقومات، من أهمها الإرث الحضاري الصيني، وثقافتها وما تحفل به من قيم مثل: احترام المجتمع، والتكامل ونبذ الشقاق، والتناغم الداخلي، واستيعاب الاختلافات. ويضاف إلى ذلك، خصوصية النموذج التنموي الصيني وجاذبيته للدول الفقيرة، بما يمنحه من أولوية للتنمية الاقتصادية والابتكار.
كما تسعى الصين إلى تعزيز قوتها الناعمة من خلال أدوات متعددة، منها ما يلي:
1- تبني سياسة خارجية نشطة: تشدد المقاربة الصينية على ضرورة أن تبدو سياستها الخارجية مشروعة وذات طابع أخلاقي، مع إبداء استعدادها لتسوية بعض النزاعات الحدودية مع جيرانها. إضافة إلى ذلك، هناك تنامٍ في عدد المؤسسات الدولية والإقليمية التي تشغل الصين عضويتها، كما أصبحت بكين منذ نهاية التسعينيات مشاركاً نشطاً في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وفي الوقت الحالي تُعد الصين أكبر دولة مساهمة بقوات حفظ السلام من بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما يعزز صورتها كفاعل دولي مسؤول.
2- التركيز على المكاسب الاقتصادية المشتركة: يكون ذلك من خلال عقد الصفقات التجارية، ومشاريع البنية التحتية مع الدول الأخرى. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة “الحزام والطريق” التي تسعى إلى تعزيز الترابط الاقتصادي مع العديد من دول آسيا وإفريقيا وأوروبا، عبر شبكة واسعة من مشاريع النقل والمواصلات والاتصالات. وتتسم برامج المساعدات الاقتصادية للصين بأنها تُمنح دون مشروطية اقتصادية أو سياسية.
3- نشر الثقافة الصينية: تشهد الصين في السنوات الأخيرة توسعاً ملموساً في جهود نشر ثقافتها عبر معاهد كونفوشيوس التي يبلغ عددها أكثر من 500 معهد حول العالم. كما أدرجت أكثر من 80 دولة اللغة الصينية في أنظمتها التعليمية الوطنية، ويبلغ إجمالي عدد الأجانب الذين يتعلمون اللغة الصينية ويستخدمونها نحو 200 مليون شخص. ولا تزال جامعات الصين تُمثل وجهة تعليمية رئيسية للطلاب الأجانب، ولا سيّما من دول آسيا وإفريقيا، وإن كانت مكانتها كوجهة تعليمية لا تزال أقل من الجامعات الغربية.
مكاسب نسبية لبكين:
يثور التساؤل حول مدى قدرة الصين على الاستفادة من التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية. وبالرغم من أن الصين تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ فإن قدرتها على ابتكار منتجات ثقافية مؤثرة خارجياً لم تكن حتى وقت قريب متناسبة مع صعودها الدولي. لكن تغيرات كبيرة تحدث؛ إذ تشهد الصين ثورة في الإنتاج الترفيهي، ومن أمثلتها دمية “لابوبو” (Labubu) التي رفعت القيمة السوقية لشركة “بوب مارت” بنسبة 400%، وسلسلة مطاعم “ميكسوي” (Mixue) التي انتشرت في جنوب شرق آسيا.
وقد أظهر استطلاع رأي لمركز “بيو” الأمريكي للأبحاث في 25 دولة، نُشرت نتائجه في يوليو 2025؛ أن الغالبية ما تزال تنظر بإعجاب أكبر إلى الولايات المتحدة مقارنةً بالصين؛ ولكن الفجوة بين البلدين آخذة في الانحسار. وتراجعت التقييمات الإيجابية للولايات المتحدة. ففي كندا مثلاً، انخفضت نسبة الاستحسان للولايات المتحدة بمقدار 20%، بينما حققت الصين مكاسب هامشية.
وبالرغم من تحسن صورة الصين نسبياً في عام 2025 مقارنةً بفترة ما بعد “كوفيد-19″؛ فإن 54% من المبحوثين في الدول الـ25 يحملون صورة سلبية عنها، و66% لا يملكون ثقة كبيرة في قدرة الرئيس شي على معالجة الأزمات الدولية. ومع ذلك، فإن الذين يبدون ثقة أقل في ترامب فيما يتعلق بالأزمات الاقتصادية أكثر ميلاً إلى إقامة علاقات اقتصادية أقوى مع الصين. وفي دول مثل الأرجنتين والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وجنوب إفريقيا، تميل قطاعات واسعة إلى رؤية الولايات المتحدة كمصدر تهديد للمصالح القومية، بينما تُعد الصين حليفاً رئيسياً في دول مثل جنوب إفريقيا وإندونيسيا. وتُقدم الصين نفسها كشريك لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو خطاب يجد صدىً إيجابياً في عدة دول نامية؛ لكن سمعتها تبقى سلبية في أوروبا وبعض الدول الآسيوية بسبب المخاوف الأمنية.
تحديات أمام الصين:
على الرغم من التحسن النسبي في صورة الصين في العديد من دول العالم؛ فإنها تواجه عدة تحديات قد تحدّ من تعزيز قوتها الناعمة، أهمها ما يلي:
1- الضعف النسبي لوسائل الإعلام الصينية مقارنةً بالنفوذ الواسع للإعلام الغربي؛ إذ لا تزال وكالة “شينخوا” عاجزة عن تحقيق تأثير يماثل تأثير المنافذ الإعلامية الأمريكية الكبرى.
2- طبيعة النظام السياسي الصيني الذي يفرض رقابة على المحتوى الثقافي؛ مما يُصعّب عملية الابتكار. وعلى الرغم من تشجيع الحزب الشيوعي الحاكم للابتكار؛ تظل هناك قيود تفرضها الحكومة، وتؤثر في عملية الإنتاج.
3- عجز بكين عن تقديم بديل جدي لقيادة النظام العالمي أو التعامل الفعّال مع الأزمات الدولية؛ ما يجعل كثيراً من استطلاعات الرأي تشكك في قدرتها على خلافة واشنطن.
ختاماً، يمكن القول إنه مع التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية، تبدو الصين شريكاً أكثر موثوقية في نظر كثيرين، إلا أن ذلك لا يجعلها القائد العالمي غير المنازع في مجال القوة الناعمة. كما أن بكين قلّصت مساعداتها التنموية للدول النامية بسبب الضغوط الاقتصادية الداخلية، وتفاقم الديون في دول “الحزام والطريق”. وتدل الخبرة التاريخية على أن القوة الناعمة للولايات المتحدة شهدت فترات من الازدهار ثم الانحسار، كما حدث بعد حرب فيتنام. ومع أن استعادة أسس القوة الناعمة بعد انتهاء ولاية ترامب الثانية قد تكون عملاً مكلفاً؛ فإن الديمقراطية الأمريكية ذات التقاليد الراسخة ستظل قادرة على التعافي، بما يجعل استعادة تلك القوة أمراً ممكناً.