زيف السرديات وصراع الحقيقة: الإسلاميون والحرب في السودان من منظور حنّه أرندت
تاريخ النشر: 2nd, May 2025 GMT
زيف السرديات وصراع الحقيقة: الإسلاميون والحرب في السودان من منظور حنّه أرندت
بقلم : م. فؤاد عثمان عبدالرحمن
في زمن تغمره الضبابية السياسية والحروب المفتوحة، تُصبح استعادة الحقيقة عملاً مقاوِمًا. ولعل واحدة من أعظم من نبهتنا إلى خطورة تحطيم الحقيقة الواقعية باسم السياسة هي الفيلسوفة حنّه أرندت، التي حذّرت من أن “من يقول الحقيقة يُنظر إليه كمن يقوض النظام”.
من الانقلاب إلى اختطاف الدولة:
بدأ المشروع السياسي للإسلاميين بانقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو 1989، قطع المسار الديمقراطي ورفع شعار “تطبيق الشريعة”، لكنه في جوهره كان مشروعًا لاحتكار السلطة وبناء دولة أمنية أيديولوجية. ولتثبيت أركان حكمهم، أنشأوا أجهزة موازية داخل الدولة: جهاز أمن ضخم متغوّل، واقتصاد ظل، ومليشيات تقاتل بالوكالة عن الدولة في الأطراف، أبرزها “قوات الدفاع الشعبي”، ثم لاحقًا “قوات الدعم السريع”.
ورغم خطابهم الظاهري عن تقوية الجيش، عمدوا إلى إضعافه فعليًا عبر تفتيته، وتغليب الولاءات الحزبية على المهنية، وتحويل مؤسساته إلى أدوات للنظام، لا للدولة. وهكذا، الي أن جاءت ثورة ديسمبر المجيدة لتعديل تلك الاختلالات، والتي قطع النظام البائد، بجانب طموح قادة المؤسسة العسكرية السلطوي وولغهم في السياسة، الطريق لإكمال مسارها.
السقوط والثورة: الحقيقة التي لا يريدون رؤيتها:
سقط نظام الإسلاميين بثورة سلمية فريدة، أنهت ثلاثين عامًا من الاستبداد، وفتحت الباب أمام أفق جديد للتحول الديمقراطي. لكن الحقيقة التي لم يقبلوها — بل حاولوا تدميرها — هي أن جماهير الشعب لفظتهم في الشوارع. لم يسقطوا فقط كسلطة، بل كمشروع فكري سياسي.
بدأت حربهم المضادة من اللحظة الأولى للمرحلة الانتقالية، عبر تغلغلهم العميق في مؤسسات الدولة، وإثارة الفوضى، وخلق الأزمات، ومواصلة اختراق الأجهزة الأمنية، إلى أن وصلوا إلى لحظة الانقلاب في 25 أكتوبر 2021، الذي شكل العودة الثانية لهم إلى واجهة المشهد، هذه المرة عبر “قوى الثورة المضادة” وليس عبر الدبابات وحدها.
من الانقلاب إلى الحرب: صناعة سردية زائفة:
لم تكتمل عودة الإسلاميين رغم الانقلاب، فالدولة بقيت ضعيفة، والمجتمع يرفضهم. حينها، كان الحل بالنسبة لهم هو الفوضى الشاملة: إشعال الحرب.
في 15 أبريل 2023، اندلعت المواجهات بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. وسرعان ما بدأ الإسلاميون في نسج سردية كبرى: أن هذه “حرب كرامة”، معركة وطنية لاستعادة السيادة. لكن الحقيقة، كما في تحليل أرندت، شيء مختلف تمامًا.
المفارقة الكبرى: حين يصير صانع الوحش منقذًا منه:
في ترويجهم لسردية الحرب، يستغل الإسلاميون فظائع الدعم السريع — تلك التي وقعت في ولايات السودان التي طالتها يد الحرب — من قتل واغتصاب ونهب وتشريد، ليقدّموا أنفسهم فجأة كـ”حماة الأرض والعرض”، و”رجال الاستقرار” و”مرجعي الناس إلى منازلهم”. لكنهم يتجاهلون أن هذه القوات التي يشيطنونها اليوم، هم أنفسهم من أنشأها، وقنّنوها عبر برلمانهم في 2017، بل وخاضوا بها حروبهم ضد الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ، حيث ارتُكبت نفس الفظائع بحق المدنيين لعقدين كاملين.
تلك هي المفارقة الكبرى: أن يتحوّل صانع الوحش إلى منقذٍ منه. وهذه ليست فقط مفارقة سياسية، بل مثال حي على ما وصفته حنّه أرندت بـ”محو الحقيقة الواقعية” وإعادة إنتاج سردية زائفة تتنكر للماضي وتُفبرك الحاضر.
تحطيم الحقيقة: مشروع الإسلاميين الجديد:
تقول حنّه أرندت في أحد أكثر مقاطعها نفاذًا وتحذيرًا من الطغيان الحديث:
” الكذب السياسي ليس جديدا، ولكن مايميز الأنظمة الشمولية، أنها لاتكتفي بالكذب، بل تسعى لمحو الفرق بين الحقيقة والخيال، بين الصواب والخطأ، فتعاد صياغة الواقع ليصبح الوهم هو الحقيقة المعترف بها رسميا”
بهذا المنظور، لا يكون الكذب مجرد أداة لحجب المعلومات، بل يصبح مشروعًا كاملاً لتدمير الحقيقة ذاتها، وتحطيم قدرة الناس على التمييز. وهذا ما نراه ماثلاً اليوم في مشروع الإسلاميين في السودان، ليس منذ اندلاع الحرب، بل منذ أن قرروا أن “التمكين” لا يعني فقط السيطرة على المؤسسات، بل على العقول والذاكرة الجمعية واللغة السياسية نفسها.
لقد دأب الإسلاميون، منذ وصولهم للسلطة، على إعادة تعريف الواقع بما يخدم سرديتهم. فالفساد يصبح “رزقًا حلالًا”، والقمع يصبح “حزمًا شرعيًا”، والحرب في الأطراف توصف بأنها “جهاد”، بينما كانت في الحقيقة سحقًا للمجتمعات المهمشة وتدميرًا ممنهجًا لها. وكلما ظهرت حقيقة — سواء في دارفور أو جبال النوبة أو الخرطوم أو في ملفات الاقتصاد — كانت تُدفن بسردية مضادة، يصاغ لها قاموس جديد وأجهزة إعلام، ومؤسسات دينية، ومصطلحات تعبوية تعيد إنتاج الزيف كواقع.
وما نعيشه اليوم من سردية “حرب الكرامة” هو امتداد طبيعي لهذا المشروع: محاولة لإقناع الناس أن ما يحدث ليس انهيارًا لدولة صنعوها هم، بل لحظة وطنية كبرى يعاد فيها تعريف الوطنية ذاتها على مقاس من أشعلوا النيران في البلاد.
وما تراه أرندت خطيرًا ليس فقط أن الناس يُكذّب عليهم، بل أنهم يفقدون تدريجيًا القدرة على معرفة ما هو صحيح، وما هو زائف، لأن “الحقائق لم تعد موضوعًا للتفكير، بل ساحة حرب سياسية”. وهذا هو جوهر ما تقوم به آلة الإسلاميين الإعلامية والسياسية حاليًا: أن تجعل من الثورة “خيانة”، ومن القمع “أمنًا”، ومن الحرب “استقرارًا”، ومن التهجير “فرصة للعودة”.
إن السرديات الزائفة لا تهزم الحقيقة بالمنطق، بل بإغراقها في ضجيج كثيف من التضليل، حتى تتعب العقول، ويستسلم الناس إلى “الواقع المفبرك” لأنه صار الأكثر تداولًا، لا الأكثر صدقًا.
وهذا مايسعون إليه، أن تمحي ذاكرة الثورة، أن يتحول الشعب من ضحية إلى متهم، وأن تحول الحرب من كارثة إنسانية الي ملحمة بطولية.
أن تتحول الحقيقة الواقعية _أنهم اسقطو بثورة شعبية _ إلى كذبة، وأن تصبح الكذبة _ انهم يقاتلون لأجل الوطن _ حقيقة.
لكن رغم ذلك، تبقى الحقيقة _ كما تقول ارندت _ “عنيدة بطبعها”، وانها ليست ملكا لهم، بل ملك الذين سارو في الشوارع وقاوموا القمع ولايزالون يحلمون بأن السودان يستحق السلام والديمقراطية، وأن الحرب ليست (ملحمة كرامة)، بل جريمة أخلاقية وسياسية واقتصادية، تورط فيها من تأمر على ثورتهم، ثم يسعى ليحكمهم مجددا بجثة وطن.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الإسلاميين صراع
إقرأ أيضاً:
للحرب وجوه كثيرة
لم تكن الحرب يوماً ما بكل آلامها ومآسيها غريبة عن البشرية، فقد صاحب انتشار الحروب في أنحاء كثيرة من العالم تطور كبير في الأسلحة المستخدمة فيها ، ونتيجة لذلك ظهرت أنواع من الأسلحة بالغة الأثر في هلاك البشرية، من تلك الأسلحة الفتاكة ؛ الأسلحة الكيميائية التي ظهرت لأول مرة في الحرب العالمية الأولى حينما أطلق الجيش الألماني غاز الكلورين على مساحة أربعة أميال مربعة وأصاب خمسة عشر ألف جندي، ثم استعمله البريطانيون بعد ستة أشهر في نفس المعارك وخلفت قتلى ومصابين كثر ، إلا أن الاستخدام في تلك الحرب كان بدائياً إلى حد كبير إذا ما قورن بالتقدم الذي حدث للأسلحة الكيميائية فيما بعد ، حيث لم تقتصر على غاز الكلور واكتشفت غازات أخرى كثيرة أكثر فتكاً بالإنسان ، وأصبحت قدرتها تفوق آلاف الأميال ولها آثار واضحة يسهل الاستدلال عليها و تسبب أنواعاً كثيرة من الأمراض مثل السرطانات والتشوهات الخلقية للأجنة وبعضها يحدث شللا للإنسان و آخر يحدث حروقاً تؤدي إلى الوفاة – لكنها في كل الأحوال لن تكون (كوليرا) مثلاً !!
هذا السلاح (الكيماوي) لابد له من عدة عوامل أهمها :
1/أن يكون غازاً ساماً جداً، حارقاً يؤثر على الإنسان والحيوان والبيئة من حوله.
2/يجب ألا يكون سهل التحلل خلال صناعته وحفظه إلى حين استعماله.
3/أن يكون له مواد خام سهل الحصول عليها وبكميات تكفي للعمليات الحربية.
4/يجب أن يكون سهل الحمل والنقل تحت احتياطات شديدة الحيطة والحذر لخطورته.
هذه الغازات – على حسب حديث الخبراء – إن لها آثارا على المسطحات المائية وتربة الأرض والتلال والمباني العالية ، وأنه يسهل فحص هذه العناصر الكيميائية بواسطة لجان مختصة وعبر تقارير من منظمات متخصصة ، وقد أفردت اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية وأوضحت الإجراءات التي تتبع عند الادعاء وإجراء التفتيش وجمع الأدلة حول استخدام دولة ما أسلحة كميائية وإرسال فريق خبراء وكيفية إعداد التقارير المتخصصة التي تدين الدولة إذا ثبت فعلا أنها استخدمت أسلحة كميائية ،، وليس بالادعاءات والافتراضات دون أدلة أو براهين عبر وسائل الاعلام ، فهل زارت لجنة خبراء متخصصة موقع الهجمات المزعومة في السودان ؟ و هل تم فحص عينات للتربة أو المياه في ذات المنطقة ؟ وهل تم تحليل للمخلفات البيولوجية فيها؟؟ وهل تم فتح تحقيق دولي رسمي عبر آليات المنظمة أو الأمم المتحدة حول استخدام الأسلحة الكيميائية؟؟ ،، هذه التساؤلات لابد وأن تكون حاضرة أولاً.
لخطورة الوضع سعى العالم للحفاظ على البشرية من خطر الأسلحة الكيميائية بوضع اتفاقية دولية عرفت بمعاهدة (حظر الأسلحة الكيميائية) وتكونت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) ومقرها لاهاي (هولندا) ، ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 29 أبريل 1997م ، وتمثل المعاهدة نسخة موسعة ومنقحة من بروتوكول جنيف للعام 1925م حول الأسلحة الكيميائية، ومنعت المعاهدة استخدام الأسلحة الكيميائية وانتاجها وتخزينها ونقلها ، وأعطت المنظمة الحق في إجراء تفتيش لأي دولة عضو فيها يثور الشك حول استخدامها سلاحاً كميائياً وفق إجراءات معينة موضحة في الاتفاقية، وتضم الاتفاقية 193 دولة.
حصلت هذه الاتفاقية على جائزة نوبل للسلام في العام 2013م للجهود المبذولة في مكافحة استخدام الأسلحة الكيميائية في العالم .
علي الصعيد الوطني فقد إنضمّ السودان للاتفاقية في 16مايو 1999م ، ومنذ ذلك التاريخ والسودان عضو فاعل وملتزم بالاتفاقية وعضو داخل المنظمة الدولية لحظر استخدام الاسلحة الكيميائية وترأس المجموعة الأفريقية فيها ثم أصبح عضوا في المجلس التنفيذي لها وترأس المجلس التنفيذي ثلاث مرات ، آخرها كان حينما انتخب للمجلس التنفيذي في الدورة التاسعة والعشرين للدول الاعضاء في المنظمة والذي عقد في لاهاي نوفمبر 2024 للفترة من 2025 إلى 2027 م ، بالتالي من البدهي أن يكون السودان مدركا وملتزما بالاتفاقية وأحكامها وأن يحافظ على وضعه داخل المنظمة – بأقل تقدير – ووضعه الدولي أمام العالم كدولة فاعلة نالت ثقة رصيفاتها من الدول الأعضاء في ملف حظر الأسلحة الكيميائية.
لذلك فالادعاءات التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية ماهي إلا وجه آخر للحرب أو (نوعية جديدة) لكروت الضغط علي الحكومة السودانية بعد فشل خطط أبوظبي في تدمير السودان وهزيمة المليشيا الإرهابية أمام القوات المسلحة – رغم دعم ومساندة وتمويل أبوظبي لها بسخاء – وما أبوظبي إلا أداة لأيد خبيثة تود تدمير بلادنا لكن هيهات! !!
بالتالي جاء تدخل واشنطن بادعاء استخدام الجيش السوداني لأسلحة كميائية، دون الرجوع للمنظمة المعنية ودون إجراء تفتيش قانوني ودون أدلة تشير لهذا الادعاء المزيف متجاوزة بذلك أحكام الاتفاقية الدولية لحظر استخدام الاسلحة الكيميائية وأحكام الأمم المتحدة التي تحدد الإجراءات في مثل هذا الوضع ، وتوقيع عقوبات على السودان بسبب تصريح صحفي أو معلومات مغلوطة يعد تسييساً للقانون الدولي لا يمت للعدالة بصلة .
وللولايات المتحدة سوابق بافتعال مثل هذه الادعاءات في العراق ثم في قصف مصنع الشفاء بالسودان بصواريخ كروز في 22 اغسطس 1998م .
بالتالي ما يحدث الآن ماهو إلا استمرار في سياسة استهداف السودان منذ سنين عبر العديد من صور الاستهداف منها تطبيق عقوبات اقتصادية وحظر دولي وعزلة عن العالم ، وحظر بعض الصادرات الأميركية للسودان ووضع قيود علي إمكانية الحصول علي قروض أمريكية وضمانات الائتمان ، واستغلال لحالة الحرب التي تعيشها البلاد ، لنشر الفوضى ، حتي تقبل بالحلول السياسية المفروضة من الخارج ولكن أيضا هيهات فالارادة والقيادة السودانية لا ولن تقبل هذا مهما حدث ، وهل هناك شئ أمر وأصعب من الحرب ؟!!!
لكن على بلادنا أن تتمسك بحقها القانوني وأن تواصل إجراءاتها عبر منصات القانون ووفق أحكام اتفاقية حظر استخدام الأسلحة الكيميائية للوصول لحقها القانوني والتعامل الجاد مع هذه الاتهامات المزيفة .
والتحية لقواتنا المسلحة التي أينما حلت حل الأمن والأمان ودخل معها السلام والطمأنينة للمواطن ، واستقبلها الشعب بالفرح والزغاريد ، وحل الاستقرار والإعمار بوجودها .
د .إيناس محمد أحمد
إنضم لقناة النيلين على واتساب