جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-14@03:25:13 GMT

العلاقات بعد الخمسين.. جوهر لا عدد

تاريخ النشر: 10th, March 2025 GMT

العلاقات بعد الخمسين.. جوهر لا عدد

 

 

سلطان بن ناصر القاسمي

منذ نعومة أظفاره، يبدأ الإنسان في تكوين علاقاته الأولى؛ حيث تكون أسرته هي الدائرة الأقرب التي تمنحه أولى دروس التواصل والمودة، ثم تتوسع هذه الدائرة شيئًا فشيئًا، فيتعرف على الجيران، ثم رفاق الطفولة، ثم زملاء الدراسة، حتى تتشعب علاقاته في مختلف مراحل حياته، وصولًا إلى زملاء العمل وأصدقاء العمر الذين يصنع معهم ذكرياته.

ومع مرور الوقت، تتغير طبيعة هذه العلاقات، فبعضها يترسخ ويستمر، بينما يختفي البعض الآخر كما لو لم يكن موجودًا. ومع ذلك، لا يدرك الإنسان حقيقة العلاقات الأكثر أهمية إلا بعد أن يتجاوز سن الخمسين؛ حيث يكتشف أن ما تبقى منها ليس بالعدد الكبير، ولكنه الأكثر صدقًا وتأثيرًا في حياته.

تمر السنوات، وينضج الإنسان من خلال التجارب التي يعيشها، فيتعلم أن العلاقات ليست مجرد أعداد تُحصى؛ بل هي أرواح تتلاقى وتؤثر في بعضها البعض، فبعضها يمنحه القوة، بينما بعضها الآخر يسرق منه طاقته، في حين يبقى البعض كمرآة تعكس أجمل ما فيه. وعند تجاوز الخمسين، يُدرك أنَّ ما تبقى له من علاقاته الماضية لا يتجاوز 10% مما كان يُحيط به في شبابه، ولكنه رغم ذلك لا يشعر بالخسارة؛ بل على العكس، يرى في هذه النسبة الصغيرة كنزًا ثمينًا يستحق أن يُحافظ عليه، فهو لم يعُد بحاجة لعلاقات كثيرة تُثقل كاهله بمتطلباتها، وإنما يكفيه بضع قلوب صادقة تُشعره بأن وجوده مهم، بحيث إنه إن غاب، سُئل عنه، وإن حضر، وجد من يرحب به بمحبة خالصة.

وفي هذه المرحلة العمرية، تتشكل العلاقات وفق معايير أكثر دقة ونضجًا، فالرجل في الخمسين لا يعود بحاجة إلى المجاملات الزائفة أو التواجد في دوائر اجتماعية لا تضيف إليه؛ بل على العكس، يبحث عن روابط تحمل معنى حقيقيًا. قد يجد نفسه أكثر تعلقًا بجيرانه الذين يلقاهم في المسجد، أو بأصدقاء يجلس معهم ليروي لهم ذكرياته، أو بأشخاص يتشاركون معه اهتمامات هادئة تتناسب مع هذه المرحلة العمرية. فهنا، لا يكون الغرض من العلاقة مجرد قضاء الوقت؛ بل إنه يتعلق بإيجاد من يشاركه لحظات الحياة ببساطة وصدق.

وبمرور الأيام، يصبح السؤال عن الغائب عادة محببة في هذه المرحلة، فلا تمر أيام دون أن يتساءل رجل الخمسين عن أحد معارفه: "أين فلان؟ لم نره اليوم؟ عسى أن يكون بخير". هذا السؤال البسيط يحمل في طياته عمقًا إنسانيًا، ويعكس مدى أهمية العلاقات التي تبقى بعد هذه السن؛ إذ إنها ليست علاقات قائمة على المصالح؛ بل إنها مبنية على الألفة الحقيقية. وبذلك، تمنح هذه الروابط الإنسان شعورًا بالاطمئنان، وتذكّره بأنه ليس وحيدًا؛ بل هناك دائمًا من يفكر فيه، حتى لو لم يكن قريبًا منه.

وهنا تتجلى أهمية العلاقات في سن الخمسين؛ حيث تصبح أكثر واقعية في أسلوب التعامل مع الآخرين، وأكثر نقاءً وصدقًا. ومع ذلك، وكما لكل قاعدة استثناء، هناك قلة ممن تمتد معهم مرحلة ما قبل الخمسين إلى ما بعدها دون أن يواكبوا هذا النضج، فتجد الفراغ يملأ وقتهم وعقولهم، مما يدفعهم إلى التدخل في أحاديث الآخرين بشكل سلبي، أو الانشغال بانتقاد هذا وذاك، وكأنهم لم يدركوا بعد قيمة الهدوء وراحة البال. هؤلاء، رغم قلتهم، يعيشون في دائرة من التذمر المستمر، مما يجعل تعاملهم مع من حولهم مشوبًا بالسلبية. ونصيحتي لمثل هؤلاء أن يعيدوا اكتشاف متعة الحياة ببساطة وهدوء، وأن يبدأوا من أقرب دوائرهم، عبر تعزيز علاقتهم بأفراد أسرهم وعائلاتهم، والتواصل الدائم مع جيرانهم وجماعة المسجد الذين يتشاركون معهم لحظات يومية ذات معنى. فهؤلاء هم وحدهم من سيشعر بغياب الرجل الخمسيني إذا اختفى لفترة، وهم من سيتساءلون عنه بصدق: "أين فلان؟ لم نره اليوم؟" وهذا السؤال البسيط هو الركن الأساسي الذي تقوم عليه العلاقات الحقيقية في هذه المرحلة من العمر.

وعلى النقيض من ذلك، نجد أن بعض الأشخاص قد لا يحسنون الاستفادة من هذه المرحلة، إذ إنهم ينغمسون في العزلة أو يمارسون النقد المستمر لكل من حولهم، وكأنهم فقدوا القدرة على الاستمتاع بالحياة. هؤلاء، رغم ندرتهم، يشعرون بفراغ قاتل، فيبحثون عن أي شيء لملئه، حتى لو كان ذلك عن طريق انتقاد الآخرين أو التدخل في شؤونهم بلا داعٍ. وهنا يكون الفرق واضحًا بين من يختار أن يعيش سنواته المقبلة بروح هادئة ومستقرة، وبين من يسمح للماضي بأن يسرق منه لحظات حاضره.

والأجمل في هذه المرحلة العمرية أنها تمنح الإنسان فرصة ذهبية لمراجعة علاقاته، فيتخلص مما كان عبئًا عليه، ويُبقي فقط على ما يمنحه السكينة. ولهذا السبب، لا يعود هناك مجال للعلاقات المتكلفة أو التي تستهلك طاقته دون مقابل. وبما أن التجارب تتراكم مع مرور السنوات، يصبح أكثر حكمة في التعامل مع الناس، وأكثر إدراكًا لقيمة الصداقات الحقيقية. وبالتالي، تظهر أهمية أن يكون الإنسان صانعًا لعلاقاته، لا مجرد مستقبل لها، فمن يتحلى بالاحترام وحسن الخلق، يجد حوله من يبادله المشاعر ذاتها، ومن يحترم خصوصيات الآخرين، يحظى بعلاقات قائمة على الثقة والاحترام.

وقد أشار الكاتب البريطاني جرانت فيلر إلى أن الرجل في سن الخمسين يكتسب قدرة كبيرة على إدارة مشاعره بطريقة أكثر وعيًا، فهو من ناحية لم يعد ذلك الشاب الذي يندفع في ردود أفعاله، ومن ناحية أخرى أصبح أكثر ميلًا للهدوء والتروي قبل إصدار الأحكام. كما أن اهتماماته تتغير؛ إذ يميل إلى البحث عن الراحة والاستمتاع بأمور لم يكن يجد لها وقتًا في شبابه، فيصبح أكثر قربًا من ذاته، وأكثر انتقائية فيما يخص الأشخاص الذين يسمح لهم بالبقاء في حياته. وبناءً على ذلك، تجعل هذه التغيرات علاقاته أكثر واقعية وأقل توترًا، لأنه لم يعد بحاجة للإثبات أو التنافس، وإنما أصبح الجوهر هو ما يحكم اختياراته.

ولكن رغم كل هذا، تبقى هناك تحديات تواجهه، فأحيانًا يجد نفسه أمام أشخاص لم يتغيروا، ما زالوا غارقين في المشاحنات الصغيرة، أو يسعون لإقحامه في أحاديث لا جدوى منها. وعند هذه النقطة، يظهر الفرق بين من يستطيع أن يضع حدودًا واضحة لعلاقاته، وبين من ينجرف مع التيار بلا وعي. الرجل الناضج في هذه المرحلة يعرف متى يصمت، ومتى يتحدث، ومتى ينسحب، وذلك لأنه يدرك أن راحته النفسية ليست قابلة للمساومة.

لهذا السبب، فإن أفضل ما يمكن لرجل الخمسين أن يفعله هو أن يعيد تعريف علاقاته وفق ما يناسبه، لا وفق ما يتوقعه الآخرون منه. يبدأ أولًا بتحسين علاقته بأسرته، لأن العائلة هي الدائرة الأولى التي تظل ثابتة مهما تغيرت الظروف. وبعد ذلك، يحرص على التواصل مع جيرانه، لأنهم أقرب الناس إليه في يومياته. وكذلك يُولي اهتمامًا بجماعة المسجد التي تجمعه بهم لحظات روحانية صادقة. فهذه الدوائر الصغيرة هي التي تشكل دعائم حياته في هذه المرحلة، وهي التي تضمن له أنه لن يكون يومًا مجرد اسم يُنسى إذا غاب.

وفي الختام.. إنَّ العلاقات الذهبية بعد الخمسين ليست مجرد صداقات تُعد على الأصابع؛ بل هي قبل كل شيء تلك الروابط التي تترك أثرًا في القلب، وتمنح الحياة معنًى أعمق. لذلك، من ينجح في اختيار من يبقى معه في هذه المرحلة، يعيش بهدوء وسلام، أما من يظل يبحث عن علاقات سطحية لا تضيف إليه، فقد يفوّت عليه فرصة الاستمتاع بأجمل سنوات عمره. والدرس الأهم هنا أن العِبرة ليست بعدد من حولك؛ بل بمن يستطيع أن يظل معك حتى النهاية، يتذكرك بحب، ويسأل عنك بصدق، ويشعر بغيابك وكأن جزءًا منه قد اختفى.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

لا يمكن لأي سيناريو أن يُقسِّم الصين: قصة التِبْت ليست لهم ليروُها

 

 

 

ليانغا جون يان **

 

منذ العام الماضي، عُرض عددٌ من الأفلام الداعمة لما يُسمى "استقلال التِبْت" بشكل مُتتالٍ، ومن المُقرر عرض فيلمين منها خلال فترة مهرجان (كان) السينمائي لهذا العام في فرنسا، على الرغم من أنهما ليسا جزءًا من المهرجان نفسه.

يحاول الفيلمان تلميع صورة الدالاي لاما الرابع عشر، وتصوير ما يُسمى بـ"التِبْتيين في المنفى" بصورة مُتعاطفة. هذا يعكس الأسلوب القديم للدالاي لاما في استخدام مهرجانات الأفلام لإثارة الزخم وجذب الانتباه والتعاطف الدولي مُجددًا لما يُسمى "قضية التِبْت".

لقد أظهرت الأدلة الأثرية والوثائقية منذ زمن طويل أنَّ التِبْت كانت جزءًا لا يتجزأ من الصين؛ ففي 23 مايو 1951، وقّعت الحكومة الشعبية المركزية والحكومة المحلية في التِبْت على "اتفاقية الإجراءات لتحرير التِبْت سلميًا". عُرفت الاتفاقية بـ"اتفاقية 17 بندًا"، وقد شكّلت علامة على التحرير السلمي للتِبْت. وفي 24 أكتوبر، أرسل الدالاي لاما الرابع عشر برقية إلى ماو تسي تونغ، رئيس الحكومة الشعبية المركزية وقتها، أعلن فيها علنًا أنه سيدعم ويُنفذ الاتفاقية. 

لكن بعد عام 1957، تآمر الدالاي لاما الرابع عشر مع القوى الانفصالية في الطبقة العليا بالتِبْت لدعم توسيع التمرد من المناطق المحلية إلى تمرُّد مسلح شامل، ومزّق علنًا "اتفاقية 17 بندًا". وفي مارس 1959، وفي محاولة للحفاظ على نظام القنانة الإقطاعي في التِبْت، أطلقت القوى الرجعية في الطبقة العليا بالتِبْت تمردًا مسلحًا. فرّ الدالاي لاما الرابع عشر إلى الهند وأسس ما يسمى بـ"حكومة التِبْت في المنفى" غير القانونية، بهدف تقسيم الصين وتحقيق "استقلال التِبْت". 

ومُنذ نفيه في عام 1959، تم تمويل جماعة الدالاي من قبل القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة للانخراط في قضية "استقلال التِبْت" لتقسيم البلاد. وعلى سبيل المثال، قدَّم صندوق التِبْت ومقره الولايات المتحدة، والذي يتم تمويله بشكل رئيسي من الحكومة الأمريكية، ملايين الدولارات سنويًا لجماعة الدالاي. وفي السنوات الأخيرة، أنفقت الحكومة الأمريكية عشرات الملايين من الدولارات سنويًا لدعم جماعة الدالاي. 

وترتبط الأنشطة الانفصالية لجماعة الدالاي ارتباطًا وثيقًا باحتياجات الولايات المتحدة والغرب المعادية للصين. فقد أصبحت جماعة الدالاي أداة للولايات المتحدة والغرب لاحتواء الصين. إن دعم الولايات المتحدة والغرب لجماعة الدالاي وتركيزهما على ما يسمى بـ"قضية التِبْت" ليس بدافع القلق على ثقافة التِبْت أو دينها أو حقوق الإنسان فيها؛ بل لأغراض سياسية معادية للصين تمامًا. لم يؤدِ دعم الولايات المتحدة للدالاي لاما إلى خلق انقسام بين الصين وما يسمى بـ"التِبْتيين في المنفى" فحسب؛ بل أيضًا إلى تقويض تحسين وتطوير العلاقات الصينية-الأمريكية. 

وفي السنوات الأخيرة، أصبح المزيد والمزيد من أبناء التِبْت في الخارج يكرهون الأنشطة الانفصالية. إما أنهم ينأون بأنفسهم عن المجموعات الانفصالية أو يعودون إلى الصين لبذل قصارى جهدهم في بناء وطنهم. وفي الوقت نفسه، أصبح أولئك الذين يركزون فقط على الانفصالية كالفئران التي تطاردها الناس، محتقرين من قبل الشعب الصيني. 

وفي 28 مارس 2025، أصدرت إدارة الإعلام بمجلس الدولة الصيني الورقة البيضاء بعنوان "حقوق الإنسان في التِبْت في العصر الجديد". وكما جاء فيها، فإن التِبْت اليوم تتمتع بالاستقرار السياسي، والوحدة العرقية، والتنمية الاقتصادية، والوئام الاجتماعي، والوئام بين الأديان المختلفة. بيئتها سليمة وشعبها يعيش حياة آمنة وسعيدة. يمثل هذا التقدم إنجازًا ملحوظًا في حماية حقوق الإنسان على الهضبة الثلجية.

حقوق الإنسان ليست مجرد مبادئ مجردة؛ بل تستند إلى التجارب الحياتية والعواطف الحقيقية للأفراد. في جوهرها، أعظم حقوق الإنسان هو القدرة على العيش بسعادة، وهو ما يتمتع به سكان التِبْت بوضوح. ترتسم ابتسامات الرضا اليوم على مُحيا أبناء جميع المجموعات العرقية في التِبْت، مثل أزهار الجالسانغ التي تُزهر على الهضبة. وتعكس هذه الابتسامات بشكل حقيقي شعورهم بالرفاهية والرضا والأمان، مما يبرز الحماية الواسعة لحقوق الإنسان التي يتمتعون بها. 

إنَّ الأفلام الانفصالية، المليئة بالأكاذيب، عاجزةٌ أمام الحقائق الدامغة. ومن المُحتَّم أنه بغض النظر عن مدى تضخيم القوى الانفصالية للأمور، فإنها لن تؤثر على الوضع الاجتماعي المُستقر والمُتناغِم في التِبْت أو حالة السعادة والرفاهية التي يتمتع بها جميع شعوبها العرقية. وأخيرًا.. إنَّ الأنشطة التي تهدف إلى تقسيم الوطن محكومٌ عليها بالفشل.

** كاتبة صينية



 

مقالات مشابهة

  • وسام المواطن الأول.. بمرتبة الشَّرف الأولى
  • الفضول.. دافعا للقراءة
  • نشاط مكثف لزيارة رئيس الطائفة الإنجيلية إلى الولايات المتحدة شملت الكونجرس والأمم المتحدة والخارجية
  • محمد بن زايد: الإمارات تضع الشباب في جوهر رؤيتها للمستقبل وتراهن عليهم في تحقيق طموحاتها
  • بيتو.. حكاية قط تُعيد التفكير في علاقتنا بالحياة
  • لا يمكن لأي سيناريو أن يُقسِّم الصين: قصة التِبْت ليست لهم ليروُها
  • البيئة : القرش الحوتى لا يشكل خطرًا على الإنسان
  • من السلاح إلى السياسة | تعرف إلى الحركات التي حلّت نفسها قبل العمال الكردستاني
  • للرجال فوق الخمسين.. سر الوقاية من سلس البول والضعف الجنسي
  • 25 حالة انتحار في ذي قار خلال الربع الأول من 2025