حين أرسل إليّ الصديق العزيز، الأستاذ صلاح شعيب، هذه النسخة الإلكترونية من كتاب "التصوف والسياسة في السودان"، وجدت نفسي مأخوذًا منذ اللحظة الأولى بموضوعه. كنا قد خضنا نقاشًا مطولًا حول التصوف في السودان ودوره في السياسة، وعندما وصلني الكتاب، شرعتُ في قراءته بشغف عجيب، مدفوعًا برغبة في الغوص في هذا التداخل المعقد بين الروحي والسياسي في تاريخ السودان.

ومنذ الصفحات الأولى، بدا لي أن الكاتب يطرح رؤى تتطلب قراءة تفكيكية تتجاوز السطح النصي إلى بنيته العميقة، محاولًا تحليل الخطاب الكامن وراءه.
يقدم الكتاب تحليلًا موسعًا للتفاعل بين التصوف والسياسة في السودان، بدءًا من دولة الفونج (1504) وحتى الفترة الانتقالية (2022). يعتمد المؤلف على سرد تاريخي يُظهر كيف شكلت الطرق الصوفية، مثل السمانية والختمية والقادرية، قوة اجتماعية وسياسية، لا سيما في مقاومة الاستعمار وبناء الهوية الإسلامية. لكن رغم شمولية الإطار الزمني، يمكن ملاحظة تركيز الكاتب على الفترات الإسلامية المبكرة دون التعمق الكافي في التحولات الحديثة، مثل دور الصوفية في مواجهة الأنظمة العسكرية، خاصة في عهد النميري وبعد انقلاب 1989. كما أن الكتاب لم يتوسع في تحليل تأثير العولمة والحركات السلفية على تراجع النفوذ الصوفي، وهي عوامل كان من شأنها أن تثري النقاش حول طبيعة التحولات الصوفية في العصر الحديث.
يُجادل الكتاب بأن الصوفية لم تكن "دمى في يد الأنظمة"، بل كانت ضمانة لحماية الدين من الاستغلال السياسي. ويستشهد المؤلف بمواقف شيوخ الصوفية الذين رفضوا الانخراط في الصراعات السياسية المباشرة، مع الحفاظ على دورهم كوسطاء اجتماعيين. لكن هنا يظهر التناقض في الطرح، حيث يناقش الكاتب أيضًا تحالف بعض الشيوخ مع الأنظمة العسكرية، مثل حكومة الإنقاذ، لكنه يفسر ذلك كـ"استثناء" ناتج عن استغلال السلطة لهم. غير أن هذا التفسير يبدو قاصرًا، إذ لم يتناول الكاتب آليات هذا الاستغلال بشكل معمق، كما لم يحلل كيف قاومت الطرق الصوفية هذا النفوذ السياسي، أو إن كانت بالفعل قد نجحت في تحييد نفسها عنه.
على مستوى المنهجية، يعتمد المؤلف على مزيج من المصادر الأولية، مثل المقابلات مع شيوخ الصوفية، والمصادر الثانوية كالأدبيات التاريخية. هذا الأسلوب يضفي طابعًا توثيقيًا على الكتاب، لكنه في ذات الوقت يطرح تساؤلات حول الحياد البحثي، إذ أن المقابلات مع الصوفيين قد تعكس تحيزًا ذاتيًا، بينما يغيب في الكتاب صوت المعارضين أو النقاد الخارجيين. كما أن غياب المراجع الأرشيفية الداعمة، مثل الوثائق الحكومية أو المراسلات التاريخية، يجعل بعض الاستنتاجات بحاجة إلى تدعيم إضافي.
يرى الكاتب أن التصوف يشجع التعددية ويرفض الإقصاء، مشيرًا إلى أن كل شيخ يمتلك طريقته الخاصة في التعبد والممارسة. ويذهب أبعد من ذلك بمقارنته مع الليبرالية، حيث يُصور المسيد أو الزاوية كنموذج مصغر لدولة المواطنة التي تذوب فيها الانقسامات القبلية. هذه المقاربة تفتح أفقًا جديدًا لفهم التصوف، لكنها قد تكون مبالغًا فيها. فبعض الطرق الصوفية تعاني من مركزية شديدة في السلطة الروحية للشيخ، وقد تكرس الانقسامات بين مريديها بدلًا من إذابتها. كما أن فكرة "التصوف الليبرالي" تتعارض مع الممارسات الصارمة لبعض الطرق، حيث لا يزال بعض الشيوخ يفرضون طقوسًا متشددة لا تترك مجالًا كبيرًا للفردانية أو التعددية الفكرية.
عند مناقشة علاقة الصوفية بالأنظمة العسكرية، يفند الكتاب الادعاء بأن الطرق الصوفية كانت دائمًا حليفة لهذه الأنظمة، مشيرًا إلى أن هذا الاستقطاب السياسي أضر بسمعتها في بعض الفترات. يوضح كيف استخدمت حكومة الإنقاذ الصوفية كأداة لتقويض الأحزاب التقليدية، مثل الأمة والاتحادي. لكن رغم أهمية هذه الإشارة، فإن التحليل يظل ناقصًا، إذ لم يناقش الكاتب الأسباب الهيكلية التي جعلت الصوفية عرضة للاستغلال، مثل ضعف التنظيم المؤسسي للطرق الصوفية واعتمادها على الزعامات الفردية، مما سهّل على الأنظمة السياسية استقطاب بعض رموزها.
على مستوى الإسهامات، يبرز الكتاب دور الصوفية في بناء السلام الاجتماعي، حيث استخدمت الطرق الصوفية كوسيط في حل النزاعات القبلية، وساهمت فيما يمكن وصفه بـ"الدبلوماسية الشعبية" من خلال نشر الإسلام بطريقة سلمية في مناطق متعددة. لكن في المقابل، يغيب عن الكتاب تحليل الصوفية في جنوب السودان، رغم وجود ممارسات صوفية هناك قبل انفصال الجنوب. كما أن البعد الاقتصادي لم يحظَ بالاهتمام الكافي، رغم أن بعض الطرق الصوفية كانت تسيطر على شبكات اقتصادية واسعة، مما أثر على علاقتها بالسلطة والمجتمع.
إعادة قراءة النص من زاوية تفكيكية تكشف أن الكتاب ليس مجرد سجل تاريخي محايد، بل هو خطاب يحمل رؤية ضمنية عن التصوف ودوره في السودان. ثمة تردد واضح بين تقديم التصوف كفاعل مستقل عن السياسة، وبين الاعتراف بأنه كان جزءًا من اللعبة السياسية في فترات متعددة. هذا التوتر بين الرؤيتين يعكس تناقضًا لم يُحسم بالكامل داخل النص، وهو ما يجعل القراءة النقدية ضرورية لفهم مآلاته الفكرية. لكن هذا ليس بالعيب أو النقصان من قيمة هذا السفر، بل هي ملاحظات وتأملات قارئ يحاول فهم دقائق الأشياء، ويبحث عن مقاربة نقدية تضيء النص من زوايا متعددة.
يبقى الكتاب، رغم هذه الملاحظات، إضافة مهمة للمكتبة السودانية، حيث يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول علاقة الدين بالسياسة. لكنه في نهاية المطاف ليس نصًا مغلقًا، بل نص قابل لإعادة التأويل، وهو ما يجعله محفزًا لحوارات أعمق حول التصوف والسياسة، ليس فقط في السودان، بل في العالم الإسلامي عمومًا.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الطرق الصوفیة فی السودان الصوفیة فی کما أن

إقرأ أيضاً:

رجال دين: “الجبادات” حرام شرعا

كسلا- متابعات تاق برس- دشنت إدارة توزيع كهرباء ولاية كسلا ـ شرق السودان بالتنسيق مع الولاية والجهات الدعوية، اليوم الجمعة، حملتها التوعوية لترشيد استهلاك الكهرباء ومكافحة التوصيلات العشوائية “الجبادات” وذلك ضمن برنامج خطة عمل لحملة من عدة مراحل توعوية وفنية.

 

وتناول خطيب المسجد الكبير بكسلا د. عبدالرحمن الحذيفي، في خطبته أهمية الكهرباء باعتبارها واحدة من أساسيات الحياة في واقعنا المعاصر، مشيداً بالأدوار الكبيرة التي يقوم بها مهندسو وفنيو الكهرباء في ظل ظروف بالغة التعقيد، مقدّماً الشكر لهم على تضحياتهم الكبيرة، ومترحماً على أرواح الشهداء من منسوبي قطاع الكهرباء الذين فقدوا حياتهم أثناء أداء واجبهم المهني.

 

وحذر الخطيب من خطورة التوصيلات العشوائية، واصفاً إياها بأنها “حرام شرعاً” لما تمثله من ضرر عام على المجتمع، واعتداء على المال العام، وسرقة للطاقة، إضافة إلى ما تسببه من حوادث مؤسفة وحرائق تهدد الأرواح والممتلكات.

 

وأوصى د. الحذيفي المصلين بضرورة التعاون مع إدارة الكهرباء في إزالة هذه التوصيلات غير القانونية، وإنكارها في المجتمع، والتبليغ عنها، داعياً إلى تعزيز ثقافة الوعي والالتزام بالقانون، ومعتبراً أن حماية الشبكة الوطنية واجب ديني وأخلاقي ووطني.

 

وتأتي هذه الحملة في إطار جهود كهرباء ولاية كسلا لنشر الوعي بخطورة التوصيلات العشوائية، والتقليل من الفاقد الكهربائي، وضمان استدامة الخدمة للمواطنين، عبر برامج توعوية وإرشادية تمتد لتشمل المساجد والمدارس والأسواق والمؤسسات العامة.

 

و دعا إلى تنظيم المبادرات الشعبية داخل الأحياء بالتنسيق مع لجان التغيير والخدمات، ولجان المقاومة، ولجان الأمن المجتمعي، لحماية المنشآت العامة وتوعية المواطنين بمخاطر التوصيلات العشوائية، مؤكداً أن الدين يدعو إلى الأمانة في التعامل مع المال العام، وأن السلامة لا تتحقق إلا بالالتزام والتعاون.

 

ولفت مجلس التنسيق الاعلامي لشركة كهرباء السودان باستمرار الحملات في كافة ولايات السودان لتحقيق أهداف التوعية والسلامة وتحقيق مزيد من الاستقرار في الشبكة بشراكة مع المواطن لتحقيق التنمية والإعمار.

الجباداتسرقة الكهرباءكسلا

مقالات مشابهة

  • منتخب السودان “المدرسي” يخسر أمام ساحل العاج ويودع البطولة
  • المتنبي مخترعاً: قراءة في كتاب «عيون العجائب»
  • شعر نبطـي وأغنية شعبيـة تضيئـان أمسيـة “جرش 39” بعمان
  • مشاركةٌ فاعلةٌ للمركز الوطنيِّ للوثائق والمحفوظات في “كتاب المدينة”
  • من النص إلى الواقع.. جدلية التربية وحقوق الإنسان في العالم العربي قراءة في كتاب
  • مبادرة “أممية” لتأهيل 40 موقعا للمياه في شرق السودان
  • تهنئة وتبريك للدكتور علي الشروقي بمناسبة الترفيع إلى الدرجة الخاصة في المجلس القضائي الأردني
  • رجال دين: “الجبادات” حرام شرعا
  • “الدعم السريع” تنشئ كلية حربية في إحدى مدن غرب السودان
  • كتاب يعيد قراءة سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين