أثناء سنوات التسعينيات تعرضت السوق اليابانية في أسوأ أيام أزمتها إلى خسارة ثلاثية أو ما أطلق عليها (تريبل ياسو). تمثلت هذه الضربة الثلاثية في هبوط أسواق الأسهم وارتفاع عائدات السندات وتدهور قيمة العملة. الدور الآن على أمريكا التي يلزمها تجرع هذا المزيج السام. فعلى الرغم من أن تجميد الرئيس دونالد ترامب للرسوم الجمركية أتاح مهلة قصيرة إلا أن هذه الخسارة الثلاثية المتزامنة عادت مجددا.

وهي عودة غير مُرحَّب بها.

كانت التحركات الأخيرة في سوق السندات وسوق العملة هي الأكثر إثارة للقلق. فالدولار هبط مقابل سلّة من العملات الرئيسية بنسبة إجمالية بلغت أكثر من 4% منذ 1 أبريل (تاريخ المقال 13 أبريل). وفي الوقت نفسه ارتفعت عائدات سندات الخزانة الأمريكية لمدة 10 سنوات بنسبة 0.3%.

في اليابان قُرِنَت هذه الخسارةُ لثلاثة مؤشرات اقتصادية بانحدارٍ وطني (بتدهور مكانة اليابان الاقتصادية وتراجع نفوذها العالمي- المترجم). لكن الفرار من الأصول المالية الأمريكية يمثل خسارة أكبر بكثير. فالدولار وسندات الخزانة الأمريكية يشكلان ملاذين للعالم. لقد بُنِي النظامُ المالي العالمي على افتراض أنهما ملاذان آمنان.

في الواقع، إذا كان ارتفاع عائدات السندات الأمريكية يعود إلى تعاظم النمو الاقتصادي الأمريكي فمن شأن ذلك أن يعزز قوة الدولار. لكن هبوط قيمة الدولار يوحي بقلق المستثمرين تجاه الاستقرار الاقتصادي للولايات المتحدة. وهذا تكرارٌ خطِرٌ لنموذج حدث في بريطانيا بعد «الموازنة المصغرة» الكارثية التي أعلنتها (رئيسة الوزراء) ليز تراس عام 2022 ووعدت فيها بإجراء تخفيضات ضريبية باهظة التكلفة. وعلى الرغم من أن رسوم ترامب الجمركية تجمَع أموالا للحكومة فإن مثل هذه الإيرادات قد «تتقزَّم» أمام ازدياد المدفوعات التي يتطلبها ارتفاع عائدات السندات.

إلى ذلك، موازنة أمريكا في وضع سيئ أصلا. فالطلب العالمي على الدولار وسندات الخزانة أتاحا للولايات المتحدة إدارة موازنة أكثر إسرافا من الموازنة التي أشعلت الأزمة في بريطانيا. هذه الوضعية الخاصة تعرف «بالامتياز الاستثنائي والمُغَالَى فيه» للدولار. فصافي ديون الحكومة الفيدرالية الأمريكية يساوي حوالي 100% من الناتج المحلي الإجمالي. وخلال فترة الإثني عشر شهرا المنصرمة أنفقت الولايات المتحدة 7% من ناتجها المحلي الإجمالي فوق ما اقترضته. وأنفقت على مدفوعات الفائدة أكثر من إنفاقها على الدفاع الوطني. وخلال العام القادم سيتوجب على المسؤولين الأمريكيين إعادة تمويل ديون تقارب 9 تريليونات دولار أو 30% من الناتج المحلي الإجمالي.

الآن هذا الامتياز مهدَّد. فمن المرجح أن تسبب رسوم ترامب ضررا اقتصاديا أكثر فداحة في الولايات المتحدة قياسا بأي بلد آخر. كما تكشف هذه الرسوم أيضا عن عشوائية وتقلُّب أهواء واضعي السياسات الأمريكيين. فمن الذي يمكنه أن يتنبأ بالكيفية التي ستكون عليها الرسوم الجمركية خلال فترة لا تتعدى أسبوعا؟

ولا يقتصر الشعور بعدم الارتياح على مجال الاقتصاد. فاستعداد ترامب لعدم تمويل الجامعات التي تؤوي منتقديه ولسحب الأعمال الحكومية من الشركات القانونية التي تخدم خصومه ولإبعاد المهاجرين إلى سجن في السلفادور دون إتاحة التظلّم يبدو مهددا للمبادئ التي تأسس عليها المجتمع الأمريكي.

لذلك لم يعد من الصعب تخيُّل سيناريوهات مؤلمة مثل أن يحاول الرئيس التلاعب بالبيانات الاقتصادية أو القضاء على استقلال بنك الاحتياطي الفيدرالي. وفي الواقع هنالك قضية تتخذ طريقها عبر المحكمة قد تجعل من اليسير لترامب القيام بذلك (إنهاء استقلال البنك). إنه لوقت سيئ أن تُثار فيه مشكلة مع البنك وهو المؤسسة المسؤولة عن محاربة التضخم. فالاقتصاد مر بسنوات عديدة من ارتفاع الأسعار ويواجه ارتفاعا آخر بسبب الرسوم الجمركية.

في يوم 11 أبريل قال جون ويليامز رئيس البنك الفيدرالي لولاية نيويورك إنه يتوقع معدل تضخم يتراوح بين 3.5% و4% هذا العام. وكشف استطلاع أجرته جامعة ميشيجان أن المستهلكين يتوقعون ارتفاع الأسعار بنسبة 6.7% خلال العام القادم. وهذا أعلى معدل منذ عام 1981.

لذلك لا غرابة أن يخاف المستثمرون. مع ذلك يسعى الجمهوريون إلى تمديد سريان التخفيضات الضريبية التي تعود إلى الفترة الرئاسية الأولى لترامب والإضافة إليها وكأن الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة أمر مفروغ منه. ففي 10 أبريل أجاز مجلس النواب مشروع موازنة لمجلس الشيوخ يمكن أن تضيف عجوزات بحوالي 5.8 تريليون دولار لفترة السنوات العشر التالية، حسب لجنة الموازنة الفيدرالية المسؤولة. وهذا يفوق من حيث القيمة النقدية التخفيضات الضريبية في فترة رئاسة ترامب الأولى والتي كانت استجابة لجائحة كوفيد عام 2020 ومخصصات بايدن للحوافز والبنية التحتية معا.

للالتفاف على القيود الإجرائية المفروضة على عجوزات الموازنة يخطط أعضاء مجلس الشيوخ لتمرير مشروع موازنتهم على أساس بقاء السياسات الحالية. أي التظاهر بأن تخفيضات ترامب الضريبية القديمة ليست مؤقتة. نتيجة لذلك ستصبح التوقعات القاتمة حول معدَّل دين أمريكا إلى ناتجها المحلي الإجمالي أشد قتامة. لقد حذرت لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة من أن السرعة التي يزداد بها هذا المعدَّل قد تتضاعف.

يمكن أن تفرض تحركات السوق المزيد من التصحيحات للمسار بواسطة ترامب أو بواسطة الكونجرس. ففي 11 أبريل استثنت الإدارة الأمريكية الهواتف الذكية وأجهزة إلكترونية أخرى من الرسوم الإضافية على الصين. لكن ربما وقعت الواقعة وحدث الضرر الكبير سلفا.

في السنوات الأخيرة حذر الاقتصاديون من أن الامتياز الاستثنائي للدولار، بجعله الاقتراض رخيصا، قد يدفع أمريكا إلى الإفراط في الاستدانة.

وهذا بدوره يجعل النظام المالي هشا ويعزز الهروب منه. بناء على هذه النظرية يمكن لهذا النظام أن ينهار وذلك بالضبط على نحو ما حدث لربط الدولار بالذهب في عام 1971 عندما انهار نظام «بريتون وودز» لأسعار الصرف الثابتة.

قبل أقل من شهر بدت هيمنة الدولار راسخة ومثل هذه الكارثة مستبعدة جدا. لكن حدوثها الآن يبدو محتملا وهذا دليل على الفوضى التي أحدثها ترامب.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ماذا دار في اجتماع وزارة العدل الأمريكية مع شريكة إبستين في تهمة الاتجار بالجنس؟

في تطور جديد يعيد تسليط الضوء على شبكة الاتجار الجنسي التي كان يديرها رجل الأعمال الراحل جيفري إبستين، اجتمع مسؤول بارز في وزارة العدل الأمريكية، الخميس الماضي، مع غيلين ماكسويل، الشريكة الأساسية لإبستين والمدانة بتهم الاتجار في الجنس، وذلك وسط تصاعد الضغوط السياسية والشعبية على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لكشف الوثائق المرتبطة بالقضية.

وعُقد اللقاء في مدينة تالاهاسي بولاية فلوريدا، حيث تقضي ماكسويل (63 عاماً) عقوبة السجن لمدة 20 عاماً بعد إدانتها بمساعدة إبستين في استغلال فتيات قاصرات. 

وأفاد محاميها، ديفيد ماركوس، لشبكة "سي بي إس نيوز"، بأن اللقاء استمر طوال اليوم، مضيفاً أن موكلته أجابت عن "كل الأسئلة دون استثناء"، واصفاً الاجتماع بأنه "خطوة إيجابية".


وكان نائب المدعي العام، تود بلانش، قد أبدى في وقت سابق رغبته في لقاء ماكسويل للاستماع إلى أي معلومات تملكها بشأن شخصيات قد يكون إبستين ساعدهم في ارتكاب انتهاكات جنسية. 

وأعرب محامي ماكسويل عن "امتنانه" لجدية وزارة العدل في متابعة القضية بعد سنوات من الإهمال.

اسم ترامب يتصدر العناوين
ويأتي الاجتماع في خضم تجدد الجدل حول علاقة إبستين بشخصيات نافذة، من بينهم الرئيس دونالد ترامب، بعد أن كشفت صحيفة وول ستريت جورنال أن اسم ترامب ورد في مستندات تابعة لوزارة العدل مرتبطة بالقضية، خلال إفادة قدمتها المدعية العامة بام بوندي إلى ترامب في أيار/ مايو الماضي.

ورغم نفي البيت الأبيض صحة تلك التقارير ووصفها بـ"الأخبار الكاذبة"، إلا أن الضغوط تصاعدت على إدارة ترامب من قبل مؤيديه وأعضاء في الكونغرس للمضي قدمًا في الإفراج عن ما يُعرف بـ"قائمة عملاء" إبستين. وتعهّد ترامب سابقًا خلال حملته الانتخابية بالكشف الكامل عن ملفات القضية، إلا أن هذا الوعد لم يُنفّذ، مما أثار موجة استياء في الأوساط المحافظة.

وفي هذا السياق، أصدرت لجنة الرقابة في مجلس النواب، التي يهيمن عليها الجمهوريون، أمراً باستدعاء غيلين ماكسويل للإدلاء بشهادتها عن بُعد من السجن في 11 آب/ أغسطس القادم، بينما صوّتت لجنة فرعية أخرى على استدعاء وزارة العدل لتقديم الملفات ذات الصلة بالقضية.

وحذر رئيس مجلس النواب، مايك جونسون، من الوثوق بشهادة ماكسويل، بالنظر إلى ماضيها في التعاون مع إبستين، لكن محاميها شدد على أن موكلته "ستقدّم شهادة صادقة" إذا قررت الإدلاء بها، رافضاً الاتهامات المسبقة بأنها غير موثوقة.


رفض الإفراج عن وثائق هيئة المحلفين
في خطوة اعتُبرت مؤشراً على استمرار التعتيم، رفض قاضٍ في ولاية فلوريدا، الأربعاء الماضي، طلب وزارة العدل بنشر شهادات لجنة المحلفين الكبرى المتعلقة بتحقيق أُجري عام 2006 بشأن إبستين. 

وجاء هذا الطلب ضمن محاولة جديدة لإضفاء مزيد من الشفافية على التحقيقات السابقة، إلا أن القرار القضائي أعاد القضية إلى المربع الأول.

ومنذ وفاة إبستين في زنزانته في نيويورك عام 2019 في ظروف وُصفت بأنها "انتحار"، لم تهدأ نظريات المؤامرة حول طبيعة وفاته، وشبكة علاقاته المعقدة، وسط اتهامات لأجهزة استخباراتية وسياسية بالتستر على حقيقة ما جرى.

هل كان إبستين عميلا استخباراتيا؟
في إطار الجدل المستمر، نفت مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية، تولسي غابارد، وجود أي دليل على أن جيفري إبستين كان عميلاً استخباراتيا، محليا أو أجنبيا. وخلال مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، أكدت غابارد أنها "لم تطّلع على أي معلومات تثبت ذلك"، مضيفة: "إذا طرأ أي شيء يغير ذلك، فسندعم الكشف عنه".

لكن هذه التصريحات لم تمنع استمرار التكهنات، خاصة بعد أن صرّح نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق، دان بونجينو، العام الماضي، بأن لديه معلومات موثوقة تفيد بأن إبستين كان بمثابة "مصدر استخباراتي" لإحدى دول الشرق الأوسط، دون تقديم أدلة ملموسة.

رغم مرور سنوات على انتحار إبستين المفترض والغامض، لا تزال قضيته تطارد النخبة السياسية والمالية في الولايات المتحدة، وتثير تساؤلات حول مدى تورط شخصيات نافذة في واحدة من أكبر شبكات الاستغلال الجنسي في العصر الحديث. 

مقالات مشابهة

  • طوال العامين الماضيين ظللت أعتذر عن دعوات الزواج التي قدمت لي من الأهل والمعارف
  • ما هي الخيارات الأخرى التي تدرسها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد حماس؟
  • زيارة مستشار ترامب.. جديد السياسة الأمريكية تجاه ليبيا
  • ادارة ترامب تعتزم تشديد اختبار الجنسية الأمريكية وتغيير نظام تأشيرات العمالة الماهرة
  • 9 شهداء بنيران الاحتلال قرب نقطة المساعدات الأمريكية جنوب خان يونس بغزة
  • تقليص الرسوم الجمركية وفتح الأسواق أمام السلع الأمريكية| تفاصيل
  • ماذا دار في اجتماع وزارة العدل الأمريكية مع شريكة إبستين في تهمة الاتجار بالجنس؟
  • الإحصاء: 1.34 مليار دولار صادرات مصر لـ أعلى 5 دول خلال أبريل 2025
  • أخبار كاذبة.. السفارة الأمريكية في طرابلس تنفي الأنباء عن نقل سكان غزة إلى ليبيا
  • سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 25 يوليو 2025.. كم تسجل العملة الأمريكية؟