هذا المقال بقلم المستشار محمد عبدالسلام، الأمين العام لجائزة زايد للأخوّة الإنسانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.

استيقظ العالم يوم الاثنين الماضي على خبر رحيل البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وقائد ملهم لأكثر من مليار ونصف من سكان عالمنا، ولا شك أن الإنسانية قد فقدت فارسًا من فرسان السلام والدعوة إلى الإخاء الإنساني في أسمى معانيه ولا غرو أن يصفه فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب قائلًا: "البابا فرنسيس رجل سلام بامتياز".

وليس من الإنصاف أن يُختزل الحديث عن البابا فرنسيس في كونه مجرد رمز ديني كاثوليكي، فالرجل كان، بحق، قائدًا روحيًا عالميًا استثنائيًا، وصوتًا للضمير الإنساني، وشريكًا حقيقيًا في صنع السلام، وصديقًا صادقًا ومتفردًا للإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف. ومن واجب الإنصاف أن نُجلّ الإنسان فرنسيس بما قدّمه للبشرية من مآثر خالدة وإرث إنساني فريد، يتجاوز الحدود الدينية والجغرافية.

طوال عشر سنواتٍ من معرفتي الوثيقة بالبابا فرنسيس، منذ أول لقاء جمعني به عام 2015 في سياق عملي كمستشار للإمام الأكبر الطيب، لم أرَ منه إلا التواضع الجمّ والصدق العميق والرحمة الواسعة. لم يكن البابا رجلاً يعيش في أبراج العظمة ولا متكئًا على ألقاب البروتوكول، بل كان قريبًا من الناس، بسيطًا في حضوره، عظيمًا في جوهره.

ما زلت أذكر كيف كان يكتب رسائله وخطاباته لي بخط يده بتواضع مدهش، في مشهد يجسّد تجرّده من المظاهر وميله الفطري للبساطة. كان يُجالس الأطفال، ويُربّت على أكتافهم، ويُنصت لهم، لا تكلفًا بل حبًا صادقًا. وقد رأيت ذلك بعيني في كل لقاء جمعه بأطفالي الثلاث الذين نشأت بينهم وبينه علاقة وجدانية عميقة، لدرجة أنهم ينادونه بعفوية الأطفال وبراءتها "جدو البابا"، ويحتفلون بعيد ميلاده كل عام بكعكة يختارونها بأنفسهم في السابع عشر من ديسمبر، ويُهاتفهم من حين لآخر للاطمئنان عليهم، كما كان يفعل عندما كانت ابنتي خديجه تمر بمرحلة علاجية دقيقة عام 2018.

ومن المواقف التي لا تُنسى، ذلك اللقاء الأول الذي جمع البابا بالإمام الأكبر في مقر إقامته بالفاتيكان "كازا سانتا مارتا"، حيث جلسا إلى مائدة واحدة، فتناول البابا قطعة خبز فقسمها إلى نصفين، أعطى الإمام الأكبر نصفها، وتشاركاها في صمت يعلو على كل خطاب، وكأنهما يكتبان لحظة جديدة في تاريخ التعايش الإنساني، كانت إيذانا بعودة الحوار والعلاقات بين الأزهر والفاتيكان بعد قطيعة دامت لسنوات قبل مجيء الرمزين العظيمين.

لقد جسّد البابا فرنسيس الإيمان بأن تنوّعنا الثقافي والديني ليس سببًا للفرقة، بل هو هبة من الله تستحق أن تُحاط بالعرفان والاحترام. ولذا، لم يكن مستغربًا أن يكون أول بابا في التاريخ يقوم مع شيخ الأزهر بزيارة مشتركة إلى أرض شبه الجزيرة العربية، حين زارا معاً الإمارات العربية المتحدة في عام 2019، ثم مملكة البحرين في 2023، حاملين رسالة سلام وانفتاح، وداعيين لحوار الحضارات، لا صراعها، وقد تجدد اللقاء بين الرمزين في العديد من اللقاءات والمحافل.

ومن أبرز محطات حبريته، توقيع وإطلاق "وثيقة الأخوة الإنسانية" من أبوظبي عام 2019، إلى جانب الإمام الأكبر، كإعلان عالمي يدعو إلى بناء عالم متصالح، يقوم على احترام الإنسان، ونبذ الكراهية، وترسيخ قيم الرحمة والتفاهم، ومثلت محطة تاريخية تشرفت بالمساهمة في الوصول اليها.

ولم يكن التزامه بالأخوّة الإنسانية محصورًا في الحبر والكلمات، بل امتد إلى الأفعال؛ فلطالما وقف إلى جانب اللاجئين والمهمشين، كما فعل حين اصطحب ثلاث عائلات سورية مسلمة لاجئة من جزيرة ليسبوس إلى روما، حيث يعيشون اليوم حياة جديدة ويقولون في كلمات تفيض بالامتنان والعرفان: "لقد أرسله الله لينقذنا".

وعلى صعيد البيئة، كان للبابا فرنسيس صوتًا صادقًا لا يلين. فمنذ إطلاقه الرسالة البابوية التاريخية "كن مسبّحًا" عام 2015، جعل من حماية البيئة أولوية أخلاقية وروحية، ودعا قادة الأديان إلى أن يضطلعوا بمسؤوليتهم تجاه هذا التحدي المصيري، كما التزم بقيادة الفاتيكان نحو الحياد الكربوني الكامل بحلول عام 2050.

وفي مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين الذي استضافته الإمارات العربية المتحدة، وتحديدًا في جناح الأديان الذي نظّمه مجلس حكماء المسلمين – والذي أتشرف بتولي أمانته العامة – تشرفنا بمشاركة البابا فرنسيس والإمام الأكبر معًا في رعاية المبادرة، ووقعا معاً إلى جانب 28 قائدًا دينيًا على "بيان أبوظبي بين الأديان من أجل المناخ"، في لحظة تاريخية تجلّت فيها وحدة الضمير الإنساني في وجه التحديات الكبرى التي تهدد البشرية.

وفي ديسمبر الماضي، كان لي شرف اللقاء الأخير مع قداسته في حاضرة الفاتيكان، خلال لقاء خاص نظمناه للجنة تحكيم جائزة زايد للأخوّة الإنسانية. وقد أعددنا له بهذه المناسبة فيديو تهنئة بعيد ميلاده، شارك فيه عدد من الفائزين وممثلين عن الجائزة، بالإضافة إلى أطفال لاجئين من روما. وعندما شاهد وجوه الأطفال على الشاشة وهم يغنون له، أضاء وجهه بابتسامة عريضة، وارتسمت على محيّاه ملامح الفرح العفوي الصادق.

لقد رحل عن عالمنا رجل استثنائي، عاش من أجل الناس، وأحبّ الفقراء، وسعى لبناء عالمٍ يسوده السلام. إلا أن رسالته لم ترحل، وإرثه لم ينقطع، وسيرته ستظل منارة تهدي الساعين للخير والعدالة.

فلنُكرم ذكراه بالسير على خُطاه في دعوته للسلام والتعايش، ونحمل ما دعا إليه من رحمة، ونُعلي ما نادى به من حوار إنساني، ونمضي في بناء عالمٍ تسوده روح المحبة والأخوة. هذا هو إرث فرنسيس الإنسان: أبٌ في الإنسانية، وزعيمٌ في السلام، ورمزٌ سيبقى حيًّا في ضمائر الأحرار.

الإماراتمصرالبابا فرنسيسرأيشيخ الأزهرنشر الخميس، 24 ابريل / نيسان 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

المصدر: CNN Arabic

كلمات دلالية: البابا فرنسيس رأي شيخ الأزهر البابا فرنسیس

إقرأ أيضاً:

د. عصام محمد عبد القادر يكتب: الأمنيات

الرغبة، والطموح، والتمني في بلوغ الأفضل، أو ما تتوق إليه النفس إذا ما كان مشروعًا، ولا ينفصل عن الواقع؛ فتلك أمور حميدة، تشحذ الهمم؛ كي تعلو الهمة، وتنشط الأذهان، وتترجم إرادتنا في صورة أفعال، تحاول أن تحقق أمانينا، التي نتطلع إليها، بل، تحفزنا على تكرار المحاولة في إطار من التخطيط، والتنظيم، والتنفيذ، والمثابرة، والمتابعة، وتقييم ما توصلنا إليه؛ لنزيل العثرات، ونستكمل المسيرة، ونؤكد أن عزيمتنا، وإيجابية النفس لدينا قادرة الدفع بنا دومًا إلى الأمام؛ لنسجل أهدافًا مستحقة.

تعالوا بنا نتفق على أمر مهم؛ ألا وهو أن التمني المشروع، إذا ما أردنا ترجمته إلى واقع، وجعلناه هدفًا إجرائيًا؛ فإن ذلك يتطلب منا بصورة واضحة أن نتبنى سيناريوهات، تحمل خطة مرنة تقبل التعديل، والإضافة في مراحل؛ كي نستثمر ما قد يتواتر لدى أذهاننا من أفكار ملهمة بأن نترجمها إلى آليات، أو خطوات قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، وهنا تبدأ الرحلة في إطار جهود مكثفة تجعلنا نستمتع بما نحققه من مراحل، أو خُطوات، ولو بسيطة.

لكن ما نخشاه أن نترك ما نتمنى حدوثه  أو تحقيقه لعالم الصدفة، الذي يدفع لنا من بنك الحظ ما تتوق إليه أنفسنا؛ فقد أرى أنه ضرب من وهم الخيال  يؤدي بنا إلى منطقة ضبابية، قد تورث في نفوسنا سلبية تؤثر حتمًا على ما قد نتطلع إلى في مستقبلنا القريب، أو البعيد، بل، تضعف لدينا جموح النزال في ساحة المعركة، التي نثبت فيها الذات، ونستطيع أن نؤكد مقدرتنا على تحقيق ما نصبوا إليه؛ لذا يتوجب علينا أن ندرك ماهية التمني وفق الفلسفة، التي ينبثق منها، والتي ينبغي أن تقوم على الربط الوظيفي بين الواقع، وأمنياتنا وتطلعاتنا الإيجابية.

رُبّ سائل يسأل، هل هناك ميزان، أو ضابط للأمنيات، التي تلوح في وجدانياتنا؟، نقول بلسان مبين نعم؛ فقد أوضحنا أن ما نضعه من خطط نسير على خطاها، يتوجب أن تتصف بالمرونة، التي تمنحنا حرية الاختيار، وتجعلنا نراعي مستجدات المتغيرات، التي تطرأ على ساحتنا الخاصة؛ ومن ثم تتنامى مقدرتنا على تجاوز التحديات، أو الصعوبات، التي قد تقف حجر عثرة أمام مسيرتنا نحو أمانينا المشروعة، وهنا نحاول أن نميز منذ البداية بين الطريق الصحيح، والأخر المعوّج؛ فنتجنب الغور في سكة الظلام؛ لنخرج في نهاية المطاف مجبوريّ الخاطر.

الأمر لم ينته عند هذا الحد؛ فهناك حسابات خاصة ندرك من خلالها ما إذا كانت أمنياتنا في إطار الممكن، أم في طور غير الممكن، أو ما نسميه أحيانًا بالمستحيل، وهذا يؤكد الفلسفة، التي ننادي بها، وهي هدوء الخيال؛ كي لا يجنح بنا إلى آفاق بعيدة المنال؛ فكل ما علينا أن نربط بين الأمنية، ومقومات تحقيقها في ساحة الواقع؛ ومن ثم نستطيع أن ندشن سقفًا زمنيًا، يتسم بالمرونة، ونحاول بصدق العزيمة، وإخلاص النوايا، وبذل الجهود، وإتقان الممارسة أن نبدأ المسيرة، التي أزعم أنها ستكلل بالنجاح بمشيئة الله تعالى.

نؤكد أن الأمنيات، التي تكبر في نفوسنا، وتنمو في خيالنا الخصب، وتأخذ مساحة في أذهاننا، تعد ضرورة في توجيه ميولنا، بل، ترتبط بها في كثير من الأحيان، وهذا ما يدفعنا نحو التجربة، ويجعلنا نكتسب مهارات نوعية تضيف إلى رصيد خبراتنا، ناهيك عن سبر غور احتياجاتنا، التي تتغير وفق تدفق الأحداث الجارية، التي تحيط بنا، سواءً داخل الإطار الاجتماعي البسيط، أو الكبير، وهذا ما يولد لدينا قوة الثبات، والصبر، والمثابرة، والمغامرة، التي نتحمل مسئولية نتاجها، وفي كثير من الأحيان تفتح لنا أبوابًا من الابتكار، لم تكن في واحة الحسبان.

يصعب أن نتجادل حول ثمرة الأمنية، التي تذيب الفتور، وتحفز الرغبة، وتعلى من مقدار الجهد الصادق؛ لتدفعنا نحو استدامة العطاء؛ فتتبدل مسارات حب الذات، إلى تحقيق غايات نبيلة، يستفيد منها الجميع، فيعم الخير بفضل أفكار منتجة تتدفق من وجدان راقٍ، صافٍ، لا يسمح للأنانية أن تحوز جزءًا منه، وهذا ما يجعل أصحاب الأمنيات المشروعة يمتلكون المقدرة على التواصل، وتقوية الروابط في إطار ما تحث عليه الإنسانية، كما تزداد لديهم روح التفاؤل، والوفاء بما ينعكس إيجابًا على تعزيز الهوية الوطنية، ويجعلنا دومًا في رباط مواثيق المحبة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.

طباعة شارك الرغبة الطموح التمني

مقالات مشابهة

  • البابا تواضروس يُطلق سلسلة حكايات الشجرة المغروسة في اجتماع الأربعاء بالإسكندرية
  • محمد عبد الجواد يكتب: فسيكفيكهم الله
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: الأمنيات
  • رسالة يمنية هامة تمثل كل اليمنيين من محمد عبدالسلام وهذه تفاصيلها
  • عبد السلام :نحيي إيران على خوضها حرب 12 يومًا بكل قوة واقتدار
  • رامي جمال يستعد لطرح أغنية «روحي عليك بتنادي»
  • حقوق النواب: الهجوم الإيراني على قطر تجاوز خطير يتطلب موقفًا دوليًا حاسمًا
  • البابا خلال افتتاحه فصلا للتعليم الفني بالكاتدرائية: بناء الإنسان وتمكين الشباب من أولويات الكنيسة
  • «روحي عليك بتنادي».. رامي جمال يستعد لطرح أغنية جديدة
  • بابا الفاتيكان يطلق نداءً عاجلًا لإنهاء الصراعات في الشرق الأوسط: "لا تدعوا صوت الأسلحة يخنق صرخة الإنسانية"