مفاوضات حول تجارة ما بعد العولمة
تاريخ النشر: 10th, May 2025 GMT
حين اختارت الولايات المتحدة والصين أن تلتقيا في جنيف، بعد أسابيع من التصعيد الاقتصادي المتبادل، لم تكن المسألة تتعلق بخفض بعض الرسوم أو استئناف الصادرات المتوقفة، بل بما هو أعمق من ذلك بكثير: أيّ شكل من التجارة يليق بعالم ما بعد العولمة، ومن يملك حق فرض قواعده؟
الجلسات المغلقة التي عُقدت تحت غطاء من السرية بين وزير الخزانة الأمريكي ونائب رئيس مجلس الدولة الصيني في إحدى ضواحي جنيف الدبلوماسية، ليست سوى فصول أولى في تفاوض طويل يتجاوز مسألة العجز التجاري أو نسب الرسوم الجمركية.
الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب في الأسابيع الأخيرة ـ فرض رسوم جمركية تجاوزت 145% على الواردات الصينية، والتوسع في استهداف دول أخرى ـ كانت إعلانا واضحا أن واشنطن تعيد تعريف استخدام القوة الاقتصادية، ليس بوصفها وسيلة تنظيم، بل كأداة ضغط تفاوضي حاد. الرد الصيني، في المقابل، لم يكن عاطفيا ولا اندفاعيا، بل بدا أنه منظم في توقيته ومدروس في دلالته.. فقد فرضت الصين رسوما بنسبة 125%، وعززت الصادرات للأسواق البديلة، ثم بعد ذلك جاءت إلى جنيف ومعها أرقام تشير إلى نمو مفاجئ في الصادرات بنسبة تفوق التوقعات بأربع مرات كما تقول التقارير.
هذه الديناميكية ليست جديدة، لكنها باتت الآن أكثر تعقيدا، لأن الطرفين لا يختلفان فقط على الحلول، بل على تعريف المشكلة نفسها. فواشنطن ترى في النموذج الاقتصادي الصيني تهديدا بنيويا لها حيث يقوم على فائض تصديري مموّل جزئيا بدعم الدولة، واستثمار ضئيل في الواردات، ونفاذ محدود للشركات الأجنبية. بكين، من جهتها، ترى في المطالب الأمريكية تدخلا سافرا في مسار اقتصادي سيادي، ومحاولة لمصادرة الحق في التطور الصناعي، بوسائل تقنّعت بلغة السوق.
والهوة بين الموقفين لا تكمن فقط في الأرقام، بل في الفلسفة. الولايات المتحدة تطالب الصين بالتحول إلى «شريك ناضج» في النظام العالمي، لكنها تفعل ذلك من موقع من يُعيد كتابة قواعد اللعبة من طرف واحد. أما الصين، فترى نفسها قد بلغت مرحلة من الثقل السياسي والاقتصادي تجعلها غير مضطرة للامتثال لمعادلات صيغت في عالم أحادي القطبية.
والنتيجة أن مفاوضات جنيف قد تنتج تهدئة مؤقتة أو تجميدا للرسوم خلال فترة تفاوضية، لكنها لن تُعالج المعضلة الأساسية المتمثلة في غياب الإطار المؤسسي العالمي القادر على استيعاب قوى صاعدة، وتنظيم الانتقال من اقتصاد عالمي تقوده دولة واحدة إلى نظام أكثر تعددية، لكنه بلا مرجعية واضحة أو حوكمة مستقرة.
الأسواق من جهتها تتعامل بحذر. المفاوضات مرحّب بها، لكنها لا تكفي لإعادة الثقة في سلاسل التوريد أو تخفيف قلق المستثمرين من احتمالات الانقسام التجاري طويل الأمد. الرسالة التي تصل من جنيف لا تعني أن الصراع التجاري انتهى، بل إن إدارة الصراع باتت هي الشكل الجديد للعلاقات الاقتصادية بين القوى الكبرى.
اللحظة التي يعيشها النظام التجاري العالمي تتجاوز الأزمة المتبادلة إلى كونها لحظة انتقال في هندسة السلطة الاقتصادية. والاختبار الحقيقي لهذه المفاوضات ليس ما إذا كانت ستفضي إلى خفض في الرسوم الجمركية، بل ما إذا كانت ستؤسس لخطاب متوازن يعترف بتحول العالم، ويمنح الفاعلين الجدد مقعدا في صياغة النظام، لا فقط دورا في التكيف معه.
وما لم يحدث ذلك، فإن النظام التجاري العالمي سيظل عرضة للتصدع، مهما حاولت المفاوضات ترقيع شروخه.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
رفع الحظر بعد نصف قرن.. عودة السفر التجاري الأسرع من الصوت في أمريكا
أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية أمرًا تنفيذيًا جديدًا يُنهي حظرًا استمر لمدة 52 عامًا على الرحلات الجوية التجارية الأسرع من الصوت، وهو الحظر الذي فرضته إدارة الطيران الفيدرالية عام 1973 نتيجة الضغوط الشعبية آنذاك بسبب المخاوف من الضوضاء المفرطة الناجمة عن الانفجار الصوتي، ويضع القرار الجديد جدولًا زمنيًا لتطبيق معايير اعتماد قائمة على الضوضاء، تمهيدًا لعودة هذه التقنية إلى الأجواء الأمريكية، وذلك وفقًا لما نشره موقع space
من شأن عودة الطيران الأسرع من الصوت أن تختصر أوقات السفر بشكل كبير؛ إذ يمكن تقليص زمن الرحلة بين نيويورك ولوس أنجلوس من ست ساعات تقريبًا إلى نحو ثلاث ساعات ونصف فقط، وهو ما يعيد إلى الأذهان حلم الربط السريع بين المدن الكبرى الذي سعت إليه عدة دول منذ سبعينيات القرن الماضي.
التجارب السابقة ومشكلاتهاقبل الحظر خاضت الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة والاتحاد السوفيتي سباقًا لتطوير طائرات تجارية أسرع من الصوت، إلا أن جميع النماذج حينها تسببت في ضوضاء شديدة كانت أحيانًا كافية لتحطيم النوافذ على الأرض. على سبيل المثال، اعتمدت الطائرة السوفيتية "تو-144" على محركات احتراق لاحق عالية الصوت للوصول إلى سرعة "ماخ 1" (767 ميلًا في الساعة أو 1235 كيلومترًا في الساعة)، مما جعلها سريعة ولكن مزعجة للغاية.
ابتكارات حديثة لكبح الضوضاءتشهد المرحلة الحالية سباقًا تقنيًا بين شركات طيران كبرى لتطوير طائرات أسرع من الصوت لكن بحد أدنى من الضوضاء.
بوم سوبرسونيكتعمل الشركة على نظام طيران يُعرف باسم "قطع ماخ"، يسمح للطائرة بالتحليق على ارتفاع يفوق 30 ألف قدم (9,100 متر) والوصول إلى سرعة ماخ 1 دون إصدار أصوات مسموعة على الأرض، وقد حققت الشركة هذا الإنجاز في يناير 2025 من خلال رحلة تجريبية نجحت في رفع موجات الصدمة إلى ارتفاعات عليا حيث تتبدد قبل وصولها إلى السطح.
لوكهيد مارتن وناساتتعاون الشركتان في مشروع الطائرة التجريبية "إكس-59"، التي صُمم هيكلها بحيث توضع المحركات في أعلى جسم الطائرة، ما يقلل بشكل كبير من موجات الصدمة والضوضاء الناتجة عنها.
جدول زمني صارم للتنفيذيأتي التوجيه الجديد بخطة زمنية واضحة لعودة هذا النمط من الطيران، إذ من المقرر رفع الحظر رسميًا بحلول 3 ديسمبر، يلي ذلك وضع معايير إصدار شهادات الضوضاء بحلول 6 ديسمبر 2026، ثم تطبيق القواعد النهائية للطيران الأسرع من الصوت بحلول 6 يونيو 2027.