د. إبراهيم بن سالم السيابي
يُروى أن رجلًا كان سريع الغضب، لا يحتمل كلمة، ولا يصبر على استفزاز، وفي أحد الأيام، أسقط ابنه الصغير كوب ماء على بعض الأوراق التي كان يقرأها، دون قصد، فما كان من الأب إلّا أن صرخ في وجهه، وركله بعنف، فسقط الطفل وارتطم رأسه بالأرض، لحظات مرَّت كأنها دهر ونُقل الطفل إلى المستشفى مصابًا بإصابة بليغة.
قال الطبيب للأب في غرفة الفحص إن الطفل: "سيكون بخير، لكنه يحتاج للراحة، وسيبقى هنا لعدة أيام". خرج الأب من الغرفة منهارًا، وجلس على أرضية الممر، يبكي بحرقة. لم يكن يبكي الورق، ولا حتى الكوب، بل كان يبكي قلبًا صغيرًا كاد يفقده في لحظة طيش فقال في نفسه: "ما انكسر لم يكن الكوب فقط، بل قلب ذاك الطفل، ذاك الذي كان ينتظر حضني، لا ردة فعلي".
هناك فقط، فهم أن الغضب لا يُعيد ما سُكب، ولا يُصلح ما تمزَّق، لكنه يفسد ما لا يحصى من مشاعر وثقة وطمأنينة.
الغضب شعور فطري، يولد مع الإنسان، ويثور حين تُمس كرامته أو يُواجه ظلمًا، وهو ليس مذمومًا على إطلاقه، فلو كان منضبطًا، يتحرك حين تُنتهك حدود الله أو تُهان الكرامة أو يُهان مظلوم، فإنه غضب محمود، لكن إن كان مدفوعًا بالهوى، بلا عقل ولا حكمة، صار نارًا تحرق أول من تشتعل فيه.
فكم من لحظة غضب جرفت معها سنوات من الحب، وكم من كلمة غاضبة هدمت جسرًا بُني بدمع وصبر، فليس كل غضب يُبرر، ولا كل صراخ يُسمع.
الغضب، إن لم يُضبط، لا يكتفي بخراب العلاقات، بل ينهش صاحبه من الداخل. وأطباء النفس يؤكدون أنَّ الغضب المزمن يرفع ضغط الدم، ويزيد خطر النوبات القلبية، ويُضعف المناعة؛ أي أنَّ الانفعال لا يضر مَن حولك فقط؛ بل يأكلك بصمت من الداخل.
وفي أعظم صور الغضب المشروع، نرى موسى عليه السلام حين عاد إلى قومه فوجدهم يعبدون العجل، فاشتد غضبه لله لا لنفسه، وألقى الألواح، وجرّ أخاه بلحيته، غضبًا للتوحيد، لا لهوى. قال تعالى:
"وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا"... أما رسول الله ﷺ، فكان سيد من يملك نفسه، لا يغضب لنفسه قط، وإنما حين تُنتهك حرمات الله. أوصى رجلًا جاءه يسأله: "أوصني". فقال: "لا تغضب"، ثم كررها مرارًا، وكأنَّها مفتاح النجاة من ندم العمر.
فالإسلام لم يُرد منَّا أن نكبت مشاعرنا، بل أن نُهذبها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". القوة الحقيقية ليست في قبضتك، بل في قدرتك على كبحها وأن تختار الصمت حين تمتلئ بالضجيج، وتقدم العقل على الانفعال، فتكون سيد نفسك لا عبدًا لمزاجك.
الغضب نار، والنار لا تُطفأ بالنار؛ بل بالماء، ومن ماء العقل: أن تسكت، أن تتوضأ، أن تغيّر وضعك، أن تخرج من الموقف قبل أن تندم، فإن كنت واقفًا فاجلس، وإن كنت جالسًا فاضطجع. لا ضعفًا، بل قوةً حقيقيةً في كظم الغيظ.
وفي زحام الحياة، كم من قلوب انكسرت، وصداقات انتهت، وأُسر تهدمت، فقط لأنَّ أحدهم لم يصبر، لم يصمت، لم يُمهل قلبه ثانية واحدة ليفكر.
لنقُل لأنفسنا، كلما أوشكت نار الغضب أن تشتعل "لا تغضب"؛ فهي ليست مجرد رجاء؛ بل طوق نجاة، ومفتاح لحياة أكثر حكمة، وصحة، وطمأنينة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
استشاري نفسي يحذر من مخاطر التنمر والعنف المدرسي على الأطفال
حذر الدكتور وليد هندي، استشاري الصحة النفسية، من المخاطر الكبيرة التي يشكلها التنمر والعنف المدرسي على الحالة النفسية والسلوكية للأطفال، مؤكدًا أن هذه الظواهر تتجاوز العنف اللفظي لتشمل العنف الجسدي والاجتماعي، وتؤدي إلى اضطرابات نفسية طويلة الأمد.
جاء ذلك خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامية نهاد سمير في برنامج «صباح البلد» على قناة «صدى البلد»، حيث أوضح هندي الفرق بين التنمر والعنف، مشيرًا إلى أن التنمر يقوم على اختلال واضح في ميزان القوة، إذ يتعرض الطفل لإيذاء متكرر من شخص أقوى منه دون قدرة على الدفاع عن نفسه.
وأضاف أن الطفل المتعرض للتنمر قد يظهر عليه علامات متعددة مثل الخرس الاختياري، اضطرابات النوم، الكوابيس، التبول اللا إرادي، رفض الذهاب إلى المدرسة، وفقدان الشهية، مشددًا على ضرورة تدخل الأسرة والمدرسة بشكل عاجل عند ملاحظة هذه المؤشرات.
وأكد أن التنمر لا يقتصر على البيئة المدرسية فقط، بل قد يحدث أيضًا من قِبل السائقين، الزملاء، أو حتى المعلمين، مشيرًا إلى أن العزل الاجتماعي، مثل منع الطفل من اللعب مع أقرانه، يعتبر من أشكال التنمر الخطيرة التي تترك آثارًا نفسية عميقة.
وشدد الدكتور وليد هندي على أهمية تكاتف الجهود بين الأهل والمؤسسات التعليمية لمواجهة هذه الظاهرة وحماية الأطفال من تبعاتها السلبية.