لجريدة عمان:
2025-05-14@02:41:43 GMT

رحلة الوعي

تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT

هل علينا أن نعيد ترجمة بعض الكتب التي سبق لها أن أخذت مكانتها في المكتبة العربية، وشكلت جزءا من وعينا الثقافي والمعرفي، مثلما وجدت صداها لجودتها الفعلية؟ سؤال أجدني منساقا إليه وأنا أقرأ ترجمة جديدة لرواية الكاتب الألماني الكبير هرمان هسه، «سدهارتا»، الصادرة مؤخرا عن «دار الكرمة» في مصر ونقلها إلى العربية سمير جريس.

أنساق وفي بالي ترجَمَتي فؤاد كامل وجيزلا فالور حجار (كما ترجمة ثالثة صدرت في دمشق وأعتذر على نسيان اسم الدار التي أصدرتها كما اسم المترجم)، لأسأل: ألم يكن من الأحرى، وبدلا من صرف الجُهد على كتاب حاضر بهذه الكثافة، أن يعمل المترجم على عنوان آخر، وخاصة أن المكتبة العربية، إلى اليوم، ما زالت تعاني من قلة الترجمات على الرغم من هذه النهضة التي نشهدها مؤخرا في نقل ثقافة الآخر إلى لغتنا؟

سؤال مشروع من دون شك، ولكن أيضا، أجد أن إعادة الترجمة، أمر مشروع بدوره، على الأقل لسببين؛ أولا حين تأتي الترجمة من لغة وسيطة، لا شك أنها تثير حساسية ما، لذا لا بدّ أن الترجمة عن اللغة الأصل، سوف تفرد لنفسها مكانة خاصة؛ وهذا أمر بديهي. وإن كان ذلك لا يعني، أن بعض الترجمات عن هذه اللغة الوسيطة، لا يملك حضوره، بل على العكس من ذلك، لأننا نجدها أحيانا ترجمات أكثر من رائعة. أما الثاني، فهي مقولة تي. أس. إليوت الشهيرة: إن علينا أن نعيد الترجمة كلّ عقد من الزمن، لأن اللغة تتغير، لذا فإن الترجمة الجديدة تبث حياة وحيوية في النص من جديد. ربما لهذا السبب نجد أن بعض الدور الفرنسية، مثلا، تعيد من سنوات قليلة ترجمة بعض الكلاسيكيات معتبرة أن اللغة التي نقلت بها أصبحت قديمة لذا من الضرورة إعادة تحديث لغة النص المنقول إليها (راجع مقالتنا عن جيمس بالدوين في «جريدة عُمان» بتاريخ 14 نوفمبر 2023).

في أي حال، أعيد قراءة «سدهارتا» لهرمان هسه، بالمتعة عينها التي اكتشفته بها للمرة الأولى. فهذه الرحلة «التعليمية» التي كتبها واحد من كبار الأدب في العالم، ما زالت تملك قوتها القادرة على أخذنا في رحلة على مشارف الوعي واكتشاف الذات (على الأقل). أقول: رحلة، لأن الرواية (القصيرة أو ربما نوفيلا) تبدو وكأنها كتاب رحلة، أو ربما أيضا أشبه بــ «فيلم على الطريق»، على طريق الحكمة في الهند الذي قام بها الكاتب وهو في حالة من الاضطراب الروحي الكامل. فعلى العكس ممّا يخاله القارئ للوهلة الأولى، فإن سدهارتا ليس بوذا نفسه، ولا حتى مريدا لهذه الشخصية الروحانية الكبيرة الذي تعرض للانتقاد من قبل الشخصية الرئيسية التي قررت عدم اتباع تعاليمه بعد لقائه.

قد تكون قصة هذا الرجل قصة كلّ إنسان، لأننا جميعًا نواجه خلال حياتنا أزمات وجودية تحدث عندما نجد أنفسنا عند مفترق طرق من دون أن نعرف أيهما نتبع في ما بقي لنا من أيام على هذه الأرض. إنه مفترق الطرق الشهير واللقاء المحتمل مع «الشيطان»، وهي قصة رمزية قديمة تمّ تبنيها في جنوب الولايات المتحدة وتجد صداها كثيرًا في أغاني رجال البلوز القدامى. أمام ذلك لا بدّ أن نسأل أنفسنا: أي طريق يجب علينا أن نختار؟ ذلك الذي يسمح للإنسان بالتمتع بالسلع المادية وأن يكون سعيدًا إذا نجح أو لم ينجح عندما يؤدي نقص الوسائل إلى سيطرة الإحباط على حياته. أو ذاك الآخر الخالي من كلّ الطموحات المادية والذي يستطيع أن يجلب السعادة ولكن بعد الكثير من التضحيات. سدهارتا، الذي يرى نفسه ناسكًا، لا يفي بالالتزام الذي قطعه على نفسه لصالح التأمل الداخلي والعوز. فمن أجل حبّ الأميرة، سوف يتذوق هو أيضًا حياة الفخامة والترف. إن الشباب موجود مع احتياجاته ورغباته وأحلامه أيضًا لأن النسغ المتدفق الذي يجري في عروقه يقود الإنسان في أغلب الأحيان، وبخاصة في بداية طريقه، إلى محاولة الاستمتاع بالعناصر بدلاً من الوقوع في التأمل في وجود يتدفق من دون فرح ومن دون شغف.

بيد أن سدهارتا كان يحمل في داخله هذا التساؤل الحيوي الذي يدفعه إلى التخلي عن كلّ شيء، بما في ذلك ابنه حديث الولادة، لمواصلة سعيه نحو الروحانية المطلقة. سيفعل كل شيء لكي يبتعد عن المادية التي تعيق، بالنسبة إليه، كل المشاعر وتقتل تلك الخيرية والأساسية للإنسان. فبالقرب من النهر وتيّاراته الهادئة، سيجد هذا السلام، في الحياة الصارمة التي يتقاسمها مع رفيق خالّ من الخيرات الأرضية، يرافقه في ساعاته الطويلة من التأمل والخشوع والتفكير. من هنا، كان سدهارتا يرتبط بأرواح كل من سبقوه على الأرض، على إيقاع الكون الذي واصل ثورته البطيئة لمليارات السنين. كان فهم هرمان هسه للبوذية والأديان الأخرى التي ازدهرت في الهند في العصور الوسطى صادقًا ودقيقًا بشكل لا يصدق. لم يتم تصوير مدى الحياة أبدًا بشكل جيد كما هو الحال في هذه الرواية الصغيرة التي تلغي ثقل الأسابيع والأشهر والسنوات إلى الحدّ الذي تجعل اللحظة الحالية ضرورية للغاية.

يقدم لنا هرمان هسه في كتابه هذا أحد أعماله الأكثر سهولة على الفهم، لذا تأتي بعيدة مثلا عن روايته المدهشة «لعبة الكريات الزجاجية»، أو عن «ذئب السهوب» التي، بسبب «جفافها» (وإن كان جفافا مدهشا في واقع الأمر)، حبست عقل القارئ في قفص حديدي محاط بسلك شائك. لقد قدم كتاب «سدهارتا» لقرائه حرية ضمير حقيقية، تمامًا كما تقدمه لنا الحياة إذا تركنا وراءنا العقائد التي ورثناها من طفولتنا. ربما نجد أن الرسالة التي ينقلها «سدهارتا» قد لا ترضي العقول الديكارتية التي سرعان ما سوف تتخلى عن قراءتها (أعتقد ذلك)، ولكنها لن تترك العقول الإنسانية المنفتحة غير مبالية، التي غالبًا ما تعاني من عذابات زمنية لا يمكن تصورها لروحها... ثمة عمق جميل لا يمكن أن نمر إلى جانبة مرور الكرام.

ثمة الكثير ممّا يقال عن هذه التحفة الأدبية، وثمة الكثير من الأسئلة التي لا بدّ أن نطرحها على أنفسنا، لكن الأجوبة عليها لن نجدها إلا عبر أنفسنا، لسبب بسيط: لا يكتسب الإنسان مطلقا الحكمة من معلّم، بل بصبر دؤوب ومن تلقاء نفسه، كما يخبرنا هسه نفسه، الذي كان بدوره معلّما عظيما. ولكن ماذا بعد ذلك كله؟ في الحقيقة لا أعرف. ليس علينا سوى أن نعيد قراءة هذه الكتاب مرارا وتكرار. قد نكتشف فيه ما نبحث عنه في هذا العالم المعاصر الذي أضاع بوصلته من دون شك.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من دون

إقرأ أيضاً:

ختام ملتقى بناء الوعي بحوار وطني بين طلاب الجامعات وبيت العائلة المصرية

اختتمت فعاليات من "الملتقى الحواري لبناء الوعي"، الذي عقد تحت رعاية الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وبإشراف الدكتور كريم همام مستشار الوزير للأنشطة الطلابية ومدير معهد إعداد القادة، وبمشاركة الطلاب من مختلف الجامعات المصرية الحكومية والتكنولوجية والأهلية والخاصة والمعاهد، بيوم حواري استثنائي جمعهم تحت مظلة وطنية واحدة، في لوحة جسّدت روح الجمهورية الجديدة.

يأتي ذلك في مشهد وطني يُجسّد رؤية الدولة المصرية وتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي تجاه بناء وعى طلاب الجامعات والمعاهد المصرية.

هذا الملتقى الذي نظمه قطاع الأنشطة الطلابية ومعهد إعداد القادة، يأتي في سياق الاستراتيجية الشاملة للوزارة التي تؤمن بأن الشباب هم الحصن الحصين للوطن، وأن تمكينهم فكريًا وثقافيًا هو الركيزة الأساسية لمواجهة التطرف وبناء وعي حقيقي يُمهّد لمستقبل أكثر استقرارًا وتماسكًا.

وزير الخارجية: تمثيل مصر بالخارج مسؤولية وطنية تتطلب أعلى درجات المهنية والالتزامعلى غرار التجربة المصرية.. ربط الحماية الاجتماعية بالتمكين الاقتصادي بعدد من البلدان

وحمل اليوم الختامي أبعادًا فكرية عميقة من خلال جلسات حوارية جمعت طلاب الجمهورية بأعضاء بيت العائلة المصرية، لتكون بذلك المرة الأولى التي يُفتح فيها هذا النوع من الحوار المفتوح والمباشر بين القيادات الدينية والتعليمية والشباب داخل منارة تدريبية هدفها بناء الإنسان.

وجاءت الجلسة الافتتاحية للملتقى لتشكل انطلاقة قوية للفعاليات، حيث تحدث الأنبا إرميا، رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي والأمين العام المساعد لبيت العائلة المصرية، بكلمات مؤثرة خاطب فيها الشباب قائلًا: "أنتم أمل مصر الحي، ووعيكم هو الطريق إلى السلام، وإن وحدتكم هي الحصن الحقيقي للأوطان". وقد أكد على أهمية الدور التكاملي بين المؤسسات الدينية والتعليمية في احتضان أفكار الشباب ومبادراتهم.

ثم تحدث الدكتور محمد أبو زيد الأمير، نائب رئيس جامعة الأزهر للوجه البحري السابق والمنسق العام لبيت العائلة المصرية، مؤكدًا أن الطلاب اليوم ليسوا مجرد متلقين، بل شركاء فاعلين في بناء وطن يتسع للجميع، ويزدهر بعقول شبابه الواعي، المتسامح، المحب للحياة.

وتحدث الدكتور عبد المسيح سمعان، مقرر لجنة التعليم ببيت العائلة المصرية والأستاذ بجامعة عين شمس، مشددًا على أن التعليم ليس فقط أداة للمعرفة، بل بوابة للسلام المجتمعي، وأن وعي الطلاب هو الاستثمار الأهم للدولة المصرية في ظل التحولات العالمية المتسارعة.

كما أوضح الدكتور محمد الشربيني، مقرر مساعد لجنة التعليم ببيت العائلة المصرية ونائب رئيس جامعة الريادة، أن هذا الملتقى يعد فرصة ذهبية لتمكين الطلاب من التعبير عن أنفسهم، والانخراط في قضايا الوطن، مشيرًا إلى أن الحوارات الهادفة هي السبيل الأمثل لتكوين شخصية متوازنة، متمسكة بجذورها، ومنفتحة على العالم.

وأكد الدكتور كريم همام، مستشار وزير التعليم العالي للأنشطة الطلابية ومدير معهد إعداد القادة، أن هذا الملتقى يجسد رؤية الدولة في تحويل العمل الشبابي إلى ممارسة حقيقية، مشيرًا إلى أن "كل فكرة طُرحت هنا تمثل لبنة في بناء الجمهورية الجديدة.

بدأت الجلسة الحوارية الأولى، التي جاءت تحت عنوان "الشباب قوة مصر الناعمة.. تعزيز الهوية والانتماء"، وأدارها الدكتور يحى عطية سليمان، الأستاذ بجامعة عين شمس، حيث اجتمع عدد من رموز التعليم والفكر لمناقشة دور الشباب في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء. شارك في الجلسة كل من الدكتور رضا حجازي، وزير التربية والتعليم السابق ورئيس جامعة الريادة، الدكتور عاطف عدلي، العميد السابق بكلية التربية للطفولة المبكرة بجامعة القاهرة، الدكتور وائل فؤاد، المدرس بجامعة عين شمس. وتناول الحوار أهمية تمكين الشباب من فهم جذورهم الثقافية والاجتماعية، وكيفية ترسيخ هذه القيم منذ الطفولة، وتوظيف الأدوات المعاصرة – وعلى رأسها التكنولوجيا – في بناء الوعي وتعزيز الهوية دون تفريغها من مضمونها.

أما الجلسة الحوارية الثانية، التي جاءت تحت عنوان "التسامح والأخاء.. جسرا للسلام والتعايش"، وأدارها الدكتور محمد الشربيني، مقرر مساعد لجنة التعليم ببيت العائلة المصرية ونائب رئيس جامعة الريادة، فقد ناقشت المفاهيم الجوهرية للتسامح كقاعدة للتعايش المجتمعي. وشارك في هذه الجلسة كل من الدكتور محمد أبو زيد الأمير، نائب رئيس جامعة الأزهر للوجه البحري السابق والمنسق العام لبيت العائلة المصرية، الدكتور عبد المسيح سمعان، مقرر لجنة التعليم ببيت العائلة المصرية والأستاذ بجامعة عين شمس، والدكتور محمود فؤاد، مستشار التربية الدينية بوزارة التربية والتعليم.

وتطرق الحوار إلى أهمية ترسيخ ثقافة التسامح في المؤسسات التعليمية، وتعزيز قيم الإخاء والاحترام المتبادل، كأساس لصياغة مستقبل يعكس روح الجمهورية الجديدة.
وبين محاور الفكر والنقاش، كان اليوم الختامي للملتقى الحواري لبناء الوعي فرصة ذهبية لتكريس الحوار البناء بين الأجيال، حيث تم تبادل الرؤى والمبادرات والمقترحات التي تقدم بها الطلاب في جلسات غنية بالوعي والتنوع، أبرزت حجم الوعي الذي يتمتع به شباب مصر، وأكدت أنهم على قدر المسؤولية في حمل مشعل الجمهورية الجديدة. وقد أثبت هذا الملتقى أن بناء الوعي ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية، وأن شباب مصر، حين يُستمع إليهم، يقدمون خلاصة فكر ناضج يستحق أن يُبنى عليه.

حضر الجلسة الحوارية الثانية الدكتور محمد المصري منسق عام الأنشطة الطلابية بالجامعة المصرية للتعلم الالكتروني الأهلية، وقدم كلمة لطلاب الجامعات والمعاهد المصرية موضحًا فيها، أن ما شهده اليوم في اللقاء الحواري لهو ترجمة حقيقية لبناء وعي الطلاب، وتعزيز قيم المواطنة والانتماء للدولة المصرية. 

طباعة شارك وزير التعليم العالي التعليم العالي والبحث العلمي البحث العلمي الرئيس عبد الفتاح السيسي طلاب الجامعات والمعاهد المصرية

مقالات مشابهة

  • تعزيز الوعي بحملة «أمّن مركبتك» في الشارقة
  • من ساحات المدارس الصيفية.. “فتية التنمية” يشعلون فتيل ثورة الوعي الزراعي
  • سمير عباس : تطور الوعي خلال ٥٠ عاما مضت ساهم في علاجات الذكورة دون صمت
  • سمّاعات ذكية تترجم لعدة متحدثين في وقت واحد
  • الثقافة الاستهلاكية بين الوعي المجتمعي والنمط السلوكي
  • برئاسة الدفاع المدني.. تشكيل فريق لتنفيذ برنامج نشر الوعي بالظواهر الجوية
  • مدير تعليم سوهاج يكرم المعلمات الفائزات في مسابقة الوعي الإداري
  • ختام ملتقى بناء الوعي بحوار وطني بين طلاب الجامعات وبيت العائلة المصرية
  • مياه الشرب بالجيزة تجري حملات توعية متنوعة لتعزيز الوعي المائي
  • ثقافة المنوفية تنظم 35 نشاط وفاعلية فنية خلال مايو لإثراء الوعي