ترجمة: أحمد شافعي -

تعمل واشنطن وموسكو على إصلاح العلاقات بينهما بسرعة فائقة، لا تضاهيها إلا السرعة التي تعمل بها إدارة ترامب على التحطيم في الداخل. فبعد اجتماع مع وزير الخارجية ماركو روبيو في المملكة العربية السعودية في الثامن عشر من فبراير، قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف: إن الجانبين قررا «القضاء على العوائق» الحائلة دون تحسين العلاقات الثنائية، وهي عبارة بثت الرعب في أوصال المنفيين الروس -وأنا منهم- ممن سعوا إلى ما بدا لهم في حينه وكأنه ملاذ آمن في الولايات المتحدة.

بالطبع، ينصب اهتمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ما يفوق محض مجموعة من المنفيين السياسيين، كما أن مفاوضاته مع الرئيس ترامب بشأن أوكرانيا لا تتعلق بأوكرانيا فحسب، فما يريده بوتين لا يقل عن إعادة تنظيم العالم، كما فعل جوزيف ستالين بالاتفاقيات التي توصل إليها مع فرانكلين دي روزفلت وونستون تشرشل في مدينة يالطا بشبه جزيرة القرم في فبراير 1945. وبوتين يريد تقسيم العالم منذ فترة طويلة. والآن، أخيرا، يسلمه ترامب السكين.

كيف لي أن أعرف أن بوتين يريد هذا؟ لأنه قال ذلك بنفسه. ففي الواقع، هو ولافروف وكادر من مسؤولي الدعاية في الكرملين والمؤرخين المعنيين بإعادة كتابة التاريخ لم يسكتوا عن اتفاقية يالطا منذ أكثر من عقد من الزمان. فبعد ضم شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني في عام 2014، ألقى بوتين كلمة في تجمع للاحتفال بالذكرى السبعين للاتفاقية، وتوج ذلك بإزاحة الستار عن نصب تذكاري لقادة الحلفاء الثلاثة.

ويتجاوز احترامه لاتفاقية يالطا تمجيد الاتحاد السوفييتي العظيم الغابر وزعيمه ستالين، إذ يعتقد أن الاتفاقية التي توصل إليها الزعماء الثلاثة ـ فاحتفظ الاتحاد السوفييتي بموجبها بثلاث دول ضمها من دول البلطيق إلى جانب أجزاء من بولندا ورومانيا، ثم ضمان الهيمنة على ست دول في شرق ووسط أوروبا وجزء من ألمانيا ـ هي الإطار الشرعي الوحيد للحدود والأمن الأوروبيين. وفي فبراير، بينما كانت روسيا تحتفل بالذكرى الثمانين للاتفاقية، وتستعد للجلوس مع إدارة ترامب، كرر لافروف والمؤرخون الرسميون في روسيا هذه الرسالة في مقال تلو الآخر.

ففي هذا الأسبوع، جلس ألكسندر دوجين، الذي يقدم نفسه باعتباره فيلسوفا، ويزود بوتين باستمرار باللغة الإيديولوجية لدعم سياساته، في مقابلة طويلة مع جلين جرينوالد، الصحفي الأمريكي اليساري السابق. فأوضح دوجين بلطف لماذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا، والسبب الذي طرحه هو أن روسيا أرادت وكان لزاما عليها أن تستعيد ممتلكاتها الأوروبية السابقة، ولم يمكنها واقعيا إلا محاولة احتلال أوكرانيا فقط. كما عرض مسارات محتملة لإنهاء الحرب. وقال إن روسيا سوف تطلب على أقل تقدير تقسيم أوكرانيا ونزع سلاحها ونزع طابع النازية عنها. وكان يستخدم عمدا اللغة التي استخدمها الحلفاء في يالطا لوصف ألمانيا.

وفي موقع (إكس)، الذي شهد نشاطا مفرطا من دوجين في الأسابيع الأخيرة، كان أجرأ من ذلك. ففي الفترة السابقة لانتخابات الأسبوع الماضي في ألمانيا، كتب يقول: «صوّتوا لحزب (البديل من أجل ألمانيا) وإلا سنحتل ألمانيا مرة أخرى ونقسمها بين روسيا والولايات المتحدة». (وقد أرسل لي صديق صحفي ألماني صورة للمنشور يسألني عما إذا كان حقيقيا - فالصحفيون الألمان أقل اعتيادا من الصحفيين الروس على ما لا يمكن تصوره).

يدرك الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي ضخامة التهديد، لا لبلده فقط ولكن لأوروبا، التي تمثل لها أوكرانيا منطقة عازلة مميتة. ولكن يوم الجمعة، عندما حاول التحدث عن هذا التهديد خلال اجتماع في المكتب البيضاوي، غضب ترامب ونائبه جيه دي فانس غضبًا شديدًا. وصاحا فيه، مطالبين إياه بالاعتراف بعجزه والانحناء امتنانًا. وانهارت المحادثات.

فماذا يحدث لأوكرانيا الآن؟ قبل زيارة زيلينسكي لواشنطن، كان السيناريو الأفضل هو أن توافق روسيا على وقف إطلاق النار في مقابل ما يقرب من 20% من الأراضي الأوكرانية التي تحتلها حاليًا. ومن شأن هذا أن يترك ملايين المواطنين الأوكرانيين ـ ممن يعيشون في الأراضي المحتلة وممن نزحوا شرقًا ـ تحت الحكم الروسي. والآن يبدو أن هذه النتيجة، التي كانت غير مرجحة أصلا، شبه مستحيلة. فنحن الآن في عالم أسوأ السيناريوهات، حيث من الممكن أن نتخيل بوتين يشن هجوما متجددا ضد أوكرانيا، ساعيا إلى الهيمنة الكاملة، وهذه المرة بمساعدة نشطة من الولايات المتحدة.

ولا يريد بوتين العودة إلى القرن العشرين فحسب. فهو هناك بالفعل، وعلى كل من يبحث عما قد يحدث بعد ذلك أن يلجأ إلى هذا الموضع، وتحديدًا إلى عام 1938 حينما توسط رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين ـ الذي كان يتصور نفسه مفاوضًا عبقريًا وخبيرًا في كل شيء ـ في اتفاقية أعطت سودتنلاند لهتلر، وهي منطقة من تشيكوسلوفاكيا. وفي المقابل، تصبح بقية أوروبا في ظاهر الأمر آمنة من العدوان الألماني، وبعد عام من توقيع اتفاقية ميونخ المترتبة على ذلك، قامت ألمانيا بغزو بولندا وبدأت الحرب العالمية الثانية رسميا.

فعندما هدد ترامب الغاضب زيلينسكي باحتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة، ربما كان يعقد مقارنة تاريخية أدق كثيرًا مما كان يدرك.

ولكن، ما الذي سيحدث إذا أطلقت روسيا عدوانها ضد أوروبا، دون رادع من الولايات المتحدة بل حتى بمساعدة منها؟ من المستحيل التنبؤ بالخطوط العريضة الدقيقة للكارثة الوشيكة، فلن يبدو العالم شبيها بالعالم ثنائي القطب في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن المؤكد أيضًا أنه لن يبدو شبيها بالعالم الذي نعيش فيه وتشعر فيه شعوب معظم دول العالم الغنية بالأمان.

أتذكر أنني قرأت عن حياة المنفيين في باريس في ثلاثينيات القرن العشرين. حيث مضى اليهود والشيوعيون الألمان -الذين فروا بحياتهم- يراقبون العالم وهو يعيد ترتيب نفسه. انقلبت الأحزاب السياسية التي كانت مناهضة للفاشية بين عشية وضحاها، واتخذت مواقف تتراوح بين الاسترضاء والاحتضان الكامل.

أشاح القادة الفرنسيون والبريطانيون أنظارهم بعيدا بينما كان هتلر يختبر قوته خارج ألمانيا. ومع تهميش مناهضة الفاشية، أصبحت معاداة السامية هي السائدة. وانصب اللوم على ضحايا هتلر في سوء حظهم. في معظم الأيام الآن، أتواصل مع أصدقاء من روسيا أو بيلاروسيا في المنفى يعانون من نوع مرعب من شعور (الدجا فو). فلعل صدمة أكبر من صدمة أصدقائنا الأمريكيين من السرعة التي أصبح بها الأثرياء والأقوياء، مثل: جيف بيزوس مالك صحيفة واشنطن بوست، داعمين للترامبية، وكيف أن الهواء نفسه يبدو وكأنه يتغير، حتى يصبح زيلينسكي فجأة، برؤيته الواضحة ومبادئه الثابتة، وكأنه الشاذ عن الطبيعي.

لقد رأينا كل هذا من قبل، وهذا من أسباب شعورنا بالصدمة: فقد رأينا إلام انتهت الأمور. ومن الأسباب أيضا أننا لم نتوقع أن يحدث هذا في الولايات المتحدة. فقد كنا نعتقد أن بلادنا عرضة بشكل خاص للتشويه السياسي بسبب تاريخها الطويل من الحكم الشمولي. وقد عبرت عن ذلك المنفية الروسية الشابة كسينيا ميرونوفا بقولها إنه «كان من الجيد أن نعرف أن هناك بلدًا واحدًا مسؤولوه، قد لا يكونون محبوبين، لكنهم على الأقل عقلاء». وأهم من ذلك أنه كان من الجيد الاعتقاد بأن المجتمع نفسه عاقل.

ميرونوفا صحافية تبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا، اضطرت إلى الفرار من روسيا في منتصف الليل قبل ثلاث سنوات، وخطيبها مسجون في مستعمرة يقضي عقوبة مدتها اثنان وعشرون عاما بتهمة الخيانة العظمى، وقد عبرت بست دول قبل أن تجد مأوى في نيويورك ضمن برنامج سينمائي، وقد كانت تحسب أن ولادتها في روسيا محض حظ سيئ. والآن، يبدو على نحو متزايد أن العالم كله مكان سيء أينما كان مولدك فيه. ففي بداية الفصل الدراسي الربيعي، تلقت ميرونوفا رسالة بريد إلكتروني تبلغها بإيقاف تمويلها نتيجة لأحد أوامر ترامب التنفيذية. فإلى أين تذهب؟ ليس العودة إلى روسيا خيارًا مطروحًا. وفي حال انحياز ترامب لبوتين، لن تكون الولايات المتحدة خيارًا مطروحًا هي الأخرى.

«وحتى المريخ سوف يستعمره ماسك» حسبما قالت ميرونوفا.

ماشا جيسن صحفي روسي من كتاب الرأي في نيويورك تايمز

خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

تصعيد متبادل بين روسيا وأوكرانيا وسط مساع لعقد لقاء مباشر بين بوتين وزيلينسكي في إسطنبول

عواصم "وكالات": شنت روسيا وأوكرانيا هجمات متبادلة وسط تكهنات بشأن إمكانية التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو إجراء محادثات مباشرة بين زعيمي البلدين.

وذكرت هيئة الأركان العامة الأوكرانية في كييف أن أوكرانيا تعرضت خلال إلى ما مجموعه 133 هجوما روسيا، تم صد خمسين منها قرب مدينة بوكروفسك في منطقة دونيتسك شرقي أوكرانيا.

كما أبلغ عن 45 غارة جوية روسية وعدد كبير من الهجمات باستخدام طائرات مسيرة انتحارية في مناطق مختلفة، إلا أنه لم يتسن التحقق من هذه الأرقام بشكل مستقل.

وأفادت القوات الجوية الأوكرانية أن مناطق أوديسا وميكولايف ودونيتسك وجيتومير كانت من بين المناطق المستهدفة بالهجمات الروسية.

وفي روسيا، أطلقت صافرات الإنذار الجوية في منطقة روستوف الجنوبية، وفقا لما أفاد به الحاكم المحلي يوري سليوسار، الذي ذكر عبر تليجرام أنه تم صد هجوم ليلي بطائرات مسيرة دون وقوع إصابات أو أضرار على الأرض.

وتخوض أوكرانيا وروسيا الحرب منذ أكثر من ثلاث سنوات بدعم من الغرب. وفي الفترة الأخيرة، كثفت واشنطن جهودها للتوسط من أجل وقف دائم لإطلاق النار بين الجانبين.

وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن هناك احتمالا بأن يسافر إلى تركيا لحضور محادثات محتملة بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.

ورحب زيلينسكي بإمكانية انخراط ترامب، داعيا إلى وقف شامل لإطلاق النار، ومعبرا عن دعمه لعقد مفاوضات مباشرة مع بوتين في إسطنبول الخميس.

وقال زيلينسكي في خطابه الليلي: "للأسف، لم يتلق العالم حتى الآن ردا واضحا من روسيا على العديد من مقترحات وقف إطلاق النار. القصف الروسي والهجمات مستمرة".

وأضاف: "عاجلا أم آجلا، ستضطر روسيا إلى إنهاء هذه الحرب، وكلما كان ذلك أسرع، كان أفضل".

وفي حين كان بوتين هو من طرح توقيت ومكان المحادثات المباشرة، لم يتضح أبدا ما إذا كان ينوي المشاركة فيها بنفسه.

وفي تصريحات للكرملين حول الحرب لم يذكر ما إذا كان بوتين سيلتقي زيلينسكي، كما استمر المتحدث باسمه في رفض دعوات كييف وحلفائها لوقف إطلاق نار لمدة 30 يوما.

الكرملين يرفض

أعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية (الكرملين)، دميتري بيسكوف، اليوم، أن روسيا تواصل التحضيرات للمفاوضات المقررة في 15 مايو الجاري في إسطنبول.

وقال بيسكوف، للصحفيين، إن "الجانب الروسي يواصل الاستعداد للمفاوضات المقرر إجراؤها الخميس المقبل في إسطنبول "، بحسب ما ذكرته وكالة سبوتنيك الروسية للأنباء.

وأضاف بيسكوف أن روسيا تعتزم الإعلان عمن سيمثلها في المفاوضات مع أوكرانيا بمجرد أن يرى بوتين ذلك ضروريا.

وأشار بيسكوف إلى أن أوروبا تقف إلى جانب أوكرانيا ولا يمكنها أن تدعي اتباع نهج متوازن في المفاوضات.

وقال بيسكوف، للصحفيين، ردا على سؤال حول ما إذا كان للقادة الأوروبيين مكان على طاولة المفاوضات في تركيا "أقترح عليكم مجددا التركيز على تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إذا تحدثنا بشكل عام عن مشاركة أوروبا في عملية تفاوضية محورية كهذه، فبما أن أوروبا تقف كليا إلى جانب أوكرانيا، فلا يمكنها ادعاء اتباع نهج محايد ومتوازن".

مقالات مشابهة

  • بوتين: روسيا لا تزال تزود الولايات المتحدة بالوقود النووي
  • عاجل|ترامب: مستعد لاستخدام القوة العسكرية للدفاع عن السعودية وحلفاء الولايات المتحدة
  • تصعيد متبادل بين روسيا وأوكرانيا وسط مساع لعقد لقاء مباشر بين بوتين وزيلينسكي في إسطنبول
  • أكثر من عدد سكان ألمانيا.. رقم صادم لأعداد النازحين في العالم
  • بوتين: روسيا تواصل بنجاح تطوير التعاون مع دول العالم الإسلامي
  • أخبار العالم| الصين وأمريكا تتفقان على إنشاء آلية تشاور تجاري.. ترامب يشكر مصر وقطر بعد الإفراج عن عيدان ألكسندر.. وزيلينسكي يوافق على لقاء بوتين
  • بوتين يشيد بجنود كوريا الشمالية الذين قاتلوا مع روسيا
  • زيلينسكي: مستعد للقاء بوتين في تركيا في هذا الموعد
  • زيلينسكي يعرض لقاء بوتين في تركيا لإجراء محادثات مباشرة مع روسيا
  • زيلينسكي: أنا مستعد للقاء بوتين في تركيا يوم الخميس