مناوي والحركات ككل من أهم أمثلة السياسة كسوق أعمال
تاريخ النشر: 3rd, April 2025 GMT
بجانب ما ذكرته وبالتعليق على حديث مناوي تذكرت شخصية الأكاديمي البريطاني (أليكس دي وال)، لدي تحفظات كثيرة تجاه هذا الباحث والكاتب وأزعم بأن الزمن ومزيد من المراجعة كفيل بتوضيحها أكثر، لكن لا ضير من الحديث اليوم.
(أليكس دي وال) من نوع من يسمونهم بالمتخصصين حول السودان والقرن الأفريقي، وله كتابات عديدة وأوراق حول السودان، وتحفظي على شخصية اليكس ينطلق عموما من التحفظ على شخصية الخبير الذي يقترح السياسات، وقتها يتحول هذا الخبير من أكاديمي ليقدم كمختص خبير للجهات الفاعلة والمؤثرة، يصبح سياسيا وخادما مخلصا للمشغل، ستظهر انحيازاته المزعجة وقصور نماذجه أكثر.
طرحه من خلال نمذجة السياسة كسوق أعمال، والسياسيون من خلال هذا السوق يظهرون من خلال كونهم رواد أعمال أو رجال أعمال، أو موظفون أو مدراء تنفيذيون وغيرها، وهذا السوق يتضمن تبادلا نقديا لعملة سياسية، ولحركة مال سياسي، وفي هذا السوق يكون لقرار الشخص رائد الأعمال قيمة وتأثير، وإذا أخطأ في توقع السوق ودخل مغامرة كبيرة وخسر، فهو سيدفع نتيجة هذا الفعل ويتراجع بشدة في السوق.
هذا شرح مختصر وبسيط طبعا لطرح الباحث وهو نموذج وصفي وتفسيري وفي ظني لا يمكن وصفه بالاقتصاد السياسي بالمعنى الاجتماعي، لكنه أقرب لنماذج إدارة الأعمال لوصف السياسات في المدى القريب. رجل مثل حميدتي وقد كان لو وزن كبير في السوق السياسي من خلال المال الخارجي والعلاقات في السوق الأمني والمرتزقة العابرة للحدود وخدمات أمنية قدمت في الخليج وللأوروبيين، بكل ذلك فإن قرار حميدتي في السيطرة على السلطة والحرب كان قرارا خاطئا بمقاييس الربح والخسارة، هذا بفرض أنه قراره وحده فلقد خسر حميدتي تماما مكانته ومستقبله وسيهزم تماما. وما يمكن قوله في هذا الجانب لا يسعفنا نموذج (اليكس دي وال) فيه، لكن ما ذكرني كل ذلك كما ذكرت هو خطابات مناوي حاليا.
مناوي والحركات ككل من أهم أمثلة السياسة كسوق أعمال، والرجل في كل خطاباته يفكر من خلال السوق، هو مثلا يحاول تعظيم المال السياسي من خلال الدولة والسلاح، ويحاول زيادة رأس ماله الرمزي وسمعته من خلال الاستناد على دارفور والإدعاء بأنه ممثلها، والأهم يحافظ على شبكة علاقات مع المتنافسين والاتفاق معهم على منع أي وافدين جدد للسوق، وبذلك نفهم تحالف مثل الكتلة الديمقراطية ككل كونها تحالف سياسي أشبه بكارتيل political cartel، ومفهوم الكارتيل هذا يشير لتوافق وتحالف بين متنافسين على تنظيم سوقهم الخاص وتقسيمه، ويستخدم لوصف حالات في السياسة وأحيانا في وصف كارتيلات العصابات والمهربين للمخدرات، غالب قادة تحالف الكتلة الديمقراطية هم قادة في هذا الكارتيل.
إن النظر لحركات مثل حركة مناوي كأعضاء في الكارتيل بهذه الطريقة، يقتضي من المثقفين الوطنيين والسياسيين اقتراح سياسات تغير هذا السوق هيكليا وتفك الاحتكار، فتزيد مثلا العرض فيقل الطلب، فهم بتقسيمهم للسوق يحافظون على مستوى عرض مناسب مع الطلب عليهم بما في ذلك داخل دارفور، العرض السياسي اليوم يتوسع عموما بأدوات السلاح والصوت المناطقي والوعي بخطورة احتكار السوق، كذلك من أهم سياسات التغيير الهيكلي هو فرض ثوابت مؤثرة على السوق تفرض وعيا بثوابت تمنع نماذج الدخول في التنافس من خلال المال الخارجي والحرب على الدولة.
سأتوقف هنا لأن نموذج السوق السياسي سيبدو بعد ذلك تبريريا ووصفيا وشحيح منهجيا في اقتراح سياسات من منظور وطني، وكذلك سيبدو منغلقا عن عوامل التدخل الخارجي والتأثير الآيدلوجي وأدوات التغيير الناعم.
لكن مناوي كرجل أعمال سياسي عليه أن يتواضع ويعلم أن السياسة اليوم تغيرت تماما عن نمط السوق الذي دخله بعد اتفاق أبوجا العام ٢٠٠٦م.
الشواني
هشام عثمان الشواني
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: هذا السوق من خلال
إقرأ أيضاً:
المؤسسات الجيدة لن تصلح السياسة المختلة
اجتمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا برئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول في مسعى منه لإقناعه بخفض أسعار الفائدة. وهذا يذكِّر بالضغوط التي مارسها الرؤساء الأمريكيون على البنك في أعوام السبعينات.
قد يشعر بعض المستثمرين بالقلق من أن المؤسسات الاقتصادية الأمريكية تتعرض للتجريف (يجري إضعافُها). وهو ما يمكن أن يقود إلى تقلٌّب الاقتصاد الكُلِّي، لكن ربما يمكن التلطيف من تلك المخاوف بتمسك البنك الفيدرالي بموقفه تجاه أسعار الفائدة. على أية حال لا يزال هنالك ما يدعو إلى القلق ليس حول تراجع قوة المؤسسات الأمريكية ولكن نوع البيئة السياسية التي تعمل فيها.
لكي نفهم دور المؤسسات في التصوُّرات الاقتصادية الشائعة يجب علينا العودة إلى سنوات التسعينات عندما كان من اليسير تمييز السياسات الاقتصادية للبلدان الصاعدة عن تلك التي تخص البلدان الصناعية.
كانت سياسات البلدان الصاعدة «مسايرة» للدورة الاقتصادية. فهي تنفق دون قيد في أوقات اليُسر مضيفةً بذلك المزيد إلى الدَّين والتضخم. لكنها ترتدُّ إلى الواقع في أوقات العُسر عندما تسوء الأحوال وتفقد قدرتها على الاستدانة. في المقابل تبنَّت البلدان المتقدمة سياسات تثبيت الاقتصاد (من بينها خفض الإنفاق في أوقات اليسر أو الانتعاش الاقتصادي وزيادته في أوقات العسر أو الانكماش. وهذه سياسات معاكسة للدورة الاقتصادية- المترجم). فالولايات المتحدة سجلت فوائض مالية كبيرة أثناء سنوات النمو المرتفع في أواخر التسعينات.
حاجج الاقتصاديون بأن المؤسسات تفسر هذا الاختلاف. فالبنوك المركزية المستقلة في البلدان الصناعية استهدفت التضخم واتبعت برلماناتها القواعد المالية التي حدت من الإفراط في الإنفاق بل طالبت حتى بضبط الموازنة على مدار الدورة الاقتصادية. فالمؤسسات تمثل قيدا صارما يَحِدُّ من اتخاذ قرارات آنية لاعتبارات سياسية وليس من أجل المصلحة العامة.
لكن سرعان ما ظهرت التصدعات في هذا التفسير. فخلال سنوات التسعينات حثت المنظمات متعددة الأطراف كصندوق النقد الدولي البلدان الصاعدة على تبني مثل هذه المؤسسات. لكن حتى عندما استجاب الإصلاحيون للنصح استمرت سياسات هذه البلدان في مسايرة الدورة الاقتصادية وقادها ذلك إلى سلسلة من الأزمات.
لكن بداية من أوائل العشرية الأولى صارت سياسات الاقتصاد الكلي في بعض البلدان الصاعدة أكثر استقرارا مع شروع المؤسسات في اكتساب المزيد من التأثير في تشكيل السياسات. ابتدرت حكومة فيرناندو هنريك كاردوسو استهداف التضخم في البرازيل لكن البنك المركزي اتسم بالصدقية حقا عندما حافظ خَلَفُه اليساري لويز ايناسيو لولا دا سيلفا على استقلال البنك.
لم تتغير المؤسسات لكن الإجماع السياسي خلفها تغير. فالنمو المدفوع جزئيا بالازدهار السِّلعي قدم فوائض في الموازنة لمساعدة من هم أكثر احتياجا. ومكّنت برامج مثل برنامج بولصا فاميليا (بالبرتغالية يعني دعم العائلات) من تقديم تحويلات مباشرة للفقراء فيما يسرت برامج أخرى الحصول على خدمات كالتعليم والرعاية الصحية والإسكان.
تراجعت هشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وضعف الحافز لدفع حزب العمال بقيادة لولا دا سيلفا إلى الانغماس في التطرف السياسي مما سمح ببروز إجماع وطني واسع حول سياسات تهدف إلى استقرار الاقتصاد الكلي.
بدأت المؤسسات تؤدي دورها، وفي حين شكلت فترات مطولة من النمو الضعيف ضغطا على الإجماع إلا إنه لا يزال صامدا في العديد من البلدان الصاعدة. وفي الواقع يعود الخطأ في حث المؤسسات بالبلدان الصاعدة (على الإصلاح) في سنوات التسعينات إلى عدم وجود إجماع سياسي وقتها.
بالمقابل يمكن القول إن البلدان المتقدمة اتخذت سياسات أكثر مُسَايرَة للدورة الاقتصادية، فالولايات المتحدة أنفقت أموالا ضخمة فيما كانت تتعافى من الجائحة، وذلك ما أضاف إلى التضخم الذي لا زال بنك الاحتياطي الفيدرالي يحاول السيطرة عليه.
ويهدد مشروع قانون موازنة ترامب «الكبير والجميل» بزيادة العجز المالي غير القابل للاستدامة في الولايات المتحدة. كما تصارع كل من فرنسا واليابان لتقليل معدل الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي والذي يزيد عن 100%. وهذا مستوى لم يكن ليخطر على البال في سنوات التسعينات.
من المستبعد أن يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي مؤسسة ضعيفة. فقد سارع إلى إعادة تأكيد استقلاله عقب لقاء ترامب - باول.
وفي الواقع بصرف النظر عمّن سيحل محل باول في رئاسة البنك في العام القادم من المستبعد أن يُخضِع البنك سياساتِه النقدية لرغبات الحكومة الأمريكية. الى ذلك ليس من غير المعقول أن تجعل إدارة ترامب البنك كبشَ فداء (بتحميله المسئولية) إذا تدهور الاقتصاد.
على أية حال لقد تغير الإجماع السياسي في الولايات المتحدة. ومن المحتمل أن البنك ليس لديه اليوم المجال السياسي الكافي لمعالجة التضخم بنفس الهمّة التي أبداها في عهد بول فولكر (1979-1987). وعلى نحو مماثل لم تتغير القواعد المالية (ضوابط السياسة المالية) في الولايات المتحدة عموما. لكن تغيرت الرغبة السياسية في احترام روح هذه القواعد. ذلك لأن الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية زادت في البلدان المتقدمة وكذلك اللامساواة. والسبب الواضح لذلك اختفاء الوظائف المجزية لذوي المهارات المتوسطة من أفراد الطبقة الوسطى بسبب التغير التقني والى حد أقل التجارة.
بالعكس من ذلك، استفاد الحاصلون على مؤهلات تعليمية عالية. فقد جلبت العولمة فرصا أكبر لمن يعملون في صناعات ذوي الياقات البيضاء. ويرسل الساسة المتطرفون لمن فاتهم الركب رسالةَ مقنعة مفادها أن السياسات التي تخدم بها النخبة مصالحها الخاصة هي المسئولة عن سوء حالهم.
نتيجة لذلك ضَعُف التوافق السياسي الذي يقف وراء سياسات الاقتصاد الكلي مع تخلي الجمهوريين حتى صقور المالية (المتشددين منهم الذين ينادون بخفض الموازنة) عن معارضتهم للإنفاق.
ضبط الموازنات يتطلب تسويات. لكن عندما تصبح السياسة استقطابية إلى هذا الحد قليلون من هم على استعداد للقيام بذلك. ويصبح الإنفاق المنفلت هو السائد. وفي بعض البلدان الصناعية قد يكون التوقف الفجائي (عن الإقراض) وشيكا. ذلك حين تصبح الأسواق غير راغبة في تمويل حكوماتها.
المؤسسات لا تضمن للبلدان انتقالا إلى أوضاع «اقتصاد كلي» مثالية. وهي لا يمكنها إيجاد إجماع سياسي. فذلك يتطلب من المواطنين الإيمان بعدالة النتائج الاقتصادية (الإنصاف في توزيع ثمرات النمو). وهذا يستوجب إصلاحات هيكلية تعزز فرص أولئك الذين تخلفوا عن الركب. ربما تحتاج البلدان المتقدمة إلى الشروع في التأسِّي بما فعلته البلدان الصاعدة.
راجورام راجان رئيس البنك المركزي الهندي سابقا وأستاذ بجامعة شيكاغو
الترجمة عن «الفاينانشال تايمز»