جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-17@23:26:17 GMT

حين يكتب الحزن بقلم الإنسان

تاريخ النشر: 17th, May 2025 GMT

حين يكتب الحزن بقلم الإنسان

 

 

د. ابراهيم بن سالم السيابي

 

لقد وعدتُ أحدهم ذات يوم ألّا أكتب في الحزن، وأن أبتعد عن نزفه وسكونه الموحش، ولكنني أنكث بوعدي؛ ليس خيانة؛ بل عجزًا؛ إذ إنَّنِي لا أملك السيطرة على قلمي حين يحتشد في قلبي مشهد لا يبرحه؛ فالقلم يشقّ طريقه رغمًا عني، وربما الحزن هو الذي يكتب لا أنا.

وما كتبته اليوم ليس سوى ترجمة لمشهد عالق في الذاكرة، عالق في وجدان اللحظة التي تخترقك دون إذن.

فقد كنتُ أمر بسيارتي عبر إحدى الحارات القديمة، حينما لمحتها... امرأة عجوز، تحمل في يديها باقة ورد ذابل، تمشي بخطوات ثقيلة نحو المقابر، لم يكن الموقف يحتاج إلى شرح، فوجهها وحده رواية طويلة من الفقد، من الانكسار، من الشوق والخذلان والانتظار الذي لا ينتهي.

لم أعرف من الذي جاءت تزوره في تلك المقابر: ابن؟ بنت؟ أخ؟ أخت؟ أم؟ أب؟ أم هو من كان رفيق العمر؟ لا فرق، لمن كانت الحياة به أهون وأدفأ، ها هي اليوم تقف أمام قبره، تصمت بينما تتكلم الدموع وتصرخ الذكريات، كانت ملامحها أشبه بمرآة لحياة امتلأت حزنًا بعد فقدٍ لا يُحتمل.

تقدّمتْ نحو قبره بصمتٍ، وكأنَّها تهمس له كل ما لم تستطع قوله في الحياة.

تشكو له كيف أنَّ الزمن جارٌ لا يرحم، وكيف أن الوحدة في هذا العمر جدار لا يمكن اجتيازه، فربما كانت تبحث عن دفءٍ غائب، عن يدٍ تُربّت على تعب السنين، أو عن وجهٍ كان يختصر العالم كله.

وما كنتُ إلا مارًّا، لكنني لم أملك إلّا أن أشاركها الحزن، فما أقسى الفقد، وما أمرّه حين يكبر بنا العمر ونجد أنفسنا وحدنا نحمل أزهار الذكرى على أكتاف الذاكرة.

كان المشهد بسيطًا، لكنه أثقل قلبي، ولم يكن غريبًا تمامًا؛ فهؤلاء جيراننا الطيبون في الحارة، إخوتنا من أتباع مذهب أهل البيت، أولئك الذين ألِفوا الحزن وكأنَّهم أبناؤه. في ثقافتهم ومعتقدهم، يُروى أن الحزن اختارهم أو أنهم اختاروه، وكأنه رداء لا يُخلع، أو قَدر لا يُدفع، ترى في عيونهم أثر الحسين، وفي صمتهم وقع كربلاء؛ فهُم لا يعيشون الحزن كما نراه؛ بل يغمسونه في الإيمان، في الولاء، في تفاصيل الحياة، حتى صار الحزن عندهم نوعًا من الطقوس، وشكلًا من أشكال الوفاء.

هم لا ينكسرون أمام الحزن؛ بل يجعلون منه ذاكرة، ودرسًا، ونداءً مستمرًا للإنسانية، ومن الحزن يصنعون معنى، ويجدون في الدمع بوصلة لصدق المشاعر، وامتدادًا لعلاقة لم تقطعها المقابر.

لكن، يا ليتنا نتعلم من حزنهم! ليس لنعيش الألم؛ بل لنفهم عمق الارتباط، وصدق المشاعر، وسموّ الوفاء. فالحزن ليس ضعفًا، بل حضور نقيّ لإنسانيتنا.

وربما كان في لحظة مثل تلك، بين قبرٍ ووردة ذابلة، وعجوزٍ تهمس، درس لا يُنسى: أن الحب لا يموت بموت صاحبه، وأنَّ الفقد لا يعترف بالزمن، وأنَّ الحزن قد يكون أصدق ما نملكه حين تفرّ منَّا الكلمات.

مسك الختام.. لا أحد يختار الحزن، لكنه حين يسكن القلوب، يعلمها كيف تحب بصدق، وكيف تفتقد بصدق، وكيف تظل وفية رغم الغياب، ونحن لا نحزن لأننا ضعفاء، أو لأننا لا نؤمن بالقضاء والقدر؛ بل ما دمنا أحياء قلوبنا لا تزال تنبض بالإنسان الذي في داخلنا.

"ليس الحزن علامة ضعف؛ بل دليل على أن الحب لا يزال حيًا في صدورنا"

جُبران خليل جُبران.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

منصة “خطة عودة الحياة” تتوقف عن النشر منذ يومين

توقفت منصة “خطة عودة الحياة” التابعة لحكومة الدبيبة ولإشراف وزير دولته للاتصال السياسي وليد اللافي عن النشر منذ يومين بالتزامن مع اشتباكات طرابلس.

كان آخر ما نشرته المنصة من مطار معيتيقة وخصوصا صالة السفر التي ضمتها دعاية حكومة الدبيبة لما يعرف “مشروعات عودة الحياة”.

مقالات مشابهة

  • قيادي حوثي يهاجم جماعته: لا نملك مشروع حياة بل مشاريع حروب وتوسعة المقابر وتزيين القباب
  • تقــدم إلــى محكمة جنوب شــرق الأمانــة الأخ/ مــراد عبدالرحمن قاسم عثمان وكريماته هدى وأشواق ووفاء ومرفت وفريال بطلب اســتخراج بصيرة بدل فاقد باســمائهم المذكورة أعلاه ما أتى لهم شــراء مــن البائع لهــم الأخ/ محمد محســن هزاع قاســم بموجب بصيرة الشــراء
  • نواف العقيدي يغادر الملعب بملامح يملؤها الحزن بعد الخسارة .. فيديو
  • حسن اسماعيل يكتب: الخيط الناظم
  • الاكتئاب المبتسم.. الأعراض وكيفية العلاج
  • فضيحة جديدة لحكومة عدن.. كيف ظل “القاتل” طليقاً وكيف قتل اليوم..!
  • «النهر المحترق».. ديوان شعرى يشارك فى معرض فنزويلا الدولي للكتاب
  • منصة “خطة عودة الحياة” تتوقف عن النشر منذ يومين
  • قصة: على هامش الحياة