صدى البلد:
2025-06-27@11:05:36 GMT

عبد السلام فاروق يكتب: عصر الفتن

تاريخ النشر: 27th, June 2025 GMT

عصرنا عصر ملتبس المعالم، متشابك الأسباب، تائه بين سفوح الماضي وقمم المستقبل، كأنه طفل فطم قبل أوانه، فلم يدرك حكمة الأمس، ولم يمسك بزمام الغد. إنه العصر الذي سماه صاحبنا "عصر الفتن"، ولا أرى في التسمية إلا صدقا يشبه صدق الأطفال، الذين ينطقون بالحق قبل أن تعودهم المجتمعات الكذب والتدليس.  
لقد عرف التاريخ عصور الفتن من قبل، فما من أمة إلا وذاقت مرارة الاضطراب، وما من حضارة إلا وتعثرت في ظلمات الشك قبل أن تبلغ نور اليقين.

ولكن الفتنة اليوم ليست كالفتن الأمس؛ فهي ليست حربا تعلن بين جيشين، ولا صراعا بين ملكين، بل هي فتنة تتسلل إلى العقول قبل القلوب، تفرق بين الإنسان ونفسه، بينه وبين أخيه، بل بينه وبين ذاته. إنها فتنة السرعة والضحالة، فتنة الكثرة والقلة، فتنة الأصالة والزيف.  
فأما السرعة والضحالة، فقد أذابت زماننا في بوتقة العجلة، حتى لم يعد الإنسان يدرك من الحياة إلا قشورها، ولم يعد يبصر من المعرفة إلا ظلالها. لقد صرنا نقرأ ولا نفكر، نسمع ولا نعي، ننظر ولا نبصر. وكأنما أصابنا داء جديد، داء "الجهل المعلب"، نبتاعه بثمن بخس، ثم نغلق عليه عقولنا كما يغلق الجاهل على جهله.  
وأما فتنة الكثرة والقلة، فهي آفة أخرى من آفات هذا العصر. فالكثرة هنا ليست كثرة العدد ولا العطاء، بل هي كثرة الضجيج والفوضى. والقلة ليست قلة العقول ولا الأخلاق، بل هي قلة الصبر والحكمة. لقد صرنا نعيش في عالم يزدحم بالكلام ويخلو من المعنى، يمتلئ بالصور ويفقر من الجمال، يتسع للعديد من الأصدقاء ويضيق بالصديق الواحد.  
وأما فتنة الأصالة والزيف، فهي أشد الفتن خطرا، لأنها تلبس الباطل ثوب الحق، وتزين الزيف حتى يشبه الأصالة. لقد صار كل شيء اليوم قابلا للتزوير، من الأفكار إلى المشاعر، من التاريخ إلى الدين. وصار الحق يباع في الأسواق كسلعة من السلع، يغلي ثمنه من يملك المال أو الجاه، ويخفي بريقه من لا يملك إلا الفكر والضمير.  
فأين المخرج من هذه الفتن؟ لعل المخرج يكون في العودة إلى النفس، في الترويض المستمر للعقل والقلب، في التمسك بخيط رفيع من الصبر والحكمة. فالتاريخ يعلمنا أن الفتن لا تبقى، وأن العواصف لا تدوم، ولكنها تترك وراءها دروسا لمن أراد أن يتعلم.  
إن "عصر الفتن" هذا قد يكون محنة لمن أغمض عينيه، ولكنه قد يكون منحة لمن فتح عينيه وعقله. فلننظر إليه بعين الحكيم الذي يعلم أن الليل يسبق الفجر، وأن الشدة تسبق الرخاء. ولنعمل على أن نكون من الذين يخرجون الحكمة من رحم المعاناة، لا من الذين يضيعون في زحام الضجيج والظلام.  
هكذا يكون العصر عصر فتنة لمن أراد، وعصر نهضة لمن أراد!  
في أعماق الاضطراب وبوادر الخلاص
كأنما نحن اليوم أمام مرآة كسرت إلى ألف شظية، فلم نعد نرى فيها إلا صورا مشوهة لأنفسنا وللعالم من حولنا. هذا هو "عصر الفتن" بلا ريب، عصر تاهت فيه البوصلة بين صراخ المذاهب وتهافت الأيديولوجيات، بين زيف اليقين وجبروت الشك. فما أشبه زماننا هذا بذلك الرجل الذي حكم عليه أن يحمل صخرة إلى قمة الجبل، فإذا بلغها تدحرجت إلى السفح، فيعود يحملها مرة أخرى، لا هو بلغ غايته، ولا هو ترك حمله!  
الفتنة كمرآة للحضارة  
لعل أعظم ما في هذا العصر أنه كشف عن أمرين خطيرين: الأول: أن الإنسان، رغم كل ادعاءات التقدم، لم يزل ذلك الكائن الهش الذي يخفي خلف شاشات التكنولوجيا وجدران المدنية خوفه من المجهول، وحيرته أمام سؤال الوجود. فها هو ذا يبني الصواريخ ليصل إلى المريخ، ثم يعجز عن إجابة طفل يسأله: "لماذا نعيش؟".  
الثاني: أن الحضارة الحديثة، بكل أضوائها الباهرة، قد حولت الإنسان من سيد الطبيعة إلى عبد للآلة. فصرنا نلهث وراء السرعة كأنما نطارح الزمن تحديا، ثم نكتشف أننا لم نكسب شيئا إلا التعب والظمأ. أليس هذا من أعجب المفارقات؟ أن نصنع الأدوات لتخفف عنا أعباء الحياة، فإذا بها تزيد أعباءنا ثقلا على ثقل!  
الفتنة بين الجذور والأغصان  
إن أعمق جرح في هذا العصر هو ذلك الشرخ الذي نراه بين الإنسان وجذوره. لقد قطع الفرد – في غمرة اندفاعه نحو المستقبل – صلته بالماضي، ففقد البوصلة التي كانت ترشده. ها هو ذا يبني صروح المعرفة في الفضاء الرقمي، بينما ينسى حكمة الأجداد التي كانت تبنى بالصبر والتأمل. وكأنما أردنا أن نكون أغصانا بلا جذور، فإذا بالرياح تعصف بنا قبل أن ننضج!  
ولكن... أيعقل أن تكون الفتنة كل هذا العصر؟ كلا! فإن في أعماق هذه الظلمات بصيصا من نور. ألم يقل التاريخ دائما إن أعظم النهضات ولدت من رحم الأزمات؟ ها هو ذا الإنسان - رغم ضجيجه وارتباكه – يبدأ في البحث عن معنى جديد للحياة، عن أخلاق تليق بإنسانيته، عن توازن بين العقل والقلب. أليس في هذا البحث نفسه بذور الخلاص؟  
رحلة لا وصول فيها  
فالخلاص – إن كان ثمة خلاص - لن يكون في هروب من العصر، بل في غوص إلى أعماقه. لن يكون في حنين إلى ماض لن يعود، بل في حوار جريء بين تراث الأمس وعبقرية اليوم. علينا أن نتعلم من الفتن لا أن نجزع منها، أن نرى في تشظي المرآة فرصة لإعادة تركيب الصورة، لا سببا لليأس.  
إن "عصر الفتن" هذا هو اختبار للإنسان: هل يستطيع أن يجد نفسه في زحام الضياع؟ هل يستطيع أن يبني يقينا من شظايا الشك؟ التاريخ يجيب بأن البشر - رغم كل هزائمهم – لم ييأسوا قط من البحث عن النور. فلنكن من هؤلاء الذين ينظرون إلى الفتنة ليس كنهاية، بل كممر ضروري إلى فهم أعمق للحياة ولأنفسنا.  
فإذا كان هذا العصر قد أظهر ضعفنا، فهو قد أظهر – في الوقت ذاته – قوتنا على المواجهة. وإذا كان قد كشف عن جهلنا، فهو قد كشف أيضا عن شغفنا الدفين بالمعرفة. فلتكن الفتنة – إذن – مدرسة نتعلم فيها دروسا لم نكن لنعرفها لولا الظلام!

طباعة شارك عصر الفتن نور اليقين العطاء

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: العطاء هذا العصر

إقرأ أيضاً:

حسين أنسي ضيف هبة فاروق للحديث عن يوسف داوود بذكرى وفاته

حل الكاتب الصحفي حسين أنسي، ضيفًا على برنامج "مساء الفن"، تقديم الإعلامية هبة فاروق، ويُذاع على قناة نايل لايف، من أجل الحديث عن محطات في حياة الفنان الراحل يوسف داوود، بمناسبة ذكرى وفاته الـ 13، بعد مسيرة فنية حافلة بالعطاء.

وأشاد حسين أنسي، بمشوار الفنان الراحل يوسف داوود، والذي ترك بصمة في قلوب الملايين بمصر والوطن العربي من خلال أعماله الفنية المميزة والذي كان يختارها بعناية، من أجل أن تنال اعجاب الجمهور.

يوسف داوود عشق التمثيل منذ الصغر

وأوضح حسين أنسي، أن يوسف داوود كان يهوى التمثيل منذ الصغر، بالإضافة إلى عشقه للعبة كرة السلة والذي كان يمارسها في إحدى أندية الجاليات اليونانية في حافظة الإسكندرية في ذلك الوقت، وبسبب عشقه للتمثيل رسب في مرحلة الإعدادية لمدة 10 سنوات نتيجة إهماله المذاكرة حيث رسب في أولى إعدادي 5 سنوات وفي مرحلة ثانية إعدادي خمس سنوات آخرى، وبعدها قرر أن نتهي من المرحلة الدراسية وبدأ يهتم بمذاكرته حتى إلتحق بكلية الهندس شعبة الكهرباء وتخرج منها عام 1960.

وأضاف حسين أنسي الناقد الفني، أن الفنان يوسف داوود لم ينسى عشقه للتمثيل وتقمص الشخصيات خلال تلك السنوات حيث وجد ضالته في المسرح الجامعي لكلية الهندسة بعد اختياره من المخرج الراحل حسين جمعة بعدما تم استدعائه من رئيس جامعة الإسكندرية الدكتور عاطف غيث في ذلك الوقت إخراج عروض مسرحية للطلبة واتحاد الخرجين بالجامعة وتم اختياره في مسرحية "الأخوة كارمزون" وانتهت المسرحية وظل يوسف داوود في ذاكرته حتى استعان به مجددًا في مسرحية آخرى خارج الحرم الجامعي، بعنوان "الدنيا رواية هزلية"، رائعة الكاتب الراحل توفيق الحكيم.

يوسف داوود واحتراف التمثيل

وتطرق حسين أنسي الناقد الفني، خلال اللقاء للحديث عن بداية الراحل يوسف داوود في مجال الاحتراف من خلال مسرحية "زقاق المدق"، والتي كانت بمثابة "وش السعد"؛ لأن منها بدأت انطلاقته الحقيقية من مشهد صغير في الرواية مع المخرج فهمي الخولي، ثم يحدث خلاف بين المخرج والمنتج فيقرر التعاون مع المخرج حسن عبد السلام ليستكمل عرض الرواية ومن هنا يتبدل دور يوسف داوود من مشهد صغير إلى دور الجنرال ليبتون - أحد الأدوار الرئيسية في المسرحية.

وأشار حسين أنسي، إلى أنه وفي إحدى الأيام تواجد النجم عادل إمام من أجل مشاهدة عرض مسرحية "زقاق المدق" في الإسكندرية، وجذب انتباهه تمثيل الفنان يوسف داوود، وبعدها قام الزعيم بترشيحه لشخصية "مسعد أفندي"، بفيلم "زوج تحت الطلب"، وجمعته المشاهد ضمن أحداث الفيلم مع الفنان الراحل فؤاد المهندس والذي وصفه بالعبقري، وكان هذا الفيلم أول أدوار يوسف داوود في السينما.

حسين أنسي بصحبة الإعلامية هبة فاروقحسين أنسي بصحبة الإعلامية هبة فاروق

مقالات مشابهة

  • مصطفى قمر برفقة مي فاروق في حفل غنائي بالهرم| صور
  • قانون الإيجار القديم.. «مصطفى بكري» يحذر الحكومة من فتنة اجتماعية بسبب المادة الثانية
  • المسيح الدجال.. تعرف على صفاته وكيف تعصم نفسك من فتنته
  • فاروق يشارك في المؤتمر السادس لوزراء الزراعة بالاتحادين الأوروبي والإفريقي
  • حسين أنسي ضيف هبة فاروق للحديث عن يوسف داوود بذكرى وفاته
  • تعيين سفير جديد للجزائر لدى جمهورية غويانا التعاونية
  • هل يلامس «الخلاوجة» وعي العصر؟! 
  • وسام أبو علي يترقب عرضًا من أوروبا بعد كأس العالم للأندية.. محمد فاروق يكشف التفاصيل
  • فاروق جعفر: النادي الأهلي نجح في تقديم أداء مميز أمام بورتو البرتغالي