عبد السلام فاروق يكتب: عصر الفتن
تاريخ النشر: 27th, June 2025 GMT
عصرنا عصر ملتبس المعالم، متشابك الأسباب، تائه بين سفوح الماضي وقمم المستقبل، كأنه طفل فطم قبل أوانه، فلم يدرك حكمة الأمس، ولم يمسك بزمام الغد. إنه العصر الذي سماه صاحبنا "عصر الفتن"، ولا أرى في التسمية إلا صدقا يشبه صدق الأطفال، الذين ينطقون بالحق قبل أن تعودهم المجتمعات الكذب والتدليس.
لقد عرف التاريخ عصور الفتن من قبل، فما من أمة إلا وذاقت مرارة الاضطراب، وما من حضارة إلا وتعثرت في ظلمات الشك قبل أن تبلغ نور اليقين.
فأما السرعة والضحالة، فقد أذابت زماننا في بوتقة العجلة، حتى لم يعد الإنسان يدرك من الحياة إلا قشورها، ولم يعد يبصر من المعرفة إلا ظلالها. لقد صرنا نقرأ ولا نفكر، نسمع ولا نعي، ننظر ولا نبصر. وكأنما أصابنا داء جديد، داء "الجهل المعلب"، نبتاعه بثمن بخس، ثم نغلق عليه عقولنا كما يغلق الجاهل على جهله.
وأما فتنة الكثرة والقلة، فهي آفة أخرى من آفات هذا العصر. فالكثرة هنا ليست كثرة العدد ولا العطاء، بل هي كثرة الضجيج والفوضى. والقلة ليست قلة العقول ولا الأخلاق، بل هي قلة الصبر والحكمة. لقد صرنا نعيش في عالم يزدحم بالكلام ويخلو من المعنى، يمتلئ بالصور ويفقر من الجمال، يتسع للعديد من الأصدقاء ويضيق بالصديق الواحد.
وأما فتنة الأصالة والزيف، فهي أشد الفتن خطرا، لأنها تلبس الباطل ثوب الحق، وتزين الزيف حتى يشبه الأصالة. لقد صار كل شيء اليوم قابلا للتزوير، من الأفكار إلى المشاعر، من التاريخ إلى الدين. وصار الحق يباع في الأسواق كسلعة من السلع، يغلي ثمنه من يملك المال أو الجاه، ويخفي بريقه من لا يملك إلا الفكر والضمير.
فأين المخرج من هذه الفتن؟ لعل المخرج يكون في العودة إلى النفس، في الترويض المستمر للعقل والقلب، في التمسك بخيط رفيع من الصبر والحكمة. فالتاريخ يعلمنا أن الفتن لا تبقى، وأن العواصف لا تدوم، ولكنها تترك وراءها دروسا لمن أراد أن يتعلم.
إن "عصر الفتن" هذا قد يكون محنة لمن أغمض عينيه، ولكنه قد يكون منحة لمن فتح عينيه وعقله. فلننظر إليه بعين الحكيم الذي يعلم أن الليل يسبق الفجر، وأن الشدة تسبق الرخاء. ولنعمل على أن نكون من الذين يخرجون الحكمة من رحم المعاناة، لا من الذين يضيعون في زحام الضجيج والظلام.
هكذا يكون العصر عصر فتنة لمن أراد، وعصر نهضة لمن أراد!
في أعماق الاضطراب وبوادر الخلاص
كأنما نحن اليوم أمام مرآة كسرت إلى ألف شظية، فلم نعد نرى فيها إلا صورا مشوهة لأنفسنا وللعالم من حولنا. هذا هو "عصر الفتن" بلا ريب، عصر تاهت فيه البوصلة بين صراخ المذاهب وتهافت الأيديولوجيات، بين زيف اليقين وجبروت الشك. فما أشبه زماننا هذا بذلك الرجل الذي حكم عليه أن يحمل صخرة إلى قمة الجبل، فإذا بلغها تدحرجت إلى السفح، فيعود يحملها مرة أخرى، لا هو بلغ غايته، ولا هو ترك حمله!
الفتنة كمرآة للحضارة
لعل أعظم ما في هذا العصر أنه كشف عن أمرين خطيرين: الأول: أن الإنسان، رغم كل ادعاءات التقدم، لم يزل ذلك الكائن الهش الذي يخفي خلف شاشات التكنولوجيا وجدران المدنية خوفه من المجهول، وحيرته أمام سؤال الوجود. فها هو ذا يبني الصواريخ ليصل إلى المريخ، ثم يعجز عن إجابة طفل يسأله: "لماذا نعيش؟".
الثاني: أن الحضارة الحديثة، بكل أضوائها الباهرة، قد حولت الإنسان من سيد الطبيعة إلى عبد للآلة. فصرنا نلهث وراء السرعة كأنما نطارح الزمن تحديا، ثم نكتشف أننا لم نكسب شيئا إلا التعب والظمأ. أليس هذا من أعجب المفارقات؟ أن نصنع الأدوات لتخفف عنا أعباء الحياة، فإذا بها تزيد أعباءنا ثقلا على ثقل!
الفتنة بين الجذور والأغصان
إن أعمق جرح في هذا العصر هو ذلك الشرخ الذي نراه بين الإنسان وجذوره. لقد قطع الفرد – في غمرة اندفاعه نحو المستقبل – صلته بالماضي، ففقد البوصلة التي كانت ترشده. ها هو ذا يبني صروح المعرفة في الفضاء الرقمي، بينما ينسى حكمة الأجداد التي كانت تبنى بالصبر والتأمل. وكأنما أردنا أن نكون أغصانا بلا جذور، فإذا بالرياح تعصف بنا قبل أن ننضج!
ولكن... أيعقل أن تكون الفتنة كل هذا العصر؟ كلا! فإن في أعماق هذه الظلمات بصيصا من نور. ألم يقل التاريخ دائما إن أعظم النهضات ولدت من رحم الأزمات؟ ها هو ذا الإنسان - رغم ضجيجه وارتباكه – يبدأ في البحث عن معنى جديد للحياة، عن أخلاق تليق بإنسانيته، عن توازن بين العقل والقلب. أليس في هذا البحث نفسه بذور الخلاص؟
رحلة لا وصول فيها
فالخلاص – إن كان ثمة خلاص - لن يكون في هروب من العصر، بل في غوص إلى أعماقه. لن يكون في حنين إلى ماض لن يعود، بل في حوار جريء بين تراث الأمس وعبقرية اليوم. علينا أن نتعلم من الفتن لا أن نجزع منها، أن نرى في تشظي المرآة فرصة لإعادة تركيب الصورة، لا سببا لليأس.
إن "عصر الفتن" هذا هو اختبار للإنسان: هل يستطيع أن يجد نفسه في زحام الضياع؟ هل يستطيع أن يبني يقينا من شظايا الشك؟ التاريخ يجيب بأن البشر - رغم كل هزائمهم – لم ييأسوا قط من البحث عن النور. فلنكن من هؤلاء الذين ينظرون إلى الفتنة ليس كنهاية، بل كممر ضروري إلى فهم أعمق للحياة ولأنفسنا.
فإذا كان هذا العصر قد أظهر ضعفنا، فهو قد أظهر – في الوقت ذاته – قوتنا على المواجهة. وإذا كان قد كشف عن جهلنا، فهو قد كشف أيضا عن شغفنا الدفين بالمعرفة. فلتكن الفتنة – إذن – مدرسة نتعلم فيها دروسا لم نكن لنعرفها لولا الظلام!
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: العطاء هذا العصر
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: الفتوى والعقل في عصر الرقمنة
في لحظة حضارية مشتبكة بين طغيان التقنية وارتباك الخطاب، جاءت مبادرة دار الإفتاء المصرية لتنظيم المؤتمر الدولي العاشر للامانة العامة لدور و هيئات الافتاء في العالم بمثابة إعلان معرفي رصين عن انخراط المؤسسة الدينية الرسمية في واحد من أعمق النقاشات الإنسانية: سؤال الفتوى في زمن الذكاء الاصطناعي.
فالذي يُطل على واقع الإفتاء من أعالي التحولات الرقمية، يدرك حجم التحدي: كيف نُبقي على روح الاجتهاد حيّة، وسط تقنيات تَعد بالاستغناء عن الإنسان ذاته؟ وكيف نحافظ على جوهر الفتوى، لا كمنتَج يُصدر، بل كحُكم يتخلق في رحم العقل الشرعي الرشيد، في زمن تُستبدل فيه السلطة المعرفية بمنصات وتطبيقات وخوارزميات؟
في هذا السياق، لم يكن انعقاد المؤتمر العاشر محض تكرار سنوي لفعالية مؤسسية، بل يمكن اعتباره لحظة انبثاق واعٍ لمفهوم جديد في التفكير الديني، تسعى فيه دار الإفتاء إلى إعادة تشكيل صورة المفتي لا بوصفه ناقلًا للحكم، بل بانيًا لقراره داخل بنية مركبة من المقاصد، والسياقات، وحكمة التنزيل. فالمبادرة لم تُركّز على أدوات الذكاء الاصطناعي بوصفها تهديدًا، بل كأفق وجب على المفتين الاقتراب منه، لا للتماهي معه، بل لترشيده، ومساءلته، بل وإعادة ضبط تمثلاته داخل منظومة الفعل الشرعي.
وفي قلب هذا الطموح، تبرز شخصية فضيلة المفتي الأستاذ الدكتور نظير محمد عياد، لا بوصفه موظفًا على رأس مؤسسة فقهية كبرى، بل كعقل فقهي متمرّس يُدرك بوعي رفيع أن الاجتهاد المعاصر لا يمكن أن يبقى أسيرَ معجمٍ قديم، ولا أن يتخلى عن أخلاقياته أمام خوارزميات الحداثة السائلة. فالرجل – في خطاباته العلمية ومداخلاته الرفيعة – يُعيد الاعتبار لفكرة “العقل الإفتائي”، لا كتمرين بلاغي، بل كوظيفة حضارية تحرّر المفتي من أسر الحرفية وتضعه في مدارات الفهم الكلي، المتصل بمقاصد الشريعة، لا المفصول عنها بجمود اللفظ أو فوضى الذوق. ومن يمعن النظر في طريقة بناءه لمفهوم “المفتي الرشيد”، يدرك أنه لا يسعى لتدريب المفتي على التقنية كمهارة، بل لتجذيره في وعي توازنيّ يميّز بين ما تُنتجه الآلة من أجوبة صورية، وبين ما تستوجبه الفتوى من استبطان مقاصدي للواقع وتقدير سديد للحُكم بمناطه الكامل.
كان بإمكان دار الإفتاء أن تظل واقفة على تخوم النقاش، مترددة بين الإدانة أو الترقب، لكنها قررت أن تُعلن انخراطها في عمق التحول، ولكن لا بصفتها تابعا مبهورًا، بل مرشدًا متبصّرًا. إنها ليست تُنتج فتوى رقمية، بل تُهذّب العقل الذي يصوغها، ولا تهدف إلى “رقمنة” المفتي، بل إلى عقلنة الفتوى في زمن الرقمنة. وهذا فارق جوهري.
ولعل هذا ما يجعل من هذه المبادرة نموذجًا لما يمكن تسميته بـ”فقه التدبير المعرفي”، حيث لا يُكتفى بالمحافظة على تراث الفتوى، بل يُعاد بناؤه من داخل الأسئلة التي يفرضها العصر. فالتحول الرقمي، في قراءة هذا المؤتمر، لا يُراد له أن يبتلع المجال الديني، بل أن يُستوعَب داخل مشروع إصلاحي أشمل يُعيد للفتوى بُعدها التأصيلي لا التنميطي، ويُعلي من دور المفتي لا كخازن للأقوال، بل كمُهندس للمآلات. وهنا تتجلّى عبقرية المؤتمر، لا في محاورة التقنية بوصفها خطرًا، بل في التعامل معها بوصفها حافزًا لتجديد منطق الإفتاء نفسه، ومساءلة بنيته ومفاهيمه وأدواته.
من هنا، فإن السؤال الذي طرحه المؤتمر لم يكن سؤالًا تقنيًا، بل سؤالًا أنطولوجيًا: ما معنى أن تُفتي في زمن تتقاطع فيه حدود الإنسان مع الذكاء الاصطناعي؟ وهل ما زال للمفتي أن يُنصت لنداء التكليف الأخلاقي، في زمن تتكاثر فيه المنصات وتتشظى فيه الأجوبة؟ بهذا المعنى، لا يُعد المؤتمر مجرد مناسبة معرفية، بل هو إعلان ميلاد جديد لنموذج المفتي الذي لا يتهيب العصر، بل يشتبك معه، حاملًا في قلبه أدوات التمييز، وموازين المقاصد، وضمير الفتوى الحي.
إنها مصر، إذًا، التي أرادت أن تقول للعالم الإسلامي: لسنا متفرجين على الثورة الرقمية، بل فاعلون فيها، نصوغ فيها صورة المفتي لا كظل لماضيه، ولا كصوت لتقنيته، بل كمَلَكَة عقلانية تربط الحكم بمناطه، والواقع بمقاصده، والفتوى بمستقبلها. وهل هذا إلا جوهر الفقه حين يكون وعيًا لا تكرارًا، وقيادة لا استتباعًا؟