د. سعيد الدرمكي

في ظل التنافس العالمي المحتدم، بات من الواضح أن الاعتماد على الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز لم يعد خيارًا مستقرًا كما كان في السابق، رغم كونها الدعامة الأساسية لاقتصادات العديد من الدول لعقود عدة. وفي المقابل، تظل المقومات الطبيعية الخلابة من جبال شامخة، وبحار هادئة، وشواطئ ساحرة، عناصر جذب تأسر الألباب وتحول الأماكن إلى وجهات تنبض بالحياة والجمال.

ومن هنا، تبرز السياحة كأحد أهم البدائل الاقتصادية الواعدة، شريطة استثمارها برؤية استراتيجية ذكية.

وفي قلب هذه الصناعة الحيوية، يبرز التسويق السياحي كأداة محورية لا تقتصر وظيفته على استقطاب الزوار فحسب، بل يتجاوز ذلك ليجسد هوية المكان وينقل رسالته الثقافية وقيمه إلى العالم. فعندما يُصاغ الخطاب السياحي برؤية تسويقية ناضجة، يتحول المكان من مجرد مشهد طبيعي إلى تجربة إنسانية لا تُنسى.

التسويق السياحي لا يقتصر على دوره التقني في عرض الإعلانات والترويج للعروض، بل يتجاوز ذلك بكثير؛ إذ يركّز على إدارة تجربة الزائر والانطباع الأول عن الوجهة. وهو يشمل مجموعة متكاملة من الأنشطة التي تهدف إلى جذب الزوار المحليين والدوليين، من خلال تقديم تجربة سياحية فريدة ومتميزة معتمدا على أربعة عناصر أساسية تُعرف بالمزيج التسويقي وهي المنتج السياحي، السعر، الترويج، والتوزيع.

حينما تتم إدارة التسويق السياحي بذكاء وكفاءة، فإنه يتحول من نشاط ترويجي بحت إلى أداة إنتاج اقتصادي فاعلة. فالسائح في هذه الحالة يُعد مستثمرًا مؤقتًا، يضخ أموالًا مباشرة في السوق المحلية عبر الإقامة، والتنقل، والتسوق، مما يسهم في زيادة مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي. كما يُسهم ذلك في تنشيط قطاعات متعددة مثل النقل، والفنادق، والمطاعم، والصناعات التقليدية، إلى جانب خلق فرص وظيفية متنوعة على مختلف المستويات. ولا يقتصر الأثر هنا، بل يمتد لدعم وتمكين رواد الأعمال، لا سيما في المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

يلعب التسويق السياحي دورًا محوريًا في تعزيز الصورة الذهنية للدولة؛ إذ يسهم في نقل وترسيخ القيم، والتعريف بالتاريخ والحضارة، مما يعزز سمعتها على المستوى الدولي كوجهة آمنة وجذابة وغنية بالفرص. كما يبرز التنوع الثقافي والتراثي كمصدر للفخر الوطني وأداة لتعزيز التفاهم الإنساني. وإلى جانب ذلك، يساهم في تصحيح الصور النمطية المغلوطة من خلال رواية صادقة وواقعية لتجارب الزوّار. وفي هذا الشأن، نجحت دول ذات موارد محدودة مثل جورجيا وألبانيا في توظيف التسويق السياحي الذكي لبناء صورة عالمية متميزة، تفوقت بها على دول أكثر خبرة وثراءً.

وتُعد تجربة سلطنة عُمان في السياحة والتسويق السياحي نموذجًا متوازنًا يجمع بين الأصالة والاستدامة. وفي خطوة استراتيجية لتعزيز حضورها العالمي، أطلقت السلطنة هويتها الترويجية الوطنية تحت شعار "أهل عُمان"، بهدف توحيد الرسائل الاتصالية بين الجهات المعنية، وتسويق السلطنة كوجهة جاذبة للاستثمار والسياحة والإقامة. وتشمل هذه الجهود أكثر من 60 مبادرة، ومنصة رقمية متكاملة، وبرامج لبناء القدرات، بما ينسجم مع رؤية "عُمان 2040" ويُعزّز من تنافسية السلطنة في الأسواق الدولية عبر أدوات احترافية ومستدامة.

ورغم الجهود المقدمة، لا تزال هناك فرص كبيرة لتعزيز التسويق الرقمي وتنويع المنتجات السياحية، كالسياحة العلاجية والتعليمية، مما يسهم في رفع القدرة التنافسية لعُمان عالميًا. وتشير بيانات عام 2025 إلى أن مساهمة القطاع السياحي تتراوح بين 2.75% و3% من الناتج المحلي الإجمالي، مع استهداف زيادتها إلى 3.5% بحلول عام 2030، بما يرسّخ دور السياحة كمحرك رئيسي للنمو الاقتصادي الوطني.

ومن التحديات العامة في تسويق السياحة، أنه لا يزال يواجه عقبات تتطلب حلولًا إبداعية ومستدامة. ومن أبرز هذه التحديات المنافسة العالمية المتصاعدة، حيث تتسابق الدول في تقديم تجارب سياحية فريدة وغير مسبوقة. كذلك، فإن محدودية الاستثمار في التسويق الرقمي تُعد عائقًا كبيرًا، على الرغم من تأثيره الفعّال في جذب شرائح السياح الشباب.  ومن بين العقبات الأخرى، الاعتماد على الحملات الموسمية بدلًا من بناء خطط تسويقية شاملة وطويلة الأمد، إلى جانب ضعف إشراك المجتمع المحلي كجزء من الاستراتيجية السياحية، وقلة الترويج لأنماط سياحية نوعية مثل السياحة البيئية، والعلاجية، والتعليمية. وهذا يتطلب تبني رؤية تسويقية مبتكرة تُعيد تشكيل حضور الدولة في السوق السياحية العالمية بأسلوب مستدام وتنافسي.

الخلاصة.. إن التسويق السياحي ليس ترفًا إعلاميًا ولا نشاطًا تكميليًا؛ بل هو ضرورة استراتيجية تسهم في دعم اقتصاد الدولة وتعزيز هويتها الوطنية. ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى بلورة رؤية وطنية شاملة، تُدمج فيها عناصر الاستثمار، والابتكار، والمشاركة المجتمعية. ومع تطور أدوات التسويق وتغير توقعات السائح العالمي، يبقى التحدي الأكبر أن تنجح كل دولة في سرد قصتها بطريقتها الخاصة، وبصوت يحمل صدق التجربة ودفء الانتماء، ليصل إلى قلوب العالم والسياح على حد سواء.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: التسویق السیاحی

إقرأ أيضاً:

حرب الـ12 يوما.. هل تأثر القطاع السياحي في مصر بالمواجهات الإيرانية - الإسرائيلية؟

يشهد الوقت الحالي هدنة بين الجانبين الإيراني والإسرائيلي بعد 12 يوما من الحرب التي أحدثت زلزالا الشرق الأوسط وهددت بانزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية كبرى، وقد تبادل الطرفان هجمات جوية أسفرت عن مقتل وتدمير في البني التحتية سواء في إسرائيل أو إيران.

وقد جاء تصاعد الأحداث عقب قيام إسرائيل بشن ضربات صاروخية ضد مواقع عسكرية واستراتيجية حساسة في إيران، لشل القدرات النووية لإيران حسبما أعلنت إسرائيل، ما أثار مخاوف الدول المجاورة من تبعات الصراع، وما تبعه من قيام طهران بردها السريع على الإسرائيليين.

وتوسطت الولايات المتحدة بين الجانبين، ونجحت في إلزامها بوقف إطلاق النار بدأت منذ أمس الثلاثاء، في ظل تأكيد أمريكي بأنه سيعقب تلك الهدنة انتهاء تام للحرب.

و قد أثرت تلك الأيام المعدودة في الحرب بين الجانبين الإيراني والإسرائيلي إقليميا، على أسعار أغلب السلع، حيث تعتمد العديد من الدول على استيراد سلع أساسية مثل النفط والغاز من طهران وتل أبيب واللذين سجلا هبوطا كبيرا في سعر التداول الذي هبط أدنى 6%، فضلان عن المخاوف التي أثيرت حول تأثير الصراع على حركة السياحة في العديد من دول الشرق الأوسط.

قطاع السياحة في مصر تأثر بنسبة 30% جراء الحرب الإيرانية الإسرائيلية

تأثرت حركة السياحة الوافدة إلى مصر بنسبة تراوحت من 20 لـ 30%، نظرا لتوتر المجال الجوي في إقليم الشرق الأوسط، الذي تقع في القلب منه من مصر، وفقا لآخر تصريحات حسام الشاعر، رئيس اتحاد الغرف السياحية.

وعلى الرغم من توتر حركة المجال الجوي بشكل كبير في الشرق الأوسط جراء الحرب بين الجانبين، إلا أن مصر، التي تعد دولة محورية ذات مقصد سياحي ضخم في الشرق الأوسط، لم تسجل حالة واحدة من الإلغاء لرحلات الطيران أو الحجوزات التي كانت مبرمة بغرض السياحة إلى مصر قبل 12 يوما من بدء الصراع بين الجانبين، إلا أنه حدث تراجع نسبته سجلت 30% من إجراءات الحجوزات الجديدة، وخصوصا في خضم استعداد قطاع السياحة في مصر لافتتاح المتحف المصري الكبير، وهو حدثا سياحيا عالميا، يتحضر له القطاع لاستقبال أكبر عدد من الزائرين لحضور الافتتاح وزيارة المتحف.

وأشار حسام الشاعر، رئيس اتحاد الغرف السياحية في تصريحات صحفية، أمس الثلاثاء، إلى وجود تباطؤ في الحجز حتى يرى السائح الوضع بالمنطقة، مضيفا أنه لم تصدر أي تحذيرات بشأن السفر إلى مصر، موضحا أن توقف الحرب يكون مؤشرا لأن تحقق السياحة معدلات مرتفعة خلال الموسم الصيفي الجاري.

وأكد أن اتحاد الغرف السياحية، يعمل على المشاركة في الخطط السياحية التي تصل بأعداد السائحين إلى 30 مليون سائح، موضحا أن الوصول إلى هذا العدد الذي تستهدفه الدولة يتطلب التعاون من القطاعين الحكومي والخاص، والعمل على تحسين تجربة السائح، وتسهيل وصولهم إلينا وتحفيز الاستثمار السياحي، لإنشاء الطاقة الاستيعابية لهذه الأعداد، مشيرًا إلى ضرورة إنشاء 200 ألف غرفة فندقية جديدة لاستيعاب هذا الأعداد السياحية.

ويسير قطاع السياحة في مصر وفق خطة استراتيجية تبنتها الحكومة ويعمل عليها القطاع بشكل مستمر، كونه أكثر القطاعات التي تسهم في زيادة الدخل القومي المصرية، وارتفاع احتياطي النقد الأجنبي لمصر، والتي ستحقق وصول القطاع لاستقبال 30 مليون سائح وزائر بحلول عام 2030.

تتطلب تلك الاستراتيجية تنفيذ بعض الأدوات المساعدة للنهوض بالقطاع وفق الخطة الموضوعة، وعلى راس تلك الأدوات، زيادة عدد الغرف الفندقية، والتي تعد أداة رئيسة ضمن أدوات النهوض بالقطاع السياحي.

اقرأ أيضاًأزمة انتخابات الغرف السياحية القادمة بين عوار القانون ونصوص اللائحة

22 مايو.. إجراء انتخابات مجالس إدارات الغرف السياحية

قبل نتائج انتخابات الغرف السياحية.. ماذا ينتظر الأعضاء من المنتخبين الجدد؟

مقالات مشابهة

  • المغرب يرفع وتيرة الترويج السياحي بتوقيع اتفاقية استراتيجية مع الخطوط التركية
  • وزيرة الأسرة: استراتيجية وطنية لتعزيز معدلات الإنجاب في الإمارات
  • حرب الـ12 يوما.. هل تأثر القطاع السياحي في مصر بالمواجهات الإيرانية - الإسرائيلية؟
  • كربلاء تحقق رقماً قياسياً بإنتاج الحنطة وتختتم موسم التسويق بـ305 آلف طن
  • الكسان: تطوير صناعة السكر ضرورة استراتيجية لاستدامة الاقتصاد الوطني
  • نواب البرلمان يؤكدون أهمية تحديث صناعة السكر كرافد أساسي لتعزيز الاقتصاد الوطني
  • برلماني: تحديث صناعة السكر ضرورة استراتيجية لتعزيز الأمن الغذائي
  • وزير النفط: تطوير البنية التحتية للغاز ركيزة أساسية لتعزيز الاقتصاد الوطني
  • محافظ دمياط يبحث مع الهابيتات آليات إطلاق مشروع لتعزيز السياحة والحفاظ على التراث
  • صنعاء القديمة.. ذاكرة الحجر والهوية في وجه الزمن والتحدي