الذهب وتمويل الحرب في السودان: من الفوضى إلى أدوات السيطرة

عمر سيد أحمد

مقدمة: ماضٍ ملكي وثروة منسية

لآلاف السنين، كان الذهب محورًا للحضارات التي ازدهرت في ما يُعرف اليوم بالسودان، لا سيما مملكتي كوش ونبتة. سُمّيت المنطقة “نوبيا” أو “أرض الذهب” عند المصريين والإغريق القدماء، في إشارة إلى وفرة هذا المعدن وارتباطه بالسيادة والتجارة.

وتشهد على ذلك النقوش في نبتة ومروي، والمسارات التجارية التي ربطت أسوان، حلفا، مروي، وسواكن (وزارة المعادن، 2024).

لكن ما كان مصدرًا للسيادة، أصبح في العقود الأخيرة وقودًا للفوضى والانقسام، حيث يُستغل الذهب لتمويل الصراعات، ويُهرّب في ظل ضعف مؤسسي وانهيار أجهزة الدولة (Global Witness، 2022؛ Chatham House، 2025).

الذهب: خزينة حرب بدلًا من مورد للتنمية

رغم أن السودان يمتلك واحدة من أكبر احتياطيات الذهب في إفريقيا، إلا أن هذه الثروة تُستغل لتمويل الحرب والتهريب بدلاً من دعم الاقتصاد. تُقدّر التقارير أن الإنتاج الرسمي بين أبريل وأغسطس 2023 بلغ نحو 2 طن فقط، بينما يُهرّب ما بين 50% إلى 80% من الإنتاج الفعلي، خصوصًا عبر الإمارات العربية المتحدة (Sudan Tribune، 2023؛ Time Magazine، 2024).

ويُستخدم الذهب في تمويل كل من قوات الدعم السريع والجيش السوداني منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 (Chatham House، 2025).

الإنتاج والتصدير: أرقام مضللة

شهد قطاع الذهب نموًا كبيرًا بعد 2010، وبلغ ذروته في 2016 بإنتاج بلغ 93 طنًا، لكنه تراجع لاحقًا ليصل إلى 34.5 طنًا في 2022، ثم ارتفع مجددًا إلى 65 طنًا في 2024 (وزارة المعادن، 2024). ومع أن الإنتاج ارتفع، انخفضت الإيرادات من 2.02 مليار دولار في 2022 إلى 1.6 مليار دولار في 2024، رغم ارتفاع أسعار الذهب عالميًا بنسبة 30% (مجلس الذهب العالمي، 2024).

تُشير هذه الفجوة إلى خلل في نظم التسويق والرقابة، ما يعزز فرضية التهريب واسع النطاق (Global Witness، 2022).

الاقتصاد الموازي، التلاعب والفساد

أصبح الذهب أحد أعمدة الاقتصاد الموازي في السودان، حيث يتم تداوله خارج النظام المصرفي الرسمي، وتُدار كثير من الشركات من قبل جهات ذات نفوذ، بعيدًا عن الرقابة المؤسسية (مبادرة الشفافية السودانية، 2020). تشير تقارير إلى أن بعض الشركات المسجلة تشارك في التهريب بدعم من جهات أمنية، وتُمنح الامتيازات غالبًا بعلاقات سياسية لا بمعايير اقتصادية (سليمان، 2021؛ Africa Intelligence، 2023).

التهريب: الفجوة الأكبر

يُقدّر أن 70% إلى 80% من الإنتاج يُهرّب سنويًا عبر حدود السودان مع مصر، ليبيا، تشاد، وإفريقيا الوسطى، من خلال شبكات محلية ودولية (Sudan Tribune، 2023؛ Global Witness، 2022). وقد أصبح التهريب نمطًا مؤسسيًا، بتشابك مصالح بين أطراف داخل الدولة وخارجها (Chatham House، 2025؛ ICG، 2023).

الآثار البيئية والصحية

يرتبط التعدين التقليدي باستخدام الزئبق والسيانيد بطرق غير خاضعة للرقابة، ما يؤدي إلى تلوث المياه وتدهور التربة وانتشار الأمراض الجلدية والتنفسية، خصوصًا في ولايات نهر النيل، جنوب كردفان، ودارفور (WHO، 2023؛ BBC Africa، 2021؛ مركز الطاقة المتجددة، 2023).

الحرب: الذهب كوقود للنزاع

منذ 2023، أصبحت مناجم الذهب في دارفور وجنوب كردفان خاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة، التي تستخدم عائداتها لشراء السلاح وتمويل العمليات العسكرية (Chatham House، 2025؛ Global Witness، 2022). وقد أدى هذا إلى فصل المناجم عن سيطرة الدولة وتحويلها إلى “مناطق سيادية” خارجة عن القانون.

خسائر عقد من الذهب المهرب

تشير تقارير مستقلة إلى أن ما بين 50% و80% من الإنتاج يُهرّب خارج السودان، ما يحرم الدولة من إيرادات ضخمة (Global Witness، 2022؛ Sudan Tribune، 2023). بناءً على متوسط سعر الذهب العالمي عام 2024 (64,000 دولار/كجم)، فإن خسائر السودان خلال العقد الماضي تُقدّر بين 23 مليار و36.8 مليار دولار:

البند الكمية (طن) القيمة بالدولار
الإنتاج الإجمالي (2014–2024) 719.7 46.06 مليار
التهريب بنسبة 50% 359.85 23.03 مليار
التهريب بنسبة 80% 575.76 36.84 مليار

وزارة المعادن، 2024؛ STPT، 2024؛ Chatham House، 2025)

من بوركينا فاسو… درس عملي

قدّمت بوركينا فاسو تجربة رائدة في استعادة السيادة على قطاع الذهب، رغم ظروفها الأمنية الهشة. فمنذ عام 2022، شرعت الدولة في إصلاحات شملت:

تعديل قانون التعدين. تأسيس شركة وطنية لإدارة المناجم الكبرى مثل Boungou وWahgnion. إنشاء احتياطي ذهبي وطني.

في 2025، ارتفع الإنتاج السنوي إلى 62 طنًا، وجمعت الحكومة أكثر من 11 طنًا من التعدين الحرفي خلال ربع واحد فقط (Chatham House، 2025). كما ساهم القطاع في تمويل الميزانية وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.

ما فعلته بوركينا فاسو ليس معجزة. بل هو نموذج عملي لما يمكن أن يتحقق في السودان إن توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية.

الإصلاحات العاجلة

رقابة ذكية:

إصدار سندات ذهب مقابل الذهب المسلّم. إنشاء مراكز شراء متنقلة لتقليل التهريب. إطلاق منصة إلكترونية وطنية لعرض أسعار الذهب (STPT، 2024).

إصلاح مؤسسي وهيكلي:

نشر عقود الامتياز والتقارير الإنتاجية. تجريم امتلاك أو تشغيل شركات تعدين من قِبل الجهات الرسمية. تعزيز التعاون الإقليمي لتفكيك شبكات التهريب (Global Witness، 2022؛ Chatham House، 2025).

مقترحات استراتيجية:

سبائك ذهبية سيادية سودانية. سندات ذهب لتمويل مشروعات استراتيجية. مدينة الذهب السودانية. نموذج تقاسم الإنتاج. شركات مساهمة بين الدولة والمنقبين. جمعيات تعاونية للحرفيين. حصر التصدير والشراء بالبنك المركزي. مصفوفة استيراد وطنية مقابل الذهب. ربط التعدين بالطاقة المتجددة. بورصة سودانية للذهب والمعادن. الذهب كأصل مالي

بورصة وطنية وسندات ذهبية تعني أن الذهب لم يعد وقودًا للفساد أو السلاح، بل أصل مالي قابل للتوظيف في إعادة الإعمار والاستثمار طويل الأجل (World Bank، 2022؛ Al Jazeera، 2023).

الخاتمة: استرداد الذهب من قبضة الفوضى- الذهب اختبار السيادة

لم يعد قطاع الذهب في السودان مجرد مورد اقتصادي أو أحد فروع النشاط التعديني، بل أصبح اختبارًا حقيقيًا لسيادة الدولة، ولمدى صدق نواياها في الإصلاح وبناء مؤسسات وطنية حقيقية. إن الطريقة التي تُدار بها هذه الثروة ليست مسألة فنية أو إدارية فحسب، بل هي انعكاس مباشر لطبيعة السلطة، وشكل الدولة، وتوازن القوى داخلها.

إما أن يُدار الذهب بعقلية الدولة الحديثة — دولة القانون، والمحاسبة، والشفافية، والمؤسسات — أو يظل رهينة للفوضى، ومصدر تمويل للميليشيات، وأداة لشراء الولاءات وإدامة الصراع. وبين هذين الخيارين، تتحدد ملامح المستقبل الاقتصادي والسياسي للسودان.

الذهب في السودان اليوم يعكس عمق الأزمة الوطنية، لكنه يحمل في الوقت ذاته بذور الحل. فكما أنه غذّى الحرب، يمكن أن يكون وقودًا لإعادة البناء. وكما أنه مَثَّل موردًا مهدورًا لعقود، يمكن أن يتحوّل إلى أصل مالي واستراتيجي، إذا وُضعت له قواعد شفافة، وأُخضع لرقابة حقيقية.

التجارب الدولية تثبت أن هذا التحول ممكن. لقد فعلتها بوركينا فاسو، وسبقتها دول أخرى كانت تعاني ظروفًا مشابهة. لكنها لم تكتفِ بالإصلاح الإداري، بل تبنّت مشروعًا سياديًا يعيد للدولة دورها الطبيعي: أن تكون المنظّم والضامن والحامي للثروات العامة.

ما نحتاجه اليوم ليس قرارات معزولة أو إجراءات تقنية، بل رؤية وطنية شاملة تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والموارد، بين المجتمع والثروة، بين السياسة والاقتصاد. بورصة وطنية شفافة، مصفاة حكومية مستقلة، مؤسسة رقابية فاعلة، وقطاع تعدين حرّ من سطوة الأجهزة — كل هذه ليست رفاهيات، بل شروط لبناء سودان جديد.

إن الذهب اليوم لم يعد مجرد ملف من بين الملفات، بل أصبح الامتحان الأوضح: إما أن ننجح ونستعيده لصالح الجميع، أو نتركه في أيدي تجار السلاح والدم، فيواصل دوره كأداة لتفكيك الدولة.

القرار الآن، والفرصة ما زالت قائمة — لكنها لن تنتظر طويلًا.

الصرخة الأخيرة: من يملك الذهب… يملك القرار

في بلد يُشترى فيه السلاح من عائد منجم، لم يعد الذهب مجرد ثروة طبيعية خام، بل تحوّل إلى أداة حاسمة في الصراع على السلطة والنفوذ. لم يعد الحديث عن الذهب في السودان نقاشًا اقتصاديًا، بل أصبح معركة على مستقبل الدولة نفسها.

اليوم، يقف السودان أمام قرار مصيري: إما أن تنتزع الدولة هذا المورد السيادي من قبضة الفوضى والفساد والتهريب، وتعيد توجيهه نحو البناء والإنقاذ، أو أن تواصل قوى السلاح والظل استخدامه كوقود للانهيار.

الخيار واضح. إما أن ننقذ الذهب ليكون ركيزة لبناء السودان الجديد، أو نتركه غنيمة لتجار الدم والسلاح.

المراجع والمصادر

مصادر عربية:

وزارة المعادن السودانية. تقرير الأداء السنوي 2016–2024. وزارة المعادن. خطة تطوير قطاع الذهب. 2023. مركز الدراسات المستقبلية. قطاع التعدين التقليدي، 2020. سليمان، أحمد. اقتصاد الظل للذهب في السودان، المركز العربي، 2021. Sudan Tribune، تقارير متنوعة 2022–2024. STPT. تقرير الشفافية في قطاع الذهب، 2020. Al Jazeera Net، “ذهب السودان والاقتصاد الموازي”، 2023. Al Jazeera Net، “تعدين الزئبق في السودان”، 2022. مركز دراسات الطاقة المتجددة. 2023.

مصادر دولية:

Chatham House، إنتاج الذهب خلال الحرب، 2025. Chatham House، السودان ونظام الصراع الإقليمي، 2025. Time Magazine، ذهب الدم وعلاقات السودان والإمارات، 2024. Wikipedia، الحرب الأهلية السودانية 2023–الآن. Global Witness، عسكرة الذهب في السودان، 2022. Global Witness، الشفافية والمحاسبة في قطاع الذهب، 2022. STPT. تعقب الذهب غير المشروع في السودان، 2023–2024. International Crisis Group، الذهب والحرب في السودان، 2023. WHO، أثر الزئبق في التعدين السوداني، 2023. BBC Africa، استخراج الذهب السام، 2021. World Bank، نظرة على اقتصاد السودان، 2022. World Gold Council، اتجاهات الطلب Q1 2024. Africa Intelligence، تقارير قطاع التعدين السوداني، 2020–2024.

البريد الإلكتروني: [email protected]

التاريخ: مايو 2025

الوسومأفريقيا الذهب السلاح السودان بوركينا فاسو عمر سيد أحمد

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أفريقيا الذهب السلاح السودان بوركينا فاسو عمر سيد أحمد الذهب فی السودان وزارة المعادن بورکینا فاسو قطاع الذهب الحرب فی الذهب ا إما أن لم یعد

إقرأ أيضاً:

انهيار السودان تهديد للعالم

قالت صحيفة لوموند إن الحرب التي تدمر السودان منذ أكثر من عامين تتغذى على لعبة التأثير الإقليمي، مما يعني ضرورة التأثير على الجهات الخارجية الفاعلة مع تزايد احتمال التقسيم.
وأوضحت الصحيفة -في افتتاحيتها- أن الهجمات المتكررة بطائرات مسيرة تضرب بورتسودان شرقي السودان منذ بداية مايو/أيار الجاري تذكّر بأن هذه الحرب شبه المنسية التي دخلت عامها الثالث ما زالت تزداد تدميرا بعد أن قتل فيها أكثر من 150 ألف شخص ونزح أكثر من 13 مليونا بسبب القتال.
وذكّرت الصحيفة بأن بورتسودان ليست فقط عاصمة للحكومة الفعلية التي انسحبت إليها عندما كانت الخرطوم مسرحا لمعارك دامية، ولكنها تشكل نقطة دخول المساعدات الحيوية إلى بلد يعاني من أزمة إنسانية دفعت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى القول إن السودان محاصر في “كابوس من العنف والجوع والمرض والنزوح”.
ولذلك، فإن تدمير البنية التحتية الحيوية هناك -مثل آخر مطار مدني عامل في البلاد- بهجمات الطائرات المسيرة لن يؤدي إلا إلى تعقيد عملية إيصال المساعدات، خاصة أن استعادة القوات المسلحة السودانية بقيادة رئيس مجلس السيادة السوداني الجنرال عبد الفتاح البرهان السيطرة على الخرطوم في نهاية مارس/آذار الماضي لم تؤد إلى تغيير في مسار الحرب كما كان متوقعا.
صنّاع الحرب بالوكالة
وعلى العكس من ذلك أظهرت قوات الدعم السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) في هجمات بورتسودان أن قوتها النارية ظلت سليمة، واستغلت الذكرى الثانية لبدء الحرب يوم 15 أبريل/نيسان للإعلان عن تشكيل حكومتها الخاصة، مما يشير إلى تزايد احتمال تقسيم السودان مع عواقب إقليمية لا يمكن التنبؤ بها.
لكن المصيبة السودانية تغذيها -حسب الصحيفة- لعبة من التأثيرات الإقليمية كما يشير إلى ذلك تنديد الأمم المتحدة بـ”تدفق الأسلحة والمقاتلين”، وبالفعل أدت هجمات الطائرات المسيرة على بورتسودان إلى انهيار العلاقات الدبلوماسية بين السلطات الفعلية في البلاد والإمارات العربية المتحدة التي تتهم -رغم نفيها- بتزويد الجماعات شبه العسكرية بأسلحة متطورة.
وخلصت لوموند إلى أن إخراج السودان من الدوامة التي قد يضيع فيها يتطلب الضغط على هؤلاء الفاعلين الخارجيين المحرضين على الحرب والمجازر بالوكالة، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة هي التي تمتلك إمكانيات لتحقيق ذلك، نظرا لعلاقاتها مع الدول المتورطة بشكل غير مباشر في الحرب بالسودان.
ولم يبق -حسب الصحيفة- إلا أن يفهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب -الذي يزور شبه الجزيرة العربية اليوم الثلاثاء- أن بلاده مثل كل الدول الأخرى لها مصلحة في رؤية البنادق تصمت في السودان.

الجزيرة

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • مغنية إسرائيلية تثير أزمة في مسابقة يوروفيجن بسبب الحرب على غزة
  • من داخل مركز السيطرة.. محافظ أسيوط يتابع إزالة التعديات واسترداد 170 فدانًا في يوم واحد
  • هذه الفوضى ستنتهي بعد هذه الحرب.. الجيش سينتشر على امتداد خريطة السودان
  • كيف نعيد توجيه أدوات الإعلام الجديد بعد ثلاث سنوات من حرب عبثية للمساهمة في وقفها واستعادة المسار المدني الديمقراطي؟ «2»
  • عودة أكثر من 200 ألف سوداني من مصر طوعياً
  • التربية تنشر جدول امتحانات الشهادة الثانوية السودانية 2024 الدفعة المؤجلة
  • محطات المفاوضات الروسية الأوكرانية لوقف الحرب.. كيف جرت؟ ولماذا فشلت؟
  • انهيار السودان تهديد للعالم
  • السودان بلا مركز: تعدد السلطات وتفكك الدولة بين الحرب وغياب السيادة