لجريدة عمان:
2025-06-30@09:27:45 GMT

رحلة الوعي

تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT

هل علينا أن نعيد ترجمة بعض الكتب التي سبق لها أن أخذت مكانتها في المكتبة العربية، وشكلت جزءا من وعينا الثقافي والمعرفي، مثلما وجدت صداها لجودتها الفعلية؟ سؤال أجدني منساقا إليه وأنا أقرأ ترجمة جديدة لرواية الكاتب الألماني الكبير هرمان هسه، «سدهارتا»، الصادرة مؤخرا عن «دار الكرمة» في مصر ونقلها إلى العربية سمير جريس.

أنساق وفي بالي ترجَمَتي فؤاد كامل وجيزلا فالور حجار (كما ترجمة ثالثة صدرت في دمشق وأعتذر على نسيان اسم الدار التي أصدرتها كما اسم المترجم)، لأسأل: ألم يكن من الأحرى، وبدلا من صرف الجُهد على كتاب حاضر بهذه الكثافة، أن يعمل المترجم على عنوان آخر، وخاصة أن المكتبة العربية، إلى اليوم، ما زالت تعاني من قلة الترجمات على الرغم من هذه النهضة التي نشهدها مؤخرا في نقل ثقافة الآخر إلى لغتنا؟

سؤال مشروع من دون شك، ولكن أيضا، أجد أن إعادة الترجمة، أمر مشروع بدوره، على الأقل لسببين؛ أولا حين تأتي الترجمة من لغة وسيطة، لا شك أنها تثير حساسية ما، لذا لا بدّ أن الترجمة عن اللغة الأصل، سوف تفرد لنفسها مكانة خاصة؛ وهذا أمر بديهي. وإن كان ذلك لا يعني، أن بعض الترجمات عن هذه اللغة الوسيطة، لا يملك حضوره، بل على العكس من ذلك، لأننا نجدها أحيانا ترجمات أكثر من رائعة. أما الثاني، فهي مقولة تي. أس. إليوت الشهيرة: إن علينا أن نعيد الترجمة كلّ عقد من الزمن، لأن اللغة تتغير، لذا فإن الترجمة الجديدة تبث حياة وحيوية في النص من جديد. ربما لهذا السبب نجد أن بعض الدور الفرنسية، مثلا، تعيد من سنوات قليلة ترجمة بعض الكلاسيكيات معتبرة أن اللغة التي نقلت بها أصبحت قديمة لذا من الضرورة إعادة تحديث لغة النص المنقول إليها (راجع مقالتنا عن جيمس بالدوين في «جريدة عُمان» بتاريخ 14 نوفمبر 2023).

في أي حال، أعيد قراءة «سدهارتا» لهرمان هسه، بالمتعة عينها التي اكتشفته بها للمرة الأولى. فهذه الرحلة «التعليمية» التي كتبها واحد من كبار الأدب في العالم، ما زالت تملك قوتها القادرة على أخذنا في رحلة على مشارف الوعي واكتشاف الذات (على الأقل). أقول: رحلة، لأن الرواية (القصيرة أو ربما نوفيلا) تبدو وكأنها كتاب رحلة، أو ربما أيضا أشبه بــ «فيلم على الطريق»، على طريق الحكمة في الهند الذي قام بها الكاتب وهو في حالة من الاضطراب الروحي الكامل. فعلى العكس ممّا يخاله القارئ للوهلة الأولى، فإن سدهارتا ليس بوذا نفسه، ولا حتى مريدا لهذه الشخصية الروحانية الكبيرة الذي تعرض للانتقاد من قبل الشخصية الرئيسية التي قررت عدم اتباع تعاليمه بعد لقائه.

قد تكون قصة هذا الرجل قصة كلّ إنسان، لأننا جميعًا نواجه خلال حياتنا أزمات وجودية تحدث عندما نجد أنفسنا عند مفترق طرق من دون أن نعرف أيهما نتبع في ما بقي لنا من أيام على هذه الأرض. إنه مفترق الطرق الشهير واللقاء المحتمل مع «الشيطان»، وهي قصة رمزية قديمة تمّ تبنيها في جنوب الولايات المتحدة وتجد صداها كثيرًا في أغاني رجال البلوز القدامى. أمام ذلك لا بدّ أن نسأل أنفسنا: أي طريق يجب علينا أن نختار؟ ذلك الذي يسمح للإنسان بالتمتع بالسلع المادية وأن يكون سعيدًا إذا نجح أو لم ينجح عندما يؤدي نقص الوسائل إلى سيطرة الإحباط على حياته. أو ذاك الآخر الخالي من كلّ الطموحات المادية والذي يستطيع أن يجلب السعادة ولكن بعد الكثير من التضحيات. سدهارتا، الذي يرى نفسه ناسكًا، لا يفي بالالتزام الذي قطعه على نفسه لصالح التأمل الداخلي والعوز. فمن أجل حبّ الأميرة، سوف يتذوق هو أيضًا حياة الفخامة والترف. إن الشباب موجود مع احتياجاته ورغباته وأحلامه أيضًا لأن النسغ المتدفق الذي يجري في عروقه يقود الإنسان في أغلب الأحيان، وبخاصة في بداية طريقه، إلى محاولة الاستمتاع بالعناصر بدلاً من الوقوع في التأمل في وجود يتدفق من دون فرح ومن دون شغف.

بيد أن سدهارتا كان يحمل في داخله هذا التساؤل الحيوي الذي يدفعه إلى التخلي عن كلّ شيء، بما في ذلك ابنه حديث الولادة، لمواصلة سعيه نحو الروحانية المطلقة. سيفعل كل شيء لكي يبتعد عن المادية التي تعيق، بالنسبة إليه، كل المشاعر وتقتل تلك الخيرية والأساسية للإنسان. فبالقرب من النهر وتيّاراته الهادئة، سيجد هذا السلام، في الحياة الصارمة التي يتقاسمها مع رفيق خالّ من الخيرات الأرضية، يرافقه في ساعاته الطويلة من التأمل والخشوع والتفكير. من هنا، كان سدهارتا يرتبط بأرواح كل من سبقوه على الأرض، على إيقاع الكون الذي واصل ثورته البطيئة لمليارات السنين. كان فهم هرمان هسه للبوذية والأديان الأخرى التي ازدهرت في الهند في العصور الوسطى صادقًا ودقيقًا بشكل لا يصدق. لم يتم تصوير مدى الحياة أبدًا بشكل جيد كما هو الحال في هذه الرواية الصغيرة التي تلغي ثقل الأسابيع والأشهر والسنوات إلى الحدّ الذي تجعل اللحظة الحالية ضرورية للغاية.

يقدم لنا هرمان هسه في كتابه هذا أحد أعماله الأكثر سهولة على الفهم، لذا تأتي بعيدة مثلا عن روايته المدهشة «لعبة الكريات الزجاجية»، أو عن «ذئب السهوب» التي، بسبب «جفافها» (وإن كان جفافا مدهشا في واقع الأمر)، حبست عقل القارئ في قفص حديدي محاط بسلك شائك. لقد قدم كتاب «سدهارتا» لقرائه حرية ضمير حقيقية، تمامًا كما تقدمه لنا الحياة إذا تركنا وراءنا العقائد التي ورثناها من طفولتنا. ربما نجد أن الرسالة التي ينقلها «سدهارتا» قد لا ترضي العقول الديكارتية التي سرعان ما سوف تتخلى عن قراءتها (أعتقد ذلك)، ولكنها لن تترك العقول الإنسانية المنفتحة غير مبالية، التي غالبًا ما تعاني من عذابات زمنية لا يمكن تصورها لروحها... ثمة عمق جميل لا يمكن أن نمر إلى جانبة مرور الكرام.

ثمة الكثير ممّا يقال عن هذه التحفة الأدبية، وثمة الكثير من الأسئلة التي لا بدّ أن نطرحها على أنفسنا، لكن الأجوبة عليها لن نجدها إلا عبر أنفسنا، لسبب بسيط: لا يكتسب الإنسان مطلقا الحكمة من معلّم، بل بصبر دؤوب ومن تلقاء نفسه، كما يخبرنا هسه نفسه، الذي كان بدوره معلّما عظيما. ولكن ماذا بعد ذلك كله؟ في الحقيقة لا أعرف. ليس علينا سوى أن نعيد قراءة هذه الكتاب مرارا وتكرار. قد نكتشف فيه ما نبحث عنه في هذا العالم المعاصر الذي أضاع بوصلته من دون شك.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من دون

إقرأ أيضاً:

حزب الوعي ببني سويف يشارك في اليوم العالمي للتبرع بالدم

بناءً على توجيهات الدكتور باسل عادل رئيس حزب الوعي، شارك حزب الوعي ببني سويف في اليوم العالمي للتبرع بالدم بمحافظة بني سويف، بالتعاون مع وزارة الصحة والسكان وعدد من الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني.

تحذيرات من انفجار مجتمعي.. هل يمرر البرلمان قانون الإيجار القديم الاثنين القادم؟4 خيارات أمام واضعي اليد للتقنين.. مشروع قانون بالبرلمانبرلمانية تعلق على مناقشة مشروع قانون الإيجار القديم بعد غد: سيمرطلب إحاطة أمام البرلمان يكشف عن خلل في منظومة نقل المواد البترولية

ووفرت وزارة الصحة ومحافظة بني سويف عدد من السيارات المجهزة وفريق أطباء متكامل، وأطلقت حملة للتبرع بالدم لإنقاذ المرضى تزامنًا مع اليوم العالمي للتبرع بالدم"، وتمركزت سيارات الإسعاف والفرق الطبية في أكثر من مكان بمحافظة بني سويف".

وانطلق اليوم بكلمة ألقاها الدكتور محمد هاني غنيم محافظ بني سويف، بحضور بلال حبش نائب المحافظ ووكيل وزارة الصحة وعدد من قيادات المحافظة وبحضور حاشد لمؤسسات المجتمع المدني".

وأكد علي فايز، سكرتير عام مساعد حزب الوعي، أن المشاركة في هذا اليوم جائت إيمانًا من حزب الوعي بدوره في المشاركة المجتمعية " كما أثنى على الدور الفعال التي تقوم به محافظة بني سويف".

وكان فايز أول المتبرعين اليوم في الحملة لتشجيع الشباب وحثهم على التبرع لإنقاذ المرضى والحالات الحرج، كما قام عدد من شباب حزب الوعي بالتبرع للحملة بعد عمل الفحوصات والتأكد من استعدادهم للتبرع".

طباعة شارك باسل عادل الدكتور باسل عادل حزب الوعي بني سويف المجتمع المدني

مقالات مشابهة

  • معسكران ومباريات ودية.. أرنولد يبدأ رحلة المونديال من الامارات
  • و أمرت النيابة العامة بحبس مالك السيارة المتسببة في حادث الطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية لتمكينه المتهم من قيادتها رغم علمه بعدم حيازته رخصة تجيز له قيادة تلك المركبة. جاء ذلك في إطار التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في الحادث المروري المروع الذي وقع
  • الوعي.. نورٌ لا يُمنح للجميع
  • غرب ووسط الدلتا (3)
  • ارتياح بين طلاب الإسكندرية بعد أداء امتحان اللغة الإنجليزية.. وملاحظات على الترجمة و الجرامر
  • إنجاز جديد.. لبنانية تتصدر عالم الترجمة!
  • حزب الوعي ببني سويف يشارك في اليوم العالمي للتبرع بالدم
  • كلمة «موقوتة» فى سؤال الترجمة للغة الانجليزية تثير جدل طلاب القسم العلمي بالثانوية الأزهرية بالشرقية
  • الحرب على الوعي.. كيف تسعى منصات الإخوان لتزييف الحقائق؟
  • نجحت في الحفاظ على انسيابية حركة الطيران والمسارات الجوية في ظل الأزمة.. أجواء المملكة تُسجل عبور 1330 رحلة طيران كمتوسط يومي خلال الأحداث التي شهدتها المنطقة مؤخرًا بزيادة تقدر بنحو 95%