كَيفَ دَخَلَ العَسكَر في صِرَاعَ السُّلطة بالسودان؟
تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT
مدخل:
في يونيو من العام 2021، ومن خلال سلسلة مكوّنة من نحو ثماني حلقات تحقيقية اسْتِقصائية بعنوان:
الجَيشُ والسِّياسةُ.. كَيفَ دَخَلَ العَسكَر في صِرَاعَ السُّلطة في السٌودان؟
حاولت تسليط الضوء على واحدة من أعقد القضايا في تاريخ الدولة السودانية المعاصرة:
كيف أصبح الجيش طرفًا أصيلًا في صراع السلطة؟ ومن المسؤول عن إدخاله في هذا المسار؟
وقد شكلت تلك السلسلة نواة مشروع أوسع، شرعتُ من خلاله في إعداد كتاب يحمل ذات العنوان،
وهو عمل بحثي توثيقي وتحليلي، ما يزال قيد الإعداد، وقد يرى النور قريبًا.
سأحاول عبر هذه السلسلة من المقالات أن أقدّم مقتطفات منتقاة من الكتاب،
تستعرض مراحل العلاقة بين الجيش والسياسة، وتُحلل ديناميكيات السلطة،
وتطرح الأسئلة الجوهرية التي ظلّت معلقة لعقود دون إجابة واضحة.
(2)
منذ استقلال السودان عام 1956، ظل الجيش السوداني لاعبًا رئيسيًا في المشهد السياسي، ليس فقط كحامٍ للسيادة الوطنية، بل كمنافس مباشر على السلطة.
لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: من الذي أدخل العسكر في صراع السلطة؟ وهل كانت المؤسسة العسكرية تسعى للسلطة من تلقاء نفسها، أم أن هناك من مهد لها الطريق؟
(3)
ضعف النخب السياسية بعد الاستقلال
عقب الاستقلال، وُجد السودان في حالة من الارتباك السياسي والمؤسسي. الحكومات المدنية المنتخبة فشلت في إدارة التنوع العرقي والديني والجغرافي، ووقعت في فخ الصراعات الحزبية والطائفية.
الأحزاب السياسية – وعلى رأسها حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي – انشغلت بصراعات الزعامة والمصالح، دون أن تضع مشروعًا وطنيًا متماسكًا. هذا الفشل أدى إلى فقدان الثقة في المدنيين، وخلق فراغًا سياسيًا كبيرًا.
انقلاب 1958: بداية عسكرة السلطة
في نوفمبر 1958، استغل الفريق إبراهيم عبود ذلك الفراغ، ونفذ أول انقلاب عسكري في السودان، مستندًا إلى حالة التذمر من فوضى السياسة المدنية. هذا الانقلاب لم يأتِ نتيجة طموح عسكري منفرد فقط، بل بموافقة ضمنية من بعض الساسة الذين رأوا فيه “حلاً مؤقتًا”.
(4)
تأثير المناخ الإقليمي
في الخمسينات والستينات، كانت المنطقة العربية تشهد موجة من الانقلابات العسكرية، بقيادة شخصيات مثل جمال عبد الناصر في مصر، وعبد الكريم قاسم في العراق، وحافظ الأسد في سوريا لاحقًا.
هذه النماذج ألهمت الكثير من ضباط الجيش السوداني، الذين بدأوا يرون في أنفسهم رواد تغيير، وليس مجرد منفذين لتعليمات الدولة المدنية.
الأحزاب السياسية واللعب بورقة الجيش
المفارقة أن الأحزاب السودانية نفسها كانت أحد الأسباب في عسكرة الدولة.
في انقلاب 1969، تحالفت قوى اليسار (خصوصًا الحزب الشيوعي) مع الضباط القوميين العرب لإسقاط الحكومة المدنية.
في انقلاب 1989، خططت الجبهة الإسلامية القومية لانقلاب عسكري عبر تحالفها مع العميد عمر البشير، ووصلت إلى الحكم عبر البوابة العسكرية.
(5)
انقلاب 25 أكتوبر 2021 في السودان يُعدّ محطة مفصلية في التاريخ السياسي السوداني الحديث.
في هذا اليوم، قام قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان بحلّ مجلسي السيادة والوزراء، واعتقل عدداً من القيادات المدنية، وعلى رأسهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، معلناً توليه السلطة منفرداً.
خلفية الانقلاب:
جاء الانقلاب بعد فترة من التوتر بين المكونين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية، التي شُكلت عقب سقوط نظام عمر البشير في أبريل 2019، بموجب اتفاق “الوثيقة الدستورية”. وكان يُفترض أن تقود هذه الشراكة البلاد نحو انتخابات ديمقراطية.
مٌبررات البرهان:
برّر البرهان الانقلاب بأنه خطوة لتصحيح مسار الثورة، وإنقاذ البلاد من “الاقتتال” و”الانقسامات السياسية”. لكن قوى الثورة اعتبرت ما جرى انقلاباً عسكرياً أعاد البلاد إلى مربع الحكم الشمولي.
تداعيات الانقلاب:
احتجاجات جماهيرية: خرجت مظاهرات حاشدة في الخرطوم ومدن أخرى، رافضة للانقلاب، وواجهتها قوات الأمن بعنف مفرط، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى.
عزلة دولية: أدانت الأمم المتحدة، الاتحاد الإفريقي، والولايات المتحدة الانقلاب، وتم تعليق المساعدات الاقتصادية الدولية للسودان.
عودة حمدوك مؤقتاً: في نوفمبر 2021، عاد عبد الله حمدوك لمنصبه بموجب اتفاق سياسي مع البرهان، لكنه استقال لاحقاً في يناير 2022، معلناً فشل جهوده في التوافق بين المكونين المدني والعسكري.
الأثر السياسي:
أعاد الانقلاب السلطة بشكل فعلي للعسكر، مما أعاق العملية الانتقالية، وأدخل البلاد في أزمة سياسية ممتدة، وانعكس ذلك في زيادة عدم الاستقرار، والانهيار الاقتصادي، وتصاعد التوترات الأمنية، وصولاً إلى الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع.
مع مرور الزمن، لم يعد الجيش أداة تُستخدم من قبل المدنيين، بل أصبح هو من يُدير اللعبة السياسية. توسعت سلطته، وامتد نفوذه إلى الاقتصاد عبر مؤسسات وشركات ضخمة، وأصبح يملك أوراق القوة العسكرية والمالية وحتى الإعلامية.
مسؤولية مشتركة
القول إن الجيش “انقض” على السلطة في السودان لا يكفي لفهم المشهد، فالحقيقة أن العسكر دخلوا الحياة السياسية من بوابات فتحتها الأحزاب السياسية المتصارعة، والنخب الضعيفة، والتدخلات الإقليمية، وضعف بنية الدولة المدنية.
لذا فإن أي حل مستقبلي لعلاقة الجيش بالسياسة لا بد أن يتضمن إصلاحًا حقيقيًا للنظام السياسي المدني، وليس فقط إبعاد العسكر عن الحكم.
بهاء الدين عيسى
التيار
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
صدام علني بين الحلفاء.. الإخوان يكشفون دورهم في حرب السودان
شهدت الساعات الأخيرة داخل معسكر بورتسودان تصاعدًا لافتًا في التوتر بين قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وقيادات الحركة الإسلامية المسلحة التي تقاتل إلى جانب القوات الحكومية، بعد تفجر خلاف علني على خلفية تصريحات البرهان التي نفى فيها وجود عناصر من الإخوان المسلمين أو كوادر الحركة ضمن قواته المنخرطة في الحرب منذ أبريل 2023.
غير أن النفي لم يمرّ مرور الكرام؛ إذ ردّت قيادات الحركة الإسلامية بسلسلة تسجيلات ومقاطع فيديو تثبت—وفق روايتهم—مشاركتهم المباشرة في العمليات الجارية، بل وتظهر أنهم "العصب الرئيسي" للقتال، بينما اعتبر بعضهم أن الجيش السوداني لا يمكنه الاستمرار دون دعمهم.
وفي أحدث ردٍّ على تصريحات البرهان، قال أحمد عباس، والي سنار الأسبق في عهد نظام البشير، إن "من يديرون الحرب الآن هم الحركة الإسلامية، وإن 75% من المقاتلين الذين يقاتلون مع البرهان هم من أفراد الحركة". وأضاف بتحدٍّ: "هل ما زال هناك من ينكر أن الحرب في السودان هي حرب الحركة الإسلامية؟"
وأكد عباس أن الحركة الإسلامية لا تعمل في الظل، بل تمارس دورها بشكل مباشر، قائلاً: "نحن من نسند الحكومة، ونحن من يجلب لها الدعم… وحتى علاقاتها الخارجية تُحلّ عبرنا". كما شدد على أن التنظيم لا يزال يسيطر على جزء كبير من اقتصاد البلاد، رغم حلّ لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو.
من جانبه، يواجه البرهان انتقادات متزايدة بعد إنكاره أي وجود للإخوان داخل السلطة التي يديرها حاليًا، رغم أن الواقع الميداني—وفق مراقبين—يشير إلى هيمنة واسعة لعناصر التنظيم على مفاصل الدولة العسكرية والمدنية. وهو ما أكده القيادي الإسلامي عبدالحي يوسف خلال ندوة في إسطنبول حين قال: "البرهان أعجز من أن يقضي على الإسلاميين لأنهم موجودون حتى في مكتبه".
تصريحات يوسف وعباس فتحت الباب واسعًا أمام تساؤلات حول حجم الشرخ بين المؤسسة العسكرية وقيادات الحركة الإسلامية التي تُعد الشريك الأبرز للجيش في الحرب الدائرة مع قوات الدعم السريع.
وفي تصريحات لموقع سكاي نيوز عربية، قال الطيب عثمان يوسف، الأمين العام للجنة تفكيك التمكين، إن حديث البرهان عن عدم سيطرة الإخوان على السلطة "يكذبه الواقع"، مقدّرًا نفوذهم بما يفوق 95% من أجهزة الدولة ومؤسساتها. وأضاف أن اللجنة تمتلك من الأدلة ما يكشف حجم الجرائم والفساد الذي مارسه التنظيم وكيفية تمكين كوادره داخل قطاعات الأمن والقضاء والاقتصاد.
ويرى محللون أن هذا الجدل العلني غير المسبوق بين طرفي التحالف الحكومي–الإسلامي لا يُعد مجرد سجال إعلامي، بل يعكس أزمة بنيوية عميقة داخل المعسكر الذي يقود الحرب. فبينما يسعى البرهان لإظهار الجيش كقوة وطنية مستقلة بلا هوية أيديولوجية، يتمسك الإسلاميون بإبراز دورهم المركزي كقوة قتالية وتنظيم سياسي يريد فرض نفسه لاعبًا رئيسيًا في مرحلة ما بعد الحرب.
ويحذر خبراء من أن هذا التوتر المتصاعد قد يكون مقدمة لتحولات أكبر في بنية التحالف القائم، خصوصًا في ظل الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة، وتراجع الوضع الميداني في عدة جبهات.
ومع استمرار الحرب وتعقّد المشهد، تبدو العلاقة بين الجيش السوداني وحلفائه الإسلاميين مرشحة لمزيد من الانفجار، وسط مؤشرات على صراع نفوذ داخل السلطة المؤقتة. ففي وقت يسعى البرهان إلى تقديم نفسه للمجتمع الدولي كلاعب مستقل، يصر الإخوان على تذكيره بأنهم جزء أساسي من قوته على الأرض.
وبين الاتهامات المتبادلة والظهور العلني للتنظيم، يبدو أن الحرب في السودان لم تعد فقط مواجهة عسكرية، بل صراعًا داخليًا على السلطة والشرعية ومسار الدولة خلال المرحلة المقبلة.