فتاوى :يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عُمان
تاريخ النشر: 26th, March 2025 GMT
فـي وصية الأقربين، إن كان الشخص لا يملك سوى قليل من المال، أو يكون مدينًا ويستغرق الدين كل التركة، فهل تجب عليه وصية الأقربين فـي هذه الحالة؟
لا، لا تجب عليه، لأن الآية الكريمة يقول فـيها ربنا تبارك وتعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» وهذا، حسب ما ورد فـي السؤال، لم يترك خيرًا، أي لم يترك ما يمكن أن يوصي به، لكن استحب له أهل العلم، احتياطًا، ولعله تظهر له بعض الحقوق عند غيره لم يكن يعرفها، ولو بالشيء اليسير الذي يمكن أن ينتفع به، أن يكتب وصية للأقربين، لكنه إن لم يفعل، لأنه ليس عنده ما يمكن أن يوصي به، فلا حرج عليه، وذمته بريئة، والله تعالى أعلم.
كيف نوفق بين قوله تعالى فـي سورة الإسراء: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ»، وقوله تعالى فـي سورة الصافات: «وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ»، حيث ذكرت الآية الأولى قومًا غير ذرية نوح عليه السلام كانوا معه، وبقيت ذريتهم، وفـي الآية الثانية حصر البقاء بعد الطوفان لذرية نوح عليه السلام فقط؟
الذي يظهر لي أن السائل وقع فـي شيء من الإبهام، إن ما ورد فـي الآيتين الكريمتين فـي سورة الإسراء وفـي سورة الصافات بينهما تكامل، وليس هناك أدنى تعارض ظاهري، فآية الإسراء تقول: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا»، بعد قوله تبارك وتعالى: «وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا»، وفـي آية الصافات يقول ربنا تبارك وتعالى: «وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ»، وقد أخذ العلماء من هذه الآية، أي آية الصافات، أن نوحًا عليه السلام هو الأب الثاني للبشرية، لأن الآية صريحة فـي أن نسل نوح هو الذي بقي من بعده، قال: «وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ».
وكانت العرب تعلم ذلك، أنهم من ذرية نوح عليه السلام، وفـي آية الإسراء، وفقًا للتوجيهات الإعرابية فـي نصب «ذرية من حملنا مع نوح»، سواء قيل بأنه على النداء، أي: «يا ذرية من حملنا مع نوح»، أو على الاختصاص: «أخص ذرية من حملنا مع نوح»، أو وفقًا لكل الوجوه الإعرابية التي ذكرت فـي نصب «ذرية من حملنا مع نوح»، فإن المخاطبين والمتحدث عنهم يعلمون أنهم من ذرية نوح عليه السلام.
وبنو إسرائيل ينتسبون إلى سام بن نوح، أو يزعمون ذلك، إلى يومنا هذا، وهم يتعلقون بهذه الدعوى، ويدعون لأنفسهم منزلة ومكانة فوق سائر بني البشر لأنهم من ذرية سام بن نوح، ويعدون من يتنقص منهم متنقصًا من السامية كلها، كما لا يخفى على أحد، ولئن كان الخطاب أيضًا يشمل العرب المخاطبين بكتاب الله عز وجل فـي المقام الأول، أي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، فهؤلاء أيضًا يعلمون أنهم من ذرية نوح عليه السلام، وهذا أيضًا ما حصل فـي قوله تبارك وتعالى: «إنا لما طغى الماء حملناكم فـي الجارية»، كما تقدم فـي جواب سابق.
إذن، فالمخاطبون يعلمون أنهم من ذرية نوح، وهذا يتفق مع ما ورد فـي آية: «وجعلنا ذريته هم الباقين»، أما مناسبة ذكر «ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدًا شكورًا» فـي بدايات سورة الإسراء، فقد تقدم أيضًا الجواب عنها فـي مناسبة سابقة، والآن، وردت إشارة إلى أن الخطاب عن بني إسرائيل فـي سورة الإسراء، والتي من أسمائها الثابتة «سورة بني إسرائيل»، وموضوعها فـي صدارة الحديث عن بني إسرائيل. فإن هؤلاء ينتسبون إلى سام بن نوح، ويزعمون أن كنعان بن يافث قد حلت عليه لعنة الرب بدعاء نوح عليه السلام، لأنهم حسب روايتهم فـي كتبهم القديمة، فـي العهد القديم أو فـي التوراة، أن نوحًا عليه السلام، حاشاه، قد شرب الخمر فتعرى، فرآه يافث، والد كنعان، فأخبر أخويه سام وحام، فضحك كنعان، أما سام وحام، فإنهما أخذا رداءً وغطيا أباهما، فلما أفاق نوح وأُخبر بما حصل، فإنه بارك سام وذرية سام، ولعن كنعان بن يافث، مع أن الذي رآه كان يافث، لكنه لعن كنعان، وجعل دعاءه عليه سببًا فـي أن يكون هو وذريته عبيدًا لذرية سام.
والتحريف للتسييس ولخدمة المآرب والمقاصد ليس شيئًا جديدًا عندهم، والتنقص من منزلة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أيضًا ديدنهم وشأنهم، بل تحقيرهم وتنقصهم من الذات العلية لله تبارك وتعالى أمر غير خافٍ فـي كتبهم.
موضع الشاهد أن الآية الكريمة تذكرهم بهذا الأصل، وتقول: «إنه كان عبدًا شكورًا»، فنوح عليه السلام كان من عباد الله الشاكرين المبالغين فـي الشكر والحمد والاعتراف بنعم الله تبارك وتعالى، وما ينسب إليه لا يتناسب مع هذه المنزلة، ومع مكانته، ومع جعله قدوة، كما تقدم.
قال: «أن لا تتخذوا من دوني وكيلًا»، فالخطاب لهم، لأن ذلك فـي صميم رسالة موسى عليه السلام: «وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل». خص هذه الوصية بقوله: «أن لا تتخذوا من دوني وكيلًا»، فالوكيل هو الله تبارك وتعالى وحده، قال: «ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدًا شكورًا». والربط أيضًا أن نوحًا عليه السلام نُجي من الغرق فـي الفلك، وأن بني إسرائيل نجوا من فرعون وجنوده أيضًا بتنجيتهم من الغرق وإغراق عدوهم. فكما أن قوم نوح الذين كفروا بالله تبارك وتعالى أغرقوا، كذلك فرعون وجنوده أغرقوا، نوح عليه السلام نُجي من الغرق هو ومن آمن معه، وموسى عليه السلام نُجي من الغرق هو ومن آمن معه من بني إسرائيل، فهناك كثير من المشتركات التي تذكرهم بهذه المعاني الإيمانية، وتمهد لما سيأتي الحديث عنه فـي هذه السورة.
وكما قلت، هذا يتفق تمامًا مع ما فـي قول الله تبارك وتعالى: «وجعلنا ذريته هم الباقين». استطرادًا، ذكر بعض المفسرين أن هذا أيضًا يتفق مع ما ورد فـي سورة هود: «قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم»، قيل بأن هذه الأمم هي من غير قوم نوح الذين آمنوا معه، ومن غير ذرية نوح، وهذا قول عند من يرى أن الطوفان لم يكن عامًا، وأن الإهلاك لم يكن إلا لقوم نوح، وهو قول موجود عند المفسرين.
وقيل بأن هؤلاء، لأن الله سبحانه وتعالى ما جعل النسل الباقي إلا فـي ذرية نوح، فلذلك عطف هناك بقوله: «عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم»، فهؤلاء لم يبقوا لأنهم أخرجوا، كانوا ممن مع نوح عليه السلام، ولكن مع تطاول الأيام ظهر فـيهم الكفر، وفـي ذرياتهم، فأصابهم ما أصابهم، فما شملهم البقاء إلا إلى حين، قال: «وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم».
وفـيه أيضًا تعريض ببني إسرائيل، وتعريض بمشركي مكة، أن ذلك النسب لن ينفعهم، وأن ليس لهم امتداد، وأن المسألة مسألة إيمان بالله تبارك وتعالى وأداء لحقوقه سبحانه وتعالى. إذن، هذا الذي يمكن أن يوضح، وأقف عند هذا القدر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الله تبارک وتعالى سورة الإسراء بنی إسرائیل ما ورد فـی فـی سورة من الغرق یمکن أن
إقرأ أيضاً:
ماذا بعد الحج؟.. روشتة شرعية للعائدين من المشاعر المقدسة
رجع الحجيج من الحج، فبدأنا سنةً جديدة، وطوينا صفحة سنةٍ ماضية، ويبدأ المسلم فيها صفحةً جديدة مع الله، ومع الناس، ومع النفس، والتجديد في الإسلام قد أتانا به سيدنا رسول الله، ونبَّهنا إليه، وأرشدنا إلى معناه، ووسَّع مجاله.
وكان سيدنا رسول الله يقول: «جدِّدوا إيمانكم». وكان أحدهم يسأل: كيف يُجدِّد أحدُنا إيمانه يا رسول الله؟ فيقول: «قولوا: لا إله إلا الله».
وقال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، إن من مزية هذا الدين، ومن هدي المصطفى، أنه يعلِّم الكافة: العالم والجاهل، الحضري والبدوي، الذكي والغبي، بشيءٍ بسيط، هو مفتاحٌ لسعادة الدارين: الدنيا والآخرة. قولوا: "لا إله إلا الله"، وابدؤوا صفحةً جديدة مع الله.
وتابع: إذًا، الصفحة الجديدة سهلةٌ ميسورة، يقول فيها المؤمن كل صباح، وهو يريد أن يفتح صفحةً جديدة مع الله سبحانه وتعالى، ومع النفس، ومع الناس: "لا إله إلا الله"، يستطيعها كل أحد، منوها أن هذه الصفحة الجديدة لم يُكتب فيها بعد، ولا نريد أن يُكتب فيها شيءٌ من المعاصي، بل نريد أن نملأها بالطاعات، حتى إذا ما نظر الله سبحانه وتعالى إليها - وهو العليم بالظاهر والباطن - نظر إلينا بنظر الرحمة.
وأشار الدكتور علي جمعة، إلى أن الحج يُخرج الإنسان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، و«الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». وقال ابن حجر العسقلاني رضي الله تعالى عنه، في كتاب صغير له عن عموم المغفرة للحجاج، إنه أورد حديثًا وصحَّحه: "من حج فلم يرفث ولم يفسق، وظن أن الله لم يغفر له، فقد كفر".
غفران الذنوبوأوضح أنه لا بد أن تعلم أن هذه الشعيرة تغفر الذنوب جميعًا، وأنك قد عدت بصفحةٍ بيضاء. فهيا اختبر نفسك مع الله: هل ستستطيع أن تُبقي الصفحة نظيفة؟ هذا هو المراد. أم أنك ستلوثها بالمعصية والتقصير؟ نسأل الله سبحانه وتعالى لنا التوفيق والإعانة. فـ «كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون». والتوابون هم الذين يتوبون كثيرًا، ولا يملُّون من رحمة الله وفضله، بل يعودون إلى الله، كما قال في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، لو أن لك قَـرَاب الأرض ذنوبًا» - وفي رواية: «تُراب الأرض ذنوبًا» - «ثم جئتني مستغفرًا» - وفي رواية: «تائبًا» - «لغفرت لك».
وتابع: ولا يستطيع الإنسان أن يفعل مقدار مترٍ مكعبٍ من تراب الأرض ذنوبًا؛ فإن عدد ذرات التراب في المتر المكعب أكثر من عدد لحظات حياة الإنسان في ألف سنة. فلو أن الله سبحانه وتعالى أعطاك ألف سنة من العمر، وأردت أن تعصيه في كل لحظة، ما استطعت أن تبلغ أكثر من متر مكعب من تراب الأرض. ولكنك لو جئت ربك بتراب الأرض جميعًا ذنوبًا، ثم جئته تائبًا، لغفر لك.
وتسائل: فما هذا الفضل العميم؟ وهل هناك تأخُّرٌ بعد ذلك من أن نفرَّ إلى ذلك الحبيب سبحانه وتعالى، وأن ننخلع من ذنوبنا مرةً واحدة، أمام هذا الكرم، والرحمة، والحنان، والأمان؟