تعيش مصر منذ عقود أزمة سياسية مستحكمة، لم تكن في جوهرها أزمة أنظمة فقط، بل أزمة عقل سياسي أخفق في إنتاج بدائل حقيقية، وتَعثّر مرارا في تقديم مشروع وطني جامع يلبّي تطلعات الشعب، ويوازن بين المبادئ والمصالح، بين الإيمان بالهوية والانفتاح على التنوع.

ورغم تعاقب الانتكاسات والانقلابات والانفجارات الشعبية، لم تنجح النخب السياسية والفكرية في الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وظلت تتعاطى مع السياسة من منطلقات ضيقة، يحكمها إما الولاء الأيديولوجي، أو التنازع الشخصي، أو التبعية للسلطة، أو العزلة عن واقع الناس.



تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك أزمة العقل السياسي المصري، من خلال تحليل ملامح الاختلال في بنيته، وتتبع جذوره التاريخية، واستكشاف الإشكاليات الكبرى التي عطّلت نضجه، وعلى رأسها العلاقة المربكة بين الأيديولوجيا والسياسة، كما تقدم الدراسة تصورا أوليا لبناء عقل سياسي راشد، يعيد الاعتبار للسياسة كأداة للتغيير والبناء، لا كحلبة صراع أو ساحة استقطاب.

هذه المراجعة الفكرية ليست دعوة للوم الذات، بل محاولة لاستئناف التفكير من أجل المستقبل، ومن أجل وطن لا يستحق أن يُحكم بالعقل المعطوب، ولا أن يبقى رهينة نخبة عاجزة عن إدراك سنن التحول وشروط النهوض.

المراجعة الفكرية ليست دعوة للوم الذات، بل محاولة لاستئناف التفكير من أجل المستقبل، ومن أجل وطن لا يستحق أن يُحكم بالعقل المعطوب، ولا أن يبقى رهينة نخبة عاجزة عن إدراك سنن التحول وشروط النهوض
المحور الأول: تشخيص الأزمة.. ملامح اختلال العقل السياسي المصري

ظل العقل السياسي المصري على مدار العقود الماضية أسيرا لاختلالات بنيوية عميقة، حالت دون قدرته على إنتاج مشروع وطني جامع، أو قيادة تحول ديمقراطي حقيقي، أو حتى الاستجابة الفاعلة لتحديات الواقع المتغير. ويمكن رصد أهم هذه الاختلالات في ثلاثة ملامح رئيسية:

1- انفصال العقل السياسي عن واقع المجتمع

أول مظاهر الأزمة أن العقل السياسي في مصر، بمختلف تياراته، قد انفصل في كثير من الأحيان عن نبض الشارع ومصالح الناس الفعلية، وراح يشتغل في مساحات نظرية أو نخبوية، معزولة عن هموم الأغلبية. فبدلا من بلورة برامج سياسية واقتصادية تعالج مشكلات المواطن، مثل الفقر، والبطالة، والتعليم، والصحة، والحريات، وانشغل كثير من الفاعلين السياسيين بقضايا رمزية أو صراعات فكرية لا تهم الشارع العام.

وقد أدى هذا الانفصال إلى حالة من الاغتراب السياسي، حيث لم يجد المواطن نفسه ممثلا أو معبّرا عنه في أجندات القوى السياسية، سواء كانت معارضة أم في الحكم، وهو ما سهّل على السلطة الاستبدادية احتكار المجال العام، بحجة ضعف البديل أو غياب الجاهزية.

2- هيمنة الأيديولوجيا على حساب المصلحة العامة

العقل السياسي المصري عانى أيضا من الجمود الأيديولوجي، حيث تحوّلت كثير من القوى إلى أسر معتقداتها وأفكارها، دون القدرة على تطويرها أو مواءمتها مع تطورات الواقع. وبدلا من أن تكون الأيديولوجيا إطارا مرنا يُرشد الفعل السياسي ويوجه بوصلته نحو المصلحة العامة، أصبحت قيدا يعطل الفاعلية، ويُقصي المختلف، ويحول دون بناء التوافقات الوطنية الضرورية.

وقد دفعت مصر ثمنا باهظا لهذا الخلل، سواء في لحظات التحول (كما بعد ثورة يناير)، أو في سياق العمل السياسي اليومي، إذ أن عجز القوى السياسية عن تقديم خطاب جامع نابع من احتياجات الناس ومصالحهم، وفّر الأرضية لعودة الاستبداد واستئثاره بالمشهد السياسي، بل وصوّر الديمقراطية على أنها فوضى، والمعارضة على أنها خيانة او طمع في السلطة.

3- غياب المشروع الوطني الجامع

واحدة من أبرز نتائج انفصال العقل السياسي عن المجتمع، وهيمنة الأيديولوجيا عليه، هي العجز عن بلورة مشروع وطني جامع، تتقاطع فيه مصالح الجميع وتتسع مظلته لكافة الأطياف. لقد بقيت كل قوة سياسية تقريبا تدور في فلك مشروعها الخاص، أو تصورها الأحادي للدولة والمجتمع، دون إدراك أن أي مشروع للتغيير لا يمكن أن ينجح إلا إذا ارتبط برؤية وطنية شاملة، يتشارك فيها الجميع، وتراعي التعدد والتنوع وتقوم على قواعد مشتركة.

وهكذا، لم تُفلح أي من النخب السياسية في صناعة عقد اجتماعي جديد يعيد ترتيب العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويضع أسسا عادلة لبناء دولة حديثة. وتُركت الساحة فارغة أمام منطق القهر والاستئثار، في ظل غياب العقل الجمعي الذي يُدير التنوع بدل أن يخافه، ويوجه الخلاف بدل أن يستثمره لصالح القمع.

خلاصة هذا المحور أن العقل السياسي المصري ظل عاجزا عن التوفيق بين القيم التي يؤمن بها، والمصالح التي يحتاجها المجتمع، وبين الرؤية والنزول إلى الميدان، وبين المثالية والواقعية. وقد ساهم هذا العجز، بشكل مباشر، في تمكين الاستبداد، وتبديد فرص التغيير، وتكريس الفشل السياسي، رغم وجود طاقات بشرية هائلة، وتاريخ نضالي طويل، وطموحات شعبية لا تنضب.

المحور الثاني: الجذور التاريخية لأزمة العقل السياسي المصري

لا يمكن فهم الأزمة الراهنة للعقل السياسي المصري بمعزل عن سياقها التاريخي الممتد، فقد نشأت هذه الأزمة وتعمّقت عبر مراحل متعاقبة، تراكمت خلالها عوامل الإقصاء والتأميم والاستبداد، مما أسس لنمط تفكير سياسي هش، لا يؤمن بالشراكة، ويعجز عن التفاعل المرن مع التحولات. ويمكن تتبع هذه الجذور في ثلاث محطات رئيسية:

1- تراكمات ما بعد ثورة 1952: احتكار المجال السياسي وإعادة تشكيل الوعي

أحدثت حركة يوليو 1952 قطيعة كبرى مع التعددية السياسية التي عرفتها مصر في الحقبة الليبرالية، حيث أُقصيت الأحزاب، وأُمّمت النقابات، وسُحقت الحركة الطلابية، وتمت هندسة الحياة العامة بالكامل لصالح سلطة فردية مركزية. وقد امتد هذا التأميم إلى العقل السياسي نفسه، إذ جُرّد من أدوات التفكير المستقل، وحُصر في قوالب الولاء، والشعارات التعبوية، والانصياع لـ"الزعيم الملهم".

وفي هذا السياق، نشأت أجيال من السياسيين والمثقفين على عقل خاضع، لا يرى التعدد قيمة، ولا المعارضة ضرورة، ولا التوافق قاعدة للعمل العام. وهو ما أدى إلى تحلل القدرة على بناء عقل سياسي حر، جمعي، نقدي، وشجاع.

2- حقبة الانفتاح وما بعدها: صعود الفردانية وتآكل المشروع العام

مع التحول الاقتصادي الذي بدأ في السبعينات، والذي عُرف بـ"سياسات الانفتاح"، تراجع ما تبقى من المشروع العام للدولة، وبدأت تتحول البنية السياسية والاجتماعية نحو الأنانية السياسية والمصلحية الضيقة. وتعمق ذلك في عهد مبارك، حيث أصبحت السياسة لا تُنتج الأفكار، بل تُدار عبر شبكات المصالح والفساد والتحالفات الأمنية.

في هذه المرحلة، تآكل الهمّ الوطني العام لصالح الحسابات الشخصية أو الحزبية الضيقة، وفقدت النخبة السياسية القدرة على التفكير الاستراتيجي أو العمل الجماعي. كما أن الصراع بين التيارات، خاصة بين الإسلاميين والعلمانيين، تحوّل من صراع مشروع إلى اقتتال رمزي وفكري مزمن، قضى على أي إمكانية لبناء كتلة وطنية متماسكة.

3- ما بعد ثورة يناير: الفرصة الضائعة وتكرار أنماط الفشل
أزمة العقل السياسي المصري ليست طارئة، بل هي نتاج مسار تاريخي طويل من القهر، والاختزال، والضعف المؤسسي، والتنازع الداخلي، وهي بحاجة إلى مراجعة جذرية وشجاعة تعيد الاعتبار للعقل الجمعي، وتُحرر السياسة من قبضة الاستبداد والإيديولوجيا المغلقة الجامدة
كانت ثورة 25 يناير 2011 لحظة استثنائية لكسر الجمود، وإعادة تشكيل العقل السياسي المصري على أسس جديدة: التعدد، والمشاركة، والشفافية، والمواطنة. لكن للأسف، سرعان ما تكررت أنماط الإقصاء والتنازع والاستئثار، وبرز عجز القوى المختلفة عن إدارة التنوع وتقديم مشروع وطني جامع.

انقسم المشهد بين تيارات ترى نفسها الأحق بالشرعية، وأخرى تتخوف من هيمنة الخصم، بينما ظل المواطن العادي يتطلع إلى حلول لمشاكله الحياتية دون أن يجدها في أي خطاب. وقد أدى ذلك إلى سقوط سريع في الفوضى والانقسام، ثم إلى عودة سريعة ومُحكمة لمنظومة الاستبداد، التي وجدت في اختلافات المعارضة وعجزها وقودا إضافيا لترسيخ سلطتها.

خلاصة هذا المحور أن أزمة العقل السياسي المصري ليست طارئة، بل هي نتاج مسار تاريخي طويل من القهر، والاختزال، والضعف المؤسسي، والتنازع الداخلي، وهي بحاجة إلى مراجعة جذرية وشجاعة تعيد الاعتبار للعقل الجمعي، وتُحرر السياسة من قبضة الاستبداد والإيديولوجيا المغلقة الجامدة.

المحور الثالث: نحو عقل سياسي راشد.. من الاستقطاب إلى البناء

إذا كانت المحاور السابقة قد شخصت أبعاد أزمة العقل السياسي المصري وجذورها، فإن هذا المحور يسعى للإجابة عن السؤال المركزي: كيف ننتقل من العقل السياسي المأزوم إلى عقل سياسي راشد؟ أي كيف نبني عقلا سياسيا يُجيد الموازنة بين المبادئ والمصالح، يُدير التنوع بدل أن يسقط أمامه، ويُقدّم مشروعا وطنيا جامعا يتجاوز الانقسام الأيديولوجي؟

1- ملامح العقل السياسي الراشد

العقل السياسي الراشد ليس عقلا "توفيقيا ساذجا"، بل عقل نقدي واقعي قادر على الجمع بين:

• القيم والمصالح: فهو لا يتخلى عن المبادئ، ولا يغفل احتياجات الناس، بل يدمج بينهما في صياغة الرؤية والموقف.

• الواقعية دون انتهازية: يُدرك موازين القوى ويتعامل معها، دون أن يُفرط في أهدافه أو يستسلم للواقع.

• البراغماتية الوطنية: يُراعي أولويات المجتمع وظروفه التاريخية، ويُعيد ترتيب الأولويات وفقا لمصلحة الوطن لا مصلحة التيار.

2- أدوات تجديد العقل السياسي

لكي يُولد عقل سياسي راشد، لا بد من توفير بيئة معرفية وتنظيمية وأخلاقية تُحفّز هذا التحول، من خلال:

• تجديد الخطاب السياسي داخل التيارات الكبرى: بمراجعة الذات، والانفتاح على النقد، وتطوير الخطاب من الشعارات إلى البرامج.

• بناء مؤسسات تشاركية: تتجاوز المركزية الفردية والزعامة الكاريزمية، نحو هياكل جماعية تشجع المشاركة وتداول الأفكار.

ما تحتاجه مصر اليوم ليس فقط تغيير النظام، بل تجديد العقل الذي يُنتج السياسة، ويصوغ البدائل، ويقود التغيير؛ عقل لا يرى في الدين خصما، ولا في التنوع تهديدا، ولا في السياسة مغنما شخصيا، بل مشروعا أخلاقيا ووطنيا وإنسانيا، يرتكز على العدالة، والكرامة، والمصلحة العامة
• تعميق فهم المجتمع وتاريخه وتحولاته: فالسياسة لا تُبنى على النصوص فقط، بل على وعي عميق بنبض الناس وطبيعة اللحظة.

3- من الأيديولوجيا إلى المشروع الوطني

التحول المفصلي المطلوب هو الانتقال من عقل يدور حول نفسه، إلى عقل يدور حول الوطن. وهذا يتطلب:

• أن تتحول الأيديولوجيا من هوية مغلقة إلى إطار مرجعي مرن يسهم في صياغة مشروع وطني أوسع.

• أن تُعاد صياغة مفردات الخطاب السياسي بلغة تتجاوز الجمهور الحزبي إلى المواطن العادي، تُخاطب حاجاته لا انتماءه فقط.

• أن تُبنى تحالفات وطنية عريضة على أساس المصالح العامة الجامعة لا الانتماءات الضيقة، وتُدار الخلافات ضمن آليات تضمن استمرار التعاون.

إن بناء عقل سياسي راشد ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وطنية لإنقاذ مصر من تكرار الفشل والانهيار.. فلا مشروع للتغيير بدون عقل يجيد رؤية الواقع، وقراءة الممكن، وبناء الثقة، وتقديم الحلول.. ولا نهضة حقيقية دون وعي سياسي يحرر نفسه من أسر الأيديولوجيا، دون أن يفقد بوصلة المبادئ، ويُنزل السياسة من سماء الشعارات إلى أرض الناس وهمومهم.

لقد كشفت التجربة السياسية المصرية، منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم، عن فشل بنيوي في إنتاج عقل سياسي قادر على إدارة التنوع، وصياغة التوافق، وصناعة الأمل. وهو فشل لم يكن حتميا، لكنه كان نتيجة طبيعية لعوامل التهميش والاستبداد، والعجز عن تجاوز الأيديولوجيا المغلقة، والانفصال عن واقع الناس ومصالحهم الحقيقية.

وإذا كانت الأنظمة الاستبدادية تتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، فإن النخب السياسية والفكرية لم تكن بريئة من هذا العطب، إذ كثيرا ما اختارت الاستئثار بدل الشراكة، أو العزلة بدل التواصل، أو الشعارات بدل البرامج.

ما تحتاجه مصر اليوم ليس فقط تغيير النظام، بل تجديد العقل الذي يُنتج السياسة، ويصوغ البدائل، ويقود التغيير؛ عقل لا يرى في الدين خصما، ولا في التنوع تهديدا، ولا في السياسة مغنما شخصيا، بل مشروعا أخلاقيا ووطنيا وإنسانيا، يرتكز على العدالة، والكرامة، والمصلحة العامة.

هذه دعوة لإعادة التفكير من الجذور، ولصياغة عقل سياسي يليق بوطن بحجم مصر، ويؤمن أن الحرية لا تصنعها الشعارات، بل تصنعها العقول التي تملك الجرأة على المراجعة، والحكمة في البناء، والإخلاص في خدمة الناس.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء مصر أزمة الأيديولوجيا ديمقراطي التغيير مصر أزمة تغيير أيديولوجيا ديمقراطي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السیاسة من من أجل ولا فی

إقرأ أيضاً:

أحاديث نبوية أهملها الفقه السياسي الإسلامي (1)

حديث علي بن أبي طالب وتهافت خرافة التعيين والقرشية*

أخرج النسائي في “السنن الكبرى” (8210) عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“لو كنت مستخلفًا أحدًا على أمتي من غير مشورة لاستخلفت عليهم عبدالله بن مسعود”.

وقد صحح الحاكم في المستدرك هذا الحديث وقال: “صحيح الإسناد وإن لم يخرّجاه”، أي البخاري ومسلم. أما عاصم بن ضمرة، فقد وثّقه جمع من كبار أهل الحديث، كشيخ البخاري علي بن المديني، والعجلي، ويحيى بن معين، والترمذي، وغيرهم، رغم تشيّعه، وهو أمر لا يقدح في هذه الرواية، لأن مضمونها يتناقض مع أصول العقيدة الشيعية، فلا يعيب هذا الحديث أن يكون رجاله ثقات لدي السنة والشيعة بل يزيده قوة.

ولم ينفرد عاصم بن ضمرة بالرواية، بل ورد الحديث من طريق أبي زهير الحارث بن عبدالله، صاحب علي رضي الله عنه، كما في الترمذي (3809)، وابن ماجه (137)، وأحمد (566). ما يمنح الحديث قوة إضافية في السند والمتن. والحارث من أصحاب علي المتهمين بالتشيع، ويرى علماء نقد الحديث أن رواية عاصم عن علي بن أبي طالب اقوى من رواية الحارث.

*مضمون الحديث ودلالاته السياسية:*

يتضمن الحديث جملتين:

جملة شرطية: “لو كنت مستخلفًا أحدًا من غير مشورة…”

وجملة الجواب: “…لاستخلفت عبدالله بن مسعود”.

فالجملة الأولى تُسقِط مزاعم الوصية والتعيين الإلهي التي تروج لها التيارات الكهنوتية، وتؤكد أن مسألة الاستخلاف ليست حقًا فرديًا للرسول نفسه دون مشورة، فكيف بمن دونه؟

أما الجملة الثانية، فتهدم دعوى اشتراط القرشية في الإمامة، لأن ابن مسعود ليس من بطون قريش الكبرى ذات النفوذ السياسي آنذاك، وهذا يسقط شرط النسب.

لماذا أُهمل هذا الحديث؟

من خلال قراءات شروحات الحديث يتضح أن سبب الإهمال والتهوين من قيمة الحديث تعود إلى الوهم بوجود تعارض بين ظاهر الحديث مع خبر “الأئمة من قريش”، وهو حديث إخباري لا يتضمن أمراً تكليفياً، وقد وظّفه جمهور الفقهاء لتقييد الإمامة الكبرى بشرط النسب القرشي، حتى صار هذا التقييد عرفاً فقهياً متوارثاً، رغم تعارضه مع روح الشورى والمساواة التي أكدها النبي في هذا الحديث وغيره.

وقد حاول بعضهم إخراج الحديث عن سياق الإمامة الكبرى، وصرفه إلى تعيين أمراء السرايا أو قادة الغزوات، لكن الرواية صريحة: “على أمتي”، والاستحلاف على الأمة لا يكون إلا في شأن الحكم العام، أما التعيينات العسكرية أو الإدارية فليست موضع حديث هنا، خاصة أنها لم تكن تَشترط الشورى عادة.

*توافق مع أحاديث أخرى:*

لا يعارض هذا الحديث ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

“لو كنت مستخلفًا أحدًا لاستخلفت أبا بكر أو عمر”.

فالأحاديث تتكامل في سياق إظهار فضل الصحابة لا التعيين الملزِم، والرسول في الحالتين يقرر أنه لا يستخلف أحدًا على الأمة من غير شورى، ليبقى أمر الخلافة حقًا للأمة كلها، تمارسه بالشورى، لا بالوصية أو الاستحواذ العائلي.

*كشف الخرافة السياسية:*

مع اهمال هذه الأحاديث بدلالتها الواضحة تم الترويج لبعض الأحاديث النبوية بطريقة تعسفية لا علاقة لها بالنص النبوي ، كحديث الغدير “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”، الذي ترويجه لتكريس خرافات التعيين الإلهي، وتحويل الولاء الديني إلى ولاية سياسية مغلقة على سلالة معينة، تمارس الحق الإلهي في الحكم وتُقصي الأمة وتُكفّر من يعارضها. تستبيح سفك الدماء والفساد في الأرض في سبيل هذا الحق الموهوم بينما حديث عبدالله بن مسعود يُفند هذا التصور من جذوره، ويؤكد أن حتى النبي لم يستخلف أحدًا من غير مشورة، فكيف بغيره؟

إن إعادة إحياء هذا الحديث اليوم، في زمن تتجدد فيه مشاريع الكهنوت السياسي واحتكار الحكم باسم الدين والنسب، هو واجب فقهي وفكري، واستدعاء صريح لروح الإسلام الأولى: شورى، وعدالة، ومساواة، لا استعباد باسم الغيب، ولا تكفير لمن يطلب حريته وحقه في أن يحكم نفسه بنفسه.

 

مقالات مشابهة

  • إسرائيل على حافة الانفجار السياسي
  • شيخ العقل تلقى اتصالا معايدة من مفتي الجمهورية
  • العقل والروح.. طه عبد الرحمن وسؤال الأخلاق في مشروع النهضة (2)
  • أحاديث نبوية أهملها الفقه السياسي الإسلامي (1)
  • اليونيفيل بين نيران الرسائل السياسية وتحديات السيادة اللبنانية | سياسي يوضح
  • فضل دعاء واستغفار الحاج لأقاربه قبل دخول بيته.. علي جمعة يوضح
  • أزمة تجنيد الحريديم تعصف بالحياة السياسية في إسرائيل.. هل تسقط حكومة نتنياهو؟
  • منسى زار شيخ العقل: نسعى للتمديد لليونيفيل خلال شهر آب
  • “الشعبية”: العدوان الصهيوني الجديد على اليمن يعبر عن إفلاس وعجز متراكم
  • الإسلاميون المصريون يتبنّون الواقعية السياسية ويعيدون علاقتهم بالغرب.. دراسة