«كان الجميع يعلمون أنهم يصنعون تاريخًا، وكانوا جميعًا مصممين على احتلال حيز صغير في التاريخ. ولذلك أصعدوا بن غوريون على أول قطار توجه إلى القدس بعد الحرب، وتجمعوا خلفه للنظر من فوق كتفيه إلى عدسات آلات التصوير التي خلَّدت الحدث للصحفيين وللأجيال القادمة. وكانوا في الحقيقة شديدي التأثر؛ إذ شهدوا عملية التكوين بعد ألفي عام.

ونشرت صحف إسرائيل كلها هذه الصورة».

في تلك الصورة يجمد المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف لحظة المستوطنين الإسرائيليين الغزاة وهم يطلون على عدسات المصورين من خلف أكتاف بن غوريون في السنة التالية من النكبة - سنة 1949- التي يؤرخ تفاصيلها في كتاب مهم أطلق عليه عنوان «1949.. الإسرائيليون الأوائل» الذي ترجمته عن العبرية مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1986، بيد أنه لم يلق الاستقبال النقدي اللازم والكافي من قبل الأوساط الثقافية والأكاديمية العربية إلى اليوم.

سيغف - المولود لأبوين ألمانيين في القدس عام 1945، والمحسوب على «المؤرخين الجدد» أمثال بني موريس وآفي شلايم وإيلان بابي - يحاول في كتابه هذا التأريخ لمجتمع صهيوني حالم بدأ يتكون على أنقاض العرب المطرودين من الأرض، الأرض التي تصفها الرواية الصهيونية وكأنها لُقية خالية من السكان، عثر عليها اليهود منسيةً على خاصرة الأبيض المتوسط. غير أن الأرشيف المطموس لهذا التَّكون ووثائقه المحجوبة التي وقع عليها المؤرخ تعكس حقائق عن تلك السنة التي تشبه ليلة اغتصاب دامية وغامضة، ليلة تجهل شريحة كبيرة من الأجيال الإسرائيلية المتعاقبة أسرارها، فيما يتجاهلها أجدادهم المؤسسون بالكثير من الكذب على الذات والكذب على الآخرين، ويتذكرونها سنويًا باسم «حرب الاستقلال».

السردية التي يسوقها سيغف تبدأ بمزاحمة المهاجرين اليهود للعرب الفلسطينيين على موقع صغير في الحكاية، في مشهد تدافع محموم على كرسي الضحية الذي لا يتسع لاثنين. شيئًا فشيئًا سيُقصي هؤلاء الغرباء الدخلاء صرخة الفلسطيني من الحكاية. سيحتلون بنيران السلاح موقعه كضحية، ويسرقون دموعه على مرأى من عيون المؤرخ الذي يتواطأ ضمنيًا مع مشهدٍ كان قد عبر عنه بإتقانٍ واحد من أرفع المعبرين الأدبيين عن الحلم الصهيوني عاموس عوز الذي كتب: «إن الذي يغرق ويتشبث بلوح من خشب مسموح له بكل المقاييس الطبيعية أن يوجد لنفسه مكانًا فوق اللوح، حتى ولو كان عليه ليفعل ذلك أن يزيح الآخرين قليلًا»!

يتواطأ سيغف مع هذا المشهد في سرديته عن «الإسرائيليين الأوائل» فيستضيفهم بوصفهم شعبًا خارجًا من العذاب إلى غربة جديدة، جنودًا عائدين من الحرب يحاولون التكيف بصعوبة بحثًا عن مكان لهم في الحياة العامة، وعائلاتٍ يهوديةً مشردةً تحمل الحقائب والصرر والقليل من الأغراض المنزلية والأثاث، بانتظار الدولة حتى تُفرغ لهم منزلًا عربيًا بعد طرد سكانه: «وهكذا؛ فإن حكاية الإسرائيليين الأوائل كانت أيضًا حكاية محنة كبيرة وبؤس وارتباكات مزعجة.. أما العرب الذين بقوا في البلد فكانوا مهزومين ومهانين يتملكهم الرعب».

وخلال كل تلك السنوات التي قضاها تنقيبًا في أرشيف الحركة الصهيونية، لم تهيمن على المؤرخ الثمانيني شخصية معينة كما هيمنت عليه شخصية ديفيد بن غوريون إلى حد الإعجاب المُشتم من خلف السطور. نحن أمام مؤرخ معجب يحاول مداراة إعجابه ما استطاع؛ حتى لا يفقد لبوس الموضوعية التي ينبغي أن يتحلى بها أي مؤرخ شكَّاك ونقدي. مركزية بن غوريون في كتابه هذا وفي مجمل نقاشاته عن التاريخ المؤسس لإسرائيل تعتمد على حقيقة كونه الشخصية التي لولاها لم تكن هناك دولة اسمها «إسرائيل»، الاعتقاد الذي يشاطره فيه غالبية الإسرائيليين. وهي المكانة الوجدانية والتأسيسية التي يحاول نتنياهو اليوم المنافسة عليها بشراسة. وبحلول ذكرى النكبة في هذه الأيام؛ فإنه قد صار للإسرائيليين ماضٍ عمره 77 سنة. لقد صار لهم ماضٍ معتبر يمكنهم أن ينافسوا بعضهم البعض على منجزاته وطريقة روايته، وعلى إمكانية تسجيل الحضور الشخصي فيه، وهذا ما لا يمكن تفاديه في تفسير الصراع والقلق الداخليين في مجتمع الكيان الصهيوني.

كان بن غوريون يكره التفلسف حول أسئلة الهوية التي سعى بعض الكتاب والمفكرين لاستثارتها، من أمثال مارتن بوبر. قال ذلك صراحةً: إنه ضد الانشغال بأسئلة من قبيل: من أنا؟ ومن أكون؟ وبادر بقوة كي يتصدى «للوهن الذي أصاب الرؤيا» بعد أشهر فقط من قيام الدولة. لم يكن بن غوريون مجرد زعيم سياسي شديد الدهاء واللؤم، بل كان أيضًا مؤسسًا فكريًا لفكرة إسرائيل/ الدولة، وذلك بإشرافه على بلورة الأسلوب الذي ينبغي أن تفكر به الدولة وسط محيطها العربي المعادي: «يجب أن نعزو إقامة الدولة إلى ــ مبدأــ الدفاع عن النفس». ومن الواضح أن أسطورة «الدفاع عن النفس» التي اخترعها بن غوريون ما زالت حيةً ومتجذرة في الطريقة التي تتصرف بها إسرائيل تلبيةً لنزواتها. وعلى طريقة ملوك الإمبراطوريات القديمة؛ ظل بن غوريون لا يرى سوى الحرب وسيلةً لتوسيع حدود الدولة خارج المساحة التي حددتها الأمم المتحدة. وكما يقول سيغف؛ فقد كان الإسرائيليون الأوائل «يتحركون طوال الوقت بين هذين القطبين: الأول يتمسك بالشرعية ويعترف بوجود المستحيل، والآخر عملي يقول بأن كل شيء ممكن».

وعلى ما اشتمله الكتاب من حقائق وبراهين من شأنها أن تربك تحالف المنظومة السياسية والأمنية والأكاديمية في دولة الاحتلال وتدين زعماء الحركة الصهيونية، وفي مقدمتهم بن غوريون نفسه؛ إلا أنه لا ينبغي أن يغيب عن وعي القارئ العربي وهو يطالع ما كتبه توم سيغف أن كتابه سيبقى في نهاية المطاف «من وضع إسرئيلي لا يشك أحد في ولائه للكيان الصهيوني» كما يشير محمد المجذوب في مقدمة الطبعة العربية. ولعل قراءة الكتاب من هذه الزاوية بالتحديد هي ما تعطي لبيانه التأريخي أهمية سياسية أكبر في السياق الراهن، في الوقت الذي تجعل من مؤلفه واقعًا في المغبة الأخلاقية والسياسية التي يدعي أنه يناضل في سبيل تقويضها.

لكن الكتاب أيضًا بقدر ما يعري تاريخ الدولة الصهيونية في أشهرها الأولى؛ يكشف في المقابل عن رداءة الواقع السياسي العربي ويفضح أسرار المفاوضات والتنازلات العربية التي أعقبت النكبة، وهذا ما سنسعى لتسليط الضوء عليه في الجزء الثاني من هذا المقال.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بن غوریون

إقرأ أيضاً:

اليمنيون يعلنون استهداف مطار بن غوريون بصاروخ باليستي

اليمنيون يعلنون استهداف مطار بن غوريون بصاروخ باليستي

مقالات مشابهة

  • عائلات الأسرى الإسرائيليين .. نتنياهو هو “ملاك الموت” الذي يقبض أرواح الأسرى
  • أبو الغيط: العراق هو الدولة الأولى التي تترأس القمتين السياسية والاقتصادية
  • منصور بن زايد يشارك في القمة العربية التي بدأت أعمالها في بغداد
  • اليمنيون يعلنون استهداف مطار بن غوريون بصاروخ باليستي
  • "أين الهدف التالي؟".. إسرائيل تعلن اعتقال "الجاسوس المراهق"
  • إغلاق مطار بن غوريون وملايين الإسرائيليين في الملاجئ بسبب صاروخ
  • صاروخ من اليمن يغلق مطار بن غوريون ويدخل ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ
  • مؤرخ إسرائيلي: تحولنا من أصل إستراتيجي إلى عبء سياسي على أميركا
  • أذكار الصباح اليوم الخميس 15 مايو 2025.. «بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء»