طرحت هذا التصور في ليلة سياسية عبر تطبيق "زووم"، شارك فيها عدد من الطلاب السودانيين في جنوب شرق آسيا، وذلك لمناقشة قضايا الحرب والثورة في السودان، والسعي نحو رسم معالم لخطة حماية الثورة السلمية وسط هذا الواقع بالغ التعقيد.

الوضع الحالي في السودان يُعبّر عن مرحلة من الانهيار والتشظي، حيث تتعرض الثورة السلمية لقمع منهجي يُحاول تجريدها من أدواتها وتفريغها من مضمونها الأخلاقي.

يتمثل هذا القمع في الحظر الأمني للتظاهرات، والاعتقالات التعسفية، وحملات التشويه الممنهجة، فضلاً عن محاولات خلق خطاب بديل يُصور السلمية كفعل عدمي غير مجدٍ.

لكنّ الثورات العظيمة لا تموت، بل تعيد تعريف نفسها حين تتغير الظروف. المطلوب ليس الانكفاء أو الانتحار السياسي، بل تطوير أدوات نضال تُناسب اللحظة التاريخية وتُبقي على جوهر الثورة: مدنية، سلمية، شعبية.

الخطوة الأولى في حماية الثورة تبدأ من الداخل، من إعادة بناء التنظيم الذاتي للثوار. خلايا المقاومة يجب أن تكون لا مركزية، مرنة، وقادرة على العمل بسرية في الأحياء، الجامعات، وأماكن العمل. لا بد من تجاوز المركزية السابقة التي سهّلت على الأجهزة القمعية تفكيك الحراك. هذا لا يعني غياب القيادة، بل إعادة إنتاجها من القاعدة إلى الأعلى، لا العكس.

ثمّة حاجة ملحة إلى توحيد الخطاب السياسي. فوضى البيانات، وتعدد المنصات، واختلاف الأولويات أربكت الشارع وأضعفت الروح الجمعية. آن الأوان لإطلاق منصة جامعة لقوى الثورة تُحدّد بدقة الأهداف السياسية العاجلة مثل وقف الحرب واستعادة الحكم المدني، والغايات الكبرى مثل بناء الدولة الديمقراطية القائمة على العدالة والمواطنة.

المقاومة السلمية لا تعني الاقتصار على التظاهر في الشارع. بالعكس، يجب توسيع مفهوم العصيان المدني ليشمل مقاطعة اقتصادية للكيانات المرتبطة بالعسكر والدعم السريع، وتعطيل جزئي ومدروس للمؤسسات الخدمية الرسمية، وإطلاق حملات عدم تعاون تتسم بالاستمرارية والذكاء.

الفن والثقافة والإعلام ليست كماليات في المعركة، بل أدوات مركزية فيها. الثورة السودانية أثبتت منذ بدايتها أنها ثورة وجدان بقدر ما هي ثورة مطلبية. الأغنية، الصورة، القصيدة، الفيديو القصير، يمكن أن تهزم دبابات كاملة حين تمسّ ضمير الناس وتُعيد لهم الإحساس بالكرامة والقدرة. نحتاج إلى إنتاج إبداعي كثيف يعكس همّ الثورة اليومي، ويُفند روايات الحرب والخضوع، ويُعيد الثقة لجمهور أنهكته التضحيات.

لا بد كذلك من تفعيل أدوات المقاومة الرقمية. اختراق الفضاء الإلكتروني الذي تحتكره سرديات السلطة ومرتزقة الإعلام أمر بالغ الأهمية. هذا يتطلب بناء إعلام بديل، آمن، سريع التفاعل، ومؤثر في الرأي العام المحلي والدولي. البودكاستات، الصحف الرقمية، مجموعات الواتساب والتليغرام المشفرة، كلها ساحات مقاومة ينبغي استغلالها.

القاعدة الشعبية هي روح الثورة. لا يمكن حماية الثورة من النخب فقط، بل من الناس البسطاء الذين صدقوا وعدها الأول بالكرامة والحرية. تمكين النساء والشباب في مجتمعاتهم المحلية، دعم المبادرات النسوية، تنظيم لجان الإغاثة والمطابخ المجتمعية، إنشاء مراكز تعليمية مؤقتة في مناطق النزوح، كل ذلك يضع الثورة في صميم الحياة اليومية.

على الصعيد الدولي، يجب تجاوز الشعارات الفضفاضة، والعمل المهني الدقيق على توثيق الجرائم والانتهاكات، وجمع الأدلة بشكل قانوني، والتواصل مع المؤسسات الحقوقية. كما يجب فضح دور بعض الدول الأجنبية التي تساهم في تغذية الحرب وتسليح الأطراف المتصارعة. حملات التضامن الإقليمي والعالمي تحتاج إلى بناء تحالفات مع حركات مماثلة في إفريقيا والعالم العربي والشتات السوداني.

الخطاب السياسي الثوري يجب أن يتجدد. لغة الثورة لا يمكن أن تبقى في مكانها بينما يتحول المشهد من حرب خاطفة إلى صراع وجود. لا بد من رواية جديدة تُخاطب الجوع والخوف والبؤس اليومي، دون أن تُفرّط في الحلم الكبير. شعارات مثل "الثورة جوع لا يُقهر بالرصاص" و"سندوس الظلم بأقدامنا العارية" ليست مجرد كلمات، بل إشارات لمزاج ثوري جديد أكثر تواضعًا وواقعية.

يجب الحذر من الفخاخ السياسية التي تُنصب باسم التسوية أو الواقعية. الثورة يجب ألا تتحالف مع أي قوى عسكرية حتى لو ادّعت الوقوف في صفها. الصراع بين الدعم السريع والجيش ليس معركة الثورة، بل يجب أن تُبقي على مسافتها النقدية من الطرفين. المطلوب هو دولة مدنية بالكامل، لا اختيارات انتقائية بين عسكري وآخر.

الثورة كذلك ليست مكانًا للعنصرية أو الجهوية. كل خطاب يزرع الكراهية بين المكونات السودانية يخدم أعداء الثورة. الوحدة الشعبية ليست حلمًا رومانسيًّا، بل شرط وجود الثورة نفسها. آن الأوان لتحالفات أفقية بين الخرطوم، دارفور، كردفان، النيل الأزرق، الشرق، الشمال، والوسط، قائمة على الهموم المشتركة والمصير الواحد.

الثورة لم تنتهِ. هي فقط تمر بمرحلة إعادة تشكيل. ليست صعودًا دائمًا، لكنها لم تنكسر. فكما عادت بعد مجازر فض الاعتصام، يمكن أن تعود اليوم. المطلوب فقط أن نستبدل السؤال من: "كيف نُسقط النظام؟" إلى "كيف نُعيد بناء المجتمع المقاوم؟" وهذه ليست مهمة مستحيلة، بل حتمية.

zuhair.osman@aol.com

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

يسقط القمع بالقاهرة وغزة.. مظاهرة بهولندا ضد السيسي في ذكرى الانقلاب (شاهد)

شهدت مدينة لاهاي الهولندية بعد ظهر السبت، وقفة احتجاجية أمام مبنى السفارة المصرية، في ذكرى أحداث 30 حزيران/ يونيو نظمها عدد من أبناء الجالية المصرية في هولندا، احتجاجًا على الانتهاكات الحقوقية المستمرة في مصر، وتنديدًا بما وصفوه بتورط النظام المصري في إطالة أمد الحصار المفروض على قطاع غزة.

وجاءت الوقفة التي بدأت في تمام الساعة الثانية ظهرًا واستمرت حتى الخامسة مساءً، بدعوة من نشطاء مصريين مقيمين في هولندا، تحت شعار "إحنا مش ساكتين"، كجزء من حملة شعبية تسعى لإبراز معاناة المعتقلين السياسيين في مصر، ولفضح ما وصفوه بـ"الصمت العربي الرسمي" تجاه جرائم الحرب في غزة.




وقد احتشد المتظاهرون أمام مبنى السفارة الواقع بمدينة لاهاي، حاملين لافتات وشعارات تطالب بفتح معبر رفح دون قيود، وبإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ووقف ما وصفوه بـ"آلة القمع والخذلان".

منظومة قمع داخلي مزمن
وفي كلمات ألقاها مشاركون خلال الوقفة، استعرض النشطاء حصيلة السنوات الماضية منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، مؤكدين أن السلطات المصرية مسؤولة عن سلسلة طويلة من الجرائم الحقوقية، تشمل قتل المتظاهرين السلميين، والاعتقال التعسفي لأكثر من 60 ألف معتقل سياسي، بينهم نساء وقصر، فضلًا عن الانتهاكات الجسيمة داخل مقار الاحتجاز، والتي وثقتها منظمات دولية عديدة، من بينها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية.

وأضاف المشاركون "نقف اليوم أمام السفارة المصرية لنرفع صوت الضحايا، ولنقول للنظام إننا لم ولن نصمت، مهما طال القمع... السجون المصرية مليئة بأصحاب رأي، والألم لا يزال قائمًا، لكن الصوت الحر لن يُكسر".




معبر رفح... بوابة تغلق في وجه المنكوبين

الوقفة لم تقتصر على الشأن الداخلي المصري، بل كانت غزة حاضرة بقوة في الهتافات والخطابات، فقد حمل المحتجون السلطات المصرية مسؤولية "خنق الفلسطينيين" من خلال إدارة معبر رفح، وقالوا إن القاهرة تحولت من وسيط إقليمي إلى طرف يشارك فعليا في تعميق المعاناة الإنسانية في القطاع.

وأشار المنظمون إلى ما جرى مؤخرًا من اعتداءات على نشطاء دوليين حاولوا إدخال مساعدات إلى غزة، وكسر الحصار حيث تم احتجازهم لساعات طويلة عند معبر رفح، ومنعهم من العبور دون مبرر قانوني، وهو ما اعتبروه إهانة مزدوجة للفلسطينيين وللمجتمع المدني العالمي.




صوت المصريين في المهجر

وتأتي الوقفة ضمن سلسلة تحركات نظمها مصريون معارضون في الخارج خلال الأشهر الماضية، للتعبير عن رفضهم لمسار الدولة المصرية الراهن، خاصة في ظل استمرار القمع السياسي وغياب أفق الإصلاح. ويأمل المنظمون أن تكون هذه الفعاليات بمثابة ضغط رمزي على الحكومة المصرية، ورسالة دعم معنوي للمعتقلين وأهاليهم.

كما طالب المتظاهرون المجتمع الدولي بعدم الاستمرار في "الصمت المريب" تجاه ما وصفوه بـ"نظام لا يحترم القانون الدولي، ولا يلتزم بالحد الأدنى من معايير حقوق الإنسان"، داعين الحكومات الأوروبية إلى إعادة النظر في علاقاتها السياسية والأمنية مع القاهرة.

مقالات مشابهة

  • نائب المندوب الفلسطيني بمجلس الأمن الدولي يدعو لوقف القمع الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني
  • في مؤتمر “أممي”.. رؤية سودانية لإعمار ما دمرته الحرب
  • جلال زاده : الشعب الإيراني أحبط الحرب المرکبة للكيان الصهيوني
  • من ليفربول إلى أمستردام.. موجة احتجاجات في ذكرى انقلاب السيسي
  • الاحتلال يعلن إحباط مخطط إيراني لاغتيال وزير الجيش كاتس
  • “صمود” يطرح رؤيته لإنهاء الحروب في السودان واستعادة الثورة
  • اليوم كلنا القوات المسلحة السودانية
  • محللون وخبراء: المهلة الزمنية التي حددها ترامب لوقف إطلاق النار بغزة غير واقعية
  • يسقط القمع بالقاهرة وغزة.. مظاهرة بهولندا ضد السيسي في ذكرى الانقلاب (شاهد)
  • عن الأمن والحرب.. هذا ما كشفه وزير الداخلية