تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تشبث بيدها وهى تقوده، ربتت على كفه فى حنان، كان يتأمل المكان حوله يمينًا ويسارًا، رواق طويل مظلم، عند آخر الممر بدأ الضوء يتسلل إلى عينيه رويدًا، لمح نقطة ضوء ساطعة، حاول العدو بأقدام متثاقلة، كاد يتعثر، شدت على كفه، أمسكها بقوة، التفت إليها بنظرة امتنان وابتسامة صافية، بادلته البسمة بأخرى أكثر حنانًا وأمانًا ثم عادت تربت على كفه من جديد.

دلفا معًا، سطعت الأضواء، أغلق عينيه رغمًا عنه، طنين رهيب اخترق أذنيه، لم يقدر على المقاومة؛ فأفلت كفه من يدها ليسد فتحات أذنيه، أسرعت تمسكبكتفه لتحوله عن السقوط، التقط أنفاسه، بدأ الهواء العليل يتسلل إلى صدره، اشتم رائحته بانتشاء، قبل أن يبدأ في فتح عينيه تدريجيًا..

اعتادت عيناه الضوء، أفلح فى احتضان المكان بكلتا عينيه، المسرح الكبير، الستارة المسدلة بلون النبيذ الأحمر، المقاعد المتراصة صفوفًا بلون القهوة، اتسعت ابتسامته فى سعادة اختلج لها قلبه بين أضلعه، دمعت عيناه بشغف وأمل..

جذبته برفق، أجلسته على المقعد، كادت تنصرف، التقط كفها بقوة وخوف، بدا توسله وهو يسألها المكوث جواره، أومأت برأسها وجلست فى المقعد المجاور له..

رمق الستار الذى أخذ يتسلل تدريجيًا هاربًا، حُبست أنفاسه، مضت لحظات أشبه بقرن من الزمان حتى رُفع الستار عن آخره كاشفًا مسرح كبير، غمرته الأضواء، بينما ساد المكان ظلامًا دامسًا، وصمت رهيب..

ظهرت الفرقة الموسيقية بأكملها، صفق مع الحضور فى سعادة، ضحك من قلبه وهو يلتفت إلى رفيقته، أطلق صفيرًا من بين شفتيه والمايسترو ينحنى مقدمًا فرقته الموسيقة، جذب رفيقته هامسًا لها بصوت خافت:

-نغم هناك.

أشار بسبابته إلى موضعها، صدرت تنهيدة حارة من بين شفتيه وهو يسترسل فى همسه:

-الفتاة التي تعزف على آلة التشيلو، الرقيقة، الساحرة، الفتاة ذات الشعر البنى المسترسل.. زوجتي.

أبدت جارته حماسها، ثم ارتفعت الألحان، بدأ يصفق من جديد، أوقفته عن فعله، فأسدل كفيه باستسلام، وضعت سبابتها فوق شفتيها.

وافقها بإيماءة من رأسه، ثم دقق فى أضواء المسرح العالية، شعر بعجزه عن رفع عينيه إليها، أخمد ناظريه مدققًا السمع والبصر فى حبيبته، كانت تمسك آلتها، تحتضنها بين ساقيها، تسدل جفنيها، تعتصر ألحانها قبل سكبها، تشدو فى حنين وألم..

بكت عيناه رغمًا عنه، مد كفه وكأنه يناديها، كل ما جال بخاطره رفقة ألحانها أن تكون غفرت له خطأ جسيم لا يغتفر، يثق تمامًا بحبها له، أنفاسها التى تخترق آلتها تلفحه من بعيد، آه لو رفعت عينيها ونظرت إليه نظرة واحدة، يعلم أنها لن تقاوم دموعه، ستسامحه، لو أمكنه اختراق الصفوف والصعود على خشبة المسرح وانتشالها من بين ألحانها..

فتحت عينيها، ظلت معلقة بآلتها، بدت أذنيها تطرق السمع جيدًا، توقفت لحظات ثم عادت تدغدغ أوتارها، تعلو بذقنها تارة وتخفضها تارة أخرى، وصل لمسامعه صوت دقات قلبها، لمح رجفة أصابعها، انتفضت فى موضعها ثم توقفت عن العزف، بدت أشبه بتمثال، رمقها المايسترو، لم يفهم، وحده فقط من يفهم، نهض بموضعه، صرخ بأعلى صوته: 

- استمرى لا تتوقفي، لا تستسلمي.

أمسكته رفيقته، حاولت إجلاسه، لكنه دفعها، صارخًا باسمها:

- نغم، أرجوكِ.

رفعت عيناها، بكت، أخذ يشير إليها بكلتا كفيه، قفز من موضعه، أمسكته رفيقته لكنها لم تلحقه، سقط أرضًا، وسط العشب الأخضر الممتد حوله، اشتم رائحته، رفع رأسه نحو السماء يتوسل، صدمه قرص الشمس الساطع، اخترق عينيه، زلزله بعض النسيم الذي صفع وجهه، ارتجت أوصاله، بكى بحرقة.

رفع رأسه يتأمل المسرح الذى أسدلت ستائره، وتعجب كم صارت بالية، انطفأت الأضواء، صار بقعة مظلمة.

أسدل جفنيه بخوف، ارتعش جميع بدنه، طنين رهيب اخترق أذنيه من جديد، حاول حجب جميع حواسه..

ألقى نظرة أخيرة على المسرح، لم يعد له وجود، أنهضته رفيقته بعطف، تأملها فى ثوبها اللبني، رقيقة حانية، ابتسامة ناعمة لا تغادر شفتيها، سألها رغبته فى منحهفرصة أخيرة لمحادثتها؛ تركته.

تقدم ببطء، لمحها وحدها لا زالت واقفة فى ثباتها، تناديه بكفها المتحجر، تجرء على لمسها، تحسسها بشغف، نظر بعينيها الصامتتين، دموعها المترقرقة فى موضعها، ضاعت آلتها، احتضنها بقوة، طبع قبلة تذوقها باردة فوق وجنتها..

نادته رفيقته، التفت إليها يرجوها أن تساعده، ربتت عليه معلنة له عودتهم يوم آخر..

لم يعلق، انساق معها إلى الداخل حتى غابا عن أعين الناظرين.

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: أسدل الستار إبداعات بورسعيد

إقرأ أيضاً:

عمرو دوارة .. ذاكرة المسرح المصرى

خسر المسرح المصرى والعربى شاهداً نادراً على تاريخه، ومؤرخاً جمع بحب وإخلاص ملامح قرن ونصف من الإبداع المسرحى، حيث ودعت الساحة الثقافية صباح يوم الخميس، أحد أعمدتها الراسخة، المخرج والمؤرخ المسرحى الدكتور عمرو دوارة، الذى غيّبه الموت بعد صراع مع المرض، تاركاً خلفه إرثاً ضخماً من الإبداع والتوثيق المسرحى، ومجلدات حافلة تحفظ الذاكرة الفنية لمصر والعالم العربى.
أُقيمت صلاة الجنازة على الراحل عقب صلاة الظهر بمسجد الإخشيد بمنيل الروضة فى القاهرة، قبل أن يُوارى جثمانه الثرى فى مقابر الأسرة بمدينة الإسكندرية، مسقط رأسه التى عشقها وعاد إليها أخيراً، كما لو أنه اختار أن يُغلق دائرة العمر حيث بدأ الحلم.
رحيل عمرو دوارة لم يكن مجرد فقد لمخرج أو كاتب، بل صفعة موجعة لكل من عرفه أو تتلمذ على يديه أو استفاد من علمه الغزير، فقد كان دوارة أكثر من مجرد فنان، كان مؤرخاً وفيلسوفاً للمسرح، منح حياته كلها لتوثيق هذا الفن النبيل.
ولُقب عن جدارة بـ «حارس الذاكرة المسرحية»، إذ كرّس سنوات عمره لجمع وتوثيق تاريخ المسرح المصرى والعربى فى مؤلفات موسوعية أصبحت مرجعاً لا غنى عنه لأى باحث أو مهتم بتاريخ الفن المسرحى.
وُلد الراحل فى بيتٍ عريق يتنفس الأدب والفكر، فهو نجل الناقد الكبير فؤاد دوارة، أحد أبرز النقاد المصريين فى القرن العشرين، بدأ عمرو دراسته الأكاديمية فى كلية الهندسة، لكنه سرعان ما استمع لنداء شغفه الأول، فالتحق بالمعهد العالى للفنون المسرحية وتخرّج فى عام 1984، ليبدأ رحلة طويلة من الإبداع والبحث والتأريخ.
لم يكن عمرو دوارة مجرد شاهد على تطور المسرح المصرى، بل كان مؤرخه الأمين، الذى سعى بكل ما أوتى من حب ووقت وجهد لتوثيق ملامح مسيرته، 
ففى عام 2025، صدرت له الطبعة الجديدة من كتابه المرجعى «المسرح المصرى وقرن ونصف من الإبداع»، بعد نفاد طبعته الأولى الصادرة عن المهرجان القومى للمسرح المصرى عام 2018، ويوثّق الكتاب أكثر من 7500 عرض مسرحى قُدّمت على خشبات مصر منذ عام 1870 وحتى نهاية عام 2024، تشمل العروض الخاصة ومسارح الدولة، ليكون بحق أرشيفاً بصرياً وتاريخياً فريداً للمسرح المصرى الحديث.
كما أعدّ دوارة موسوعة «سيدات المسرح المصري»، التى ضمّت أسماء 1500 سيدة قدّمن إسهامات رائدة فى الحركة المسرحية، متضمنة السير الذاتية والمهنية لنحو 150 فنانة من رواد المسرح بمختلف المناهج والمدارس الفنية، ولم يتوقف عند ذلك، فأصدر كتباً وموسوعات أخرى مثل: «المهرجانات المسرحية العربية بين الواقع والطموحات»، و«موسوعة المسرح المصرى المصورة»، وهى أعمال وصفها النقاد بأنها «ذاكرة مسرحية تمشى على الأرض»، لما تحمله من دقة أرشيفية وعمق تحليلى نادر.
وقدّم الراحل نحو 66 عرضاً مسرحياً تنوّعت بين الكلاسيكى والمعاصر، نذكر منها: وهج العشق، خداع البصر، عصفور خايف يطير، السلطان يلهو، يوم من هذا الزمان، النار والزيتون، بيت المصراوى، حاصل الضرب والقسمة، ممنوع الانتظار وغيرها.
كان دوارة يرى أن المسرح ليس مجرد عرض، بل فعل حضارى وتنويرى، وأن مهمة المخرج تتجاوز حدود الخشبة لتصبح رسالة ووعياً وثقافة.
وأسس عمرو دوارة عدداً من الفرق المسرحية المستقلة، وأطلق مبادرات ثقافية مهمة، أبرزها دعوته للاحتفال بمرور 150 عاماً على تأسيس المسرح المصرى الحديث بفضل ريادة يعقوب صنوع عام 1870، وهى الدعوة التى تبنتها لاحقاً وزارة الثقافة المصرية.
كما أسَّس الجمعية المسرحية لهواة المسرح، وترأس مهرجان المسرح العربى بالقاهرة، واضعاً نصب عينيه هدفاً واضحاً: أن يظل المسرح حياً فى وجدان الناس.
نال الراحل خلال مسيرته الطويلة العديد من الجوائز، تقديراً لإسهاماته الجادة فى إثراء الثقافة المصرية والعربية، من أبرزها: جائزة الدولة للتفوق فى الآداب عام 2022، والجائزة الأولى للتميز فى النقد المسرحى من اتحاد كتاب مصر، وهى من أرفع الجوائز التى يمنحها الاتحاد، إلى جانب تكريمات أخرى من مؤسسات ثقافية عربية عديدة.

مقالات مشابهة

  • بعد الهجوم على إيناس الدغيدي.. فيدرا تدافع عن حق النساء في الزواج: «عايزينها تموت؟» |فيديو
  • فيدرا تهاجم نظرة المجتمع للزواج بعد سن معينة: “هو المطلوب تموت؟”
  •  انتخابات العراق: مرشحو الأحلام يغرقون الواقع بالوعود البرّاقة
  • «حققت حلم الأحلام لما عملت أغنية معاك».. ويجز يُوجّه رسالة لـ محمد منير في عيد ميلاده
  • عبد الله الثقافي يكتب: الحرب جرح لا يندمل
  • عايز أقابل أبوالدهب وعبد الستار صبري.. أبرز 10 تصريحات نارية لمدرب الأهلي الجديد
  • عمرو دوارة .. ذاكرة المسرح المصرى
  • أفريقيا تحت الأضواء.. تمدد إسرائيلي بعد تضامن تاريخي مع فلسطين
  • تعلن محكمة صنعاء الجديدة بأن الأخ/ حمود راجح تقدم إليها بطلب تسلسل وراثة
  • تعلن محكمة ثلاء الابتدائية بأن الأخ/ أحمد سلامة تقدم إليها بطلب انحصار ورثة