د. نزار قبيلات يكتب: هل الفكاهة مهارة أم فلسفة؟
تاريخ النشر: 10th, March 2025 GMT
لا شك أن الشخص الذي يتمتّع بحسّ الفكاهة والطرفة هو شخص إيجابي، يَلقى الكثير من التّقبل والاستحسان من الآخرين، بل ويحظى بمكانة متفرّدة بينهم، فقد أثبتت دراسات كثيرة أن مثيري الضحك وأصحاب الطُرفة هم أشخاص قادرون على التخفيف من حِدة الاكتئاب والقلق لدى مجالسيهم، هذا إذا لم يكن الضحك نفسه دواءً للعديد من الأمراض المستعصية كما أثبتت إحدى الدراسات العلمية التي أجريت في الصين مؤخراً، لكن هل الفكاهة سلوك فكري تلقائي، أم هي مهارة يمكن التمرّن عليها وتأديتها؟ لقد شاعت في منتصف الثمانينيات من القرن الفائت ثقافة الكوميديا في المقاهي والمسارح العالمية، وهي عبارة عن أداء فردي يقوم به «كوميديان» أمام جمهور يحرص في أدائه على إضحاك الحضور، ومن أشهرهم في الولايات المتحدة الأميركية تشارلي تشابلن، إيدي ميرفي، وجيري سينفيلد، فقد حقق هؤلاء شهرةً عالية وبالمقابل أرباحاً كبيرة، جراء استحسان الجمهور لهذا الفنّ وحاجتهم إلى الاسترواح بالهزل، هاربين بذلك من ثقل الجدّ ومَراسمه المتعبة، فبها يستعيد الإنسان نشاطه ويجدد همّته، بل إن الجاحظ أوصى بالفكاهة والضحك، لا سيما للعلماء وأهل البحث والنّظر الذين تطغى على محياهم مظاهر الجدّة والعبوس والصّرامة عادةً، كل ذلك مشروط بأن يكون المُزاح أو الهزل في وقته وسياقه، فلا يليق مثلاً الهزل بالمحامي، في حين يصلح للمحاضرين وإن كانوا أكاديميين، والهزل دليل على أن صاحبَه فارغ البال، غير مهموم، حاله حسنة، على ألا يؤدي الهزل إلى الإفراط بالواجبات والإهمال كالابتعاد عن الموضوع والواجبات الرئيسية.
أما الجاحظ فقد استخدم الفكاهة، عبر سرد قصص النوادر والطرائف في كتابيه «الحيوان» و«البيان والتبيين»، كفلسفة ونهج في التأليف، بُغيته من ذلك جذب القارئ وتقديم الموضوعات بطرق غير تقليدية، رغم أنه طرح مسائل علمية بحتة، فاستطاع أن يلج إلى عمقها تحليلاً واستقصاءً، دون أن يُفقد تلك المسائل أهميتها الأدبية والتاريخية، وبذلك جعل من الإضحاك والمزح جِدةً ووقاراً، كما أعانته الفكاهة على تنويع أبواب كتبه وطرح مواضيع متنوعة بسهولة، باعتبار أن الضحك والرغبة به ظاهرة اجتماعية لا يمكن تجاوزها لأنها تخفف من أثقال الحياة وأعباء الواجبات المنوطة بالإنسان، فقد عدّها فلسفةً وفناً ساخراً لا يُتقن بتلك السهولة واليسر، فقيمة أسلوب الفكاهة الشفوية والمكتوبة تكمن في قدرتها على إظهار شخصيات ثانوية وخطابات مضمرة أو مسكوت عنها في عُرف سلطة النّص الجامد الذي يحكم على النص وصاحبه تبعاً لجديته وقيمته الثابتة، وهو بالتالي رسالة يراد منها هدم نمط معين من السلوكيات العامة.
*أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: نزار قبيلات
إقرأ أيضاً:
يوسف عبدالمنان يكتب: كادقلي تحتضر
لمن نكتب؟ ومن يقرأ؟ وما جدوى الكتابة إذا كان مردودها التجاهل والتسفيه ممّن يُفترض فيه المسؤولية؟
بلادنا كلها تحتضر، وليس مدينة كادقلي وحدها، رغم تضحيات القوات المسلحة بكل مكوناتها. لا تزال هناك مدن صامدة في وجه التمرد المليشي، والحصار، والتجويع، والقصف العنيف للأحياء، وقتل الناس بالعشرات.
الفاشر، منذ عام، تنتظر وصول المدد وفك الحصار، وطال انتظارها كما انتظر “صلاح ابن البادية” في ليلة سبتٍ لن تأتي. وهناك بابنوسة… لكن الوضع الأسوأ هو في جبال النوبة، وعاصمتها كادقلي الساحرة، الصابرة، الصامدة، في وجه التجويع والمعصية على “الحركة الشعبية – شمال”، والمستحيلة على مليشيا آل دقلو الوصول إلى “كلمو” و”حجر المك” و”حجر النار”.
+ عامان من الحصار والتجويع
مرّ أربعة وعشرون شهرًا من الحصار والتجويع. وكان الأمل معقودًا على متحرّك “الصياد”، لكن هذا الأمل تبدّد في هذا الصيف، وتراجع “الصياد” من الدبيبات إلى أطراف الأبيض. أما المنافذ التي كانت تغذّي المدينة من جنوب السودان، فقد أُغلقت من قِبل مليشيا آل دقلو، التي سقطت في يدها “أم عدارة” و”لقاوة”، وفشلت كل مساعي تشغيل مطار كادقلي، سواء بالتفاوض أو بتأمينه.
تبعًا لذلك، ارتفعت أسعار السلع الضرورية إلى حدّ الجنون؛ فقد بلغ سعر كوب السكر الأبيض عشرة آلاف جنيه. شحّت السيولة، وانعدم الوقت، وحتى الأمطار التي كانت تهطل بغزارة في يونيو، أمسكت عن الهطول. وساءت أوضاع المواطنين في الأسبوعين الأخيرين كما لم تسُؤ من قبل.
+ تحية للصامدين
مما يُحسب للوالي محمد عبد الكريم، صموده مع المواطنين في كادقلي، وشجاعته في مواجهة الأزمة. لم يجزع، بل ظل صامدًا، مستمدًا من اللواء فيصل السائر روح التحدي والمقاومة. ولو أنصفت الدولة أهل العطاء، لنال فيصل وسام الجدارة، ونال الوالي وسام الصمود، ومعهم الشرطة، وجهاز الأمن، والجبل، والمائة في جبال النوبة. كافي طيارة البدين، الفارس الذي لو وصلت قوات الصياد إلى الدلنج، لوجدت أربعة آلاف من الرجال الأشداء من فرسان جبال النوبة لحماية الأرض وتأمينها، ورفع الحصار اللئيم عن الدلنج، وعودة الحياة إلى طبيعتها.
لكن بكل أسف…
حدث ما حدث في الدبيبات، فعادت المليشيا إلى هناك، وفرضت على الأهالي الهجرة القسرية، إلا من يواليها، أو ارتضى العيش تحت الذل والهوان.
والدبيبات، التي دفعت “الحركة الشعبية” بأكثر من أربعمائة مقاتل للقتال إلى جانب آل دقلو، لم تسأل الحركة نفسها:
من نكّل بالنوبة في الدبيبات نفسها؟
من صادر بيوت النوبة، ونهب أموالهم، وانتهك أعراضهم؟
من كان يقتل النوبة على أساس الهوية العرقية؟
ومن حرّض على استباحة الدلنج؟
أي عارٍ هذا، أيها الرفاق، قد حاق بكم في هذا الزمان؟
+ العار والدعم الخفي
أما الإمارات العربية المتحدة، فإن حكّام أبوظبي لا يدفعون السلاح لعبد العزيز الحلو لإعادة الجنجويد إلى الكلاكلة وشارع الستين، بل من أجل قتل النوبة في “الريكة”، و”طروجي”، و”الدلنج”، و”سوق الجبل”.
+ نداء اللحظة الأخيرة
كادقلي الآن تحتضر جوعًا، وتنتظر هبّة أبناء جبال النوبة جميعًا:
عربًا، وأجانق، وميري، ومورو، وأولاد حميد، وكواهلة، وكنانة، وبرقو، وفلاتة… لتحرير أرضهم بأيديهم، بغض النظر عن تقديرات الحكومة التي لا تشعر مطلقًا بأنين الجوعى، وصراخ المرضى، وتشغلها ما دون ذلك.
يوسف عبدالمنان
إنضم لقناة النيلين على واتساب