لجريدة عمان:
2025-12-15@03:47:51 GMT

التنوع الثقافي من المنظور التقني

تاريخ النشر: 17th, May 2025 GMT

منذ أن كتب الأنثربولوجي كلود ليفي شتراوس في عام 1952، نصه الشهير (العرق والتاريخ)، عندما استعانت به اليونسكو، حينما بدأت العمل على التنوُّع الثقافي فيما ترسَّخ بعد ذلك في مفاهيم (التنوُّع الإنساني المبدع)، والعالم منشغل بهذا التنوُّع لما يمثِّله من أهمية في التنمية الإنسانية والتفاعل وتطوير أنماط الثقافة، وإيجاد طرائق تعزِّز العلاقة بين المجتمعات على تنوُّعاتها واختلافاتها الثقافية والحضارية.

حيث لفت شتراوس أنظار العالم إلى أهمية حماية التنوُّع الثقافي كونه أساسا في الركائز الحضارية والتنموية للدول، فـ«التنوُّع نفسه هو الذي يتعيَّن إنقاذه، وليس الشكل الخارجي المرئي الذي تُلبسه كل مرحلة لذاك التنوُّع» -حسب شتراوس-، وهذا يعني الإشارة إلى حماية فكرة التنوُّع نفسها لا الأشكال التي تنتجها في فترات حضارية معينة، فالأمر الذي يحتاج حمايته هو الحفاظ على التنوُّع بوصفه محور قوة تنموية للدول، قادر في كل مرحلة على فتح آفاق جديدة للتواصل والإبداع.

إن التنوُّع الثقافي يقدم نفسه باعتباره محور ثراء حضاريا يكمن في تلك التنوعات الثقافية والأشكال المتوارثة من ناحية، والأنماط الجديدة التي تتوَّلد ضمن تطوُّر المجتمع وتغيُّراته الحضارية والتنموية من ناحية أخرى، وتلك التي تظهر ضمن تواصله وانفتاحه على الآخر من ناحية ثالثة، فالتنوُّع الثقافي يمثِّل قوة للتواصل الإنساني، والاعتراف بأهميته يكمن في تلك الفرص التي يقدمها في مجالات التعليم والتواصل والإبداع والابتكار وغيرها، إضافة إلى المجالات الاستثمارية، والشراكات التي يفتحها ويوفِّرها.

ولعل هذه الأهمية دفعت اليونسكو إلى تخصيص 21 من مايو من كل عام للاحتفاء بـ(اليوم العالمي للتنوُّع الثقافي من أجل الحوار والتنمية)؛ بُغية إبراز دور الثراء الثقافي الذي تتميَّز به دول العالم، وقدرته في بناء منظومة الحوار والتواصل، وطرائق الاستفادة من الإمكانات الإبداعية للثقافات المتنوِّعة ومشاركتها في التنمية الإنسانية وتحقيق الرفاه للمجتمعات، ولهذا فإن هذا الاحتفاء لا يمثِّل تذكيرا بتلك الأهمية وحسب، بل دعوة إلى زيادة التركيز على مجالات التنوع الثقافي باعتبارها محركات تنموية.

إن الحاجة إلى التنوُّع الثقافي اليوم تزداد في ظل المتغيرات التقنية خاصة برامج الذكاء الاصطناعي وانفتاح طرائق الإبداع والابتكار ومجالاته وإمكاناته التي توفرها تلك البرامج، إذ تكشف دراسة بعنوان (كيف يؤثِّر التنوُّع الثقافي على تطوير الذكاء الاصطناعي للشركات؟)، نُشرت في موقع مجلة دراسات البحوث المالية، أن هناك تأثيرا مباشرا للتنوُّع الثقافي على تطوير الذكاء الاصطناعي وآلياته الأساسية، حيث يعزِّز آفاق الابتكار وينمي مستويات التسويق، إضافة إلى الرؤى المتعددة التي يمكن أن يقدمها للتطوير وزيادة القيمة.

فالتنوُّع الثقافي بهذا المعنى يعمل بوصفه أساسا للهُوية الوطنية والتاريخ الحضاري للدول والتي تستقي منها المؤسسات والشركات طابعها الحضاري العام، وبالتالي تشكِّل وفقها منطقها الاقتصادي وهيكلها الاجتماعي، ليكون سمة أساسية للتطوير والنمو، ولهذا فإن دولة مثل الصين اتخذت من تنوُّعها الثقافي مرتكزا للتطوير الاقتصادي، فعملت على تأسيس نظام ثقافي غني ومتنوِّع، يرمز إلى تاريخها الحضاري ليمثِّل ركيزة لتنميتها الاجتماعية، حتى انعكس تأثيره على مجالات الاقتصاد والبيئة والابتكار والتطوير التكنولوجي؛ فالتنوُّع الذي تتميَّز به الصين أصبح أحد أهم مجالات التنمية المعرفية والاجتماعية والاقتصادية.

إذ تكشف لنا الدراسة أن التنوُع اللغوي وحده في الصين يعمل باعتباره مجالا خصبا؛ فعلى الرغم من أن اللغة الرسمية هي (الماندرين)، إلاَّ أن تعدد اللهجات أصبح إحدى السمات المميَّزة في الثقافة الصينية على مدى آلاف السنين من التطور التاريخي، فاللغات واللهجات ليست وسائل للتعبير وحسب بل أيضا ثقافة غنية ممتدة تعكس (المسارات التنموية الفريدة والهُويات الاجتماعية)، وبالتالي فهي حلقات وصل في التفاعل الاجتماعي والتواصل الحضاري وكذلك في التبادلات التجارية والأنشطة الاقتصادية المختلفة، مما يُسهم في التواصل الثقافي والتكامل، ويسهِّل تبادل المعارف وتطوير الأسواق والتفاعل التقني والابتكار. إن التنوُّع الثقافي بذلك يُنظر إليه باعتباره محركا ثقافيا للتنمية الاقتصادية، يقود إلى فتح آفاق جديدة للتنمية الرقمية والابتكار الإلكتروني، ولأن برامج الذكاء الاصطناعي تقوم على مفاهيم التنوُع فإنها ترتكز على التنوُّع الثقافي باعتباره قوة أساسية تقدِّم مجموعة خيارات مفتوحة، قادرة على إحداث تحولاَّت على مستوى النمو التقني وبرامج الإنتاج، إضافة إلى قدرتها على تسريع تلك التحولات ضمن احتياجات المتطلبات الاجتماعية والمهنية؛ فالتنوُّع الثقافي (عامل حاسم يؤثر على ابتكار الشركات والقدرة على اعتماد الذكاء الاصطناعي وتطويره) -حسب الدراسة.

فأهمية التنوُّع الثقافي اليوم تتعاظم في ظل حاجة برامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته إلى فضاءات ثقافية واسعة للنهوض والتطوُّر، لأن مجالات ذلك التنوُّع تمثِّل فرصا استثمارية من الناحية الاقتصادية، وثراءً فكريا واسعا للتقنيات الحديثة، وما يمكن أن تقدمه من مجالات للإبداع والابتكار، الأمر الذي يحدِّد قدرة تلك البرامج على مسايرة التغيرات الاجتماعية والتقنية، والمحافظة على تنوُّع مجالات الثقافة ومعطياتها باعتبارها جوهرا أساسيا للمجتمعات، وإمكانات الاستفادة منها في التطوير خاصة في الذكاء الاصطناعي.

إن العالم في ظل هذه المتغيرات ينظر إلى التنوُّع الثقافي من مستويات عدة ليس فقط من المنظور الاجتماعي والاقتصادي وحسب، بل أيضا يتم اتخاذه ركيزة أساسية في الحوكمة والمنافسة والأداء التنظيمي للمؤسسات والمجتمعات، إضافة إلى دوره في تطوير أنماط الذكاء الاصطناعي والتطورات التقنية بشكل عام؛ إذ يمثِّل قوة إنتاجية لها أثرها في بيئات الأسواق وتنوعها، ومحركا للقوى الإنتاجية الناشئة التي تعتمد على إيجاد فرص استثمارية جديدة ومغايرة، قائمة على التنوُّع الذي يخلق الفرادة والتميُّز.

ولأن عُمان من الدول التي تتميَّز بوفرة التنوُّع الثقافي والتعدُّد الذي مثَّل على مر التاريخ ثروة اجتماعية وموردا اقتصاديا غنيا، فإنها تولي هذا المجال عناية فائقة من النواحي الثقافية والبيئية والاقتصادية، ولقد قدَّمت نماذج مختلفة لهذا الاهتمام سواء من خلال عنايتها بالموارد التراثية والطبيعية، أو الاهتمام بتنميتها بالاستثمار في المجالات الاقتصادية المختلفة خاصة على مستوى الشركات المحلية الصغيرة والمتوسطة وكذلك مجالات الابتكار، إيمانا بالقيمة المضافة التي تمثِّلها قطاعات التنوُّع الثقافي ومجالاته.

ولذلك فإن العناية اليوم بالتنوُّع الثقافي وإبراز الفرص الاستثمارية الكامنة فيه، سيمثِّل إضافة في ظل التطورات التقنية وزيادة اهتمام الدولة بالتطوير التقني وصناعات الذكاء الاصطناعي وتوطينها، الأمر الذي علينا إيلاءه أهمية أكبر ليس من خلال حمايته باعتباره موروثا وحسب بل بإكثاره وتنميته وتطويره كونه أساسا تنمويا وموردا لا ينضب؛ فتطوير برامج الذكاء الاصطناعي يقوم على ذلك المورد، وقدرة المشغِّلين على الإبداع والابتكار فيه من خلال الإمكانات المتقدمة التي يتميَّز بها.

إن التنوُّع الثقافي يمثِّل قيمة مضافة ليس على المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بل أيضا على المستوى التقني خاصة الذكاء الاصطناعي الذي يقوم في الأساس على فرص هذا التنوُّع وإمكاناته، وما علينا سوى إبراز تلك الفرص الهائلة التي يتميَّز ويتفرَّد بها مجتمعنا في تنوِّعه الجغرافي واللغوي وموروثه التراثي وموارده الطبيعية وغير ذلك، ونتخذها باعتبارها قيمة تقنية مضافة يمكن تشكيلها وتعزيزها وتحويل إنتاجياتها وفق منظور القدرة التنافسية وديناميات الصناعات الحديثة المتطوِّرة.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: برامج الذکاء الاصطناعی على التنو إضافة إلى ع الثقافی

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي يساعد الأطباء في تحليل الصور الطبية

برز الذكاء الاصطناعي، منذ ظهوره، كأداة فعّالة لتحليل الصور الطبية. وبفضل التطورات في مجال الحوسبة ومجموعات البيانات الطبية الضخمة التي يُمكن للذكاء الاصطناعي التعلّم منها، فقد أثبت جدواه في قراءة وتحليل الأنماط في صور الأشعة السينية، والتصوير بالرنين المغناطيسي، والتصوير المقطعي المحوسب، مما يُمكّن الأطباء من اتخاذ قرارات أفضل وأسرع، لا سيما في علاج وتشخيص الأمراض الخطيرة كالسرطان. في بعض الحالات، تُقدّم أدوات الذكاء الاصطناعي هذه مزايا تفوق حتى نظيراتها البشرية.

يقول أونور أسان، الأستاذ المشارك في معهد ستيفنز للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، والذي يركز بحثه على التفاعل بين الإنسان والحاسوب في الرعاية الصحية "تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي معالجة آلاف الصور بسرعة وتقديم تنبؤات أسرع بكثير من المُراجعين البشريين. وعلى عكس البشر، لا يتعب الذكاء الاصطناعي ولا يفقد تركيزه بمرور الوقت".

مع ذلك، ينظر العديد من الأطباء إلى الذكاء الاصطناعي بشيء من عدم الثقة، ويرجع ذلك في الغالب إلى عدم معرفتهم بكيفية وصوله إلى قراراته، وهي مشكلة تُعرف باسم "مشكلة الصندوق الأسود".

يقول أسان "عندما لا يعرف الأطباء كيف تُولّد أنظمة الذكاء الاصطناعي تنبؤاتها، تقلّ ثقتهم بها. لذا، أردنا معرفة ما إذا كان تقديم شروحات إضافية يُفيد الأطباء، وكيف تؤثر درجات التفسير المختلفة للذكاء الاصطناعي على دقة التشخيص، وكذلك على الثقة في النظام".

بالتعاون مع طالبة الدكتوراه أوليا رضائيان والأستاذ المساعد ألب أرسلان إمراه بايراك في جامعة ليهاي في ولاية بنسيلفانيا الأميركية، أجرى أسان دراسة شملت 28 طبيبًا متخصصًا في الأورام والأشعة، استخدموا الذكاء الاصطناعي لتحليل صور سرطان الثدي. كما زُوّد الأطباء بمستويات مختلفة من الشروح لتقييمات أداة الذكاء الاصطناعي. في النهاية، أجاب المشاركون على سلسلة من الأسئلة المصممة لقياس ثقتهم في التقييم الذي يُولّده الذكاء الاصطناعي ومدى صعوبة المهمة.

وجد الفريق أن الذكاء الاصطناعي حسّن دقة التشخيص لدى الأطباء مقارنةً بالمجموعة الضابطة، ولكن كانت هناك بعض الملاحظات المهمة.
اقرأ أيضا... مؤسسات تستخدم الذكاء الاصطناعي لأعمال معقدة ومتعددة الخطوات

كشفت الدراسة أن تقديم شروحات أكثر تفصيلًا لا يُؤدي بالضرورة إلى زيادة الثقة.

أخبار ذات صلة "أوبن إيه آي" تطلق نموذج ذكاء اصطناعي جديدا الذكاء الاصطناعي النووي يُحدث نقلة في إدارة قطاع الطاقة

يقول أسان "وجدنا أن زيادة التفسير لا تعني بالضرورة زيادة الثقة". ذلك لأن وضع تفسيرات إضافية أو أكثر تعقيدًا يتطلب من الأطباء معالجة معلومات إضافية، مما يستنزف وقتهم وتركيزهم بعيدًا عن تحليل الصور. وعندما تكون التفسيرات أكثر تفصيلًا، يستغرق الأطباء وقتًا أطول لاتخاذ القرارات، مما يقلل من أدائهم العام.

يوضح أسان "معالجة المزيد من المعلومات تزيد من العبء المعرفي على الأطباء، وتزيد أيضًا من احتمال ارتكابهم للأخطاء، وربما إلحاق الضرر بالمريض. لا نريد زيادة العبء المعرفي على المستخدمين بإضافة المزيد من المهام".

كما وجدت أبحاث أسان أنه في بعض الحالات، يثق الأطباء بالذكاء الاصطناعي ثقةً مفرطة، مما قد يؤدي إلى إغفال معلومات حيوية في الصور، وبالتالي إلحاق الضرر بالمريض.

ويضيف أسان "إذا لم يُصمم نظام الذكاء الاصطناعي جيدًا، وارتكب بعض الأخطاء بينما يثق به المستخدمون ثقةً كبيرة، فقد يطور بعض الأطباء ثقةً عمياء، معتقدين أن كل ما يقترحه الذكاء الاصطناعي صحيح، ولا يدققون في النتائج بما فيه الكفاية".
قدّم الفريق نتائجه في دراستين حديثتين: الأولى بعنوان "تأثير تفسيرات الذكاء الاصطناعي على ثقة الأطباء ودقة التشخيص في سرطان الثدي"، والثانية بعنوان "قابلية التفسير وثقة الذكاء الاصطناعي في أنظمة دعم القرار السريري: تأثيراتها على الثقة والأداء التشخيصي والعبء المعرفي في رعاية سرطان الثدي".

يعتقد أسان أن الذكاء الاصطناعي سيظل مساعدًا قيّمًا للأطباء في تفسير الصور الطبية، ولكن يجب تصميم هذه الأنظمة بعناية.
ويقول "تشير نتائجنا إلى ضرورة توخي المصممين الحذر عند دمج التفسيرات في أنظمة الذكاء الاصطناعي"، حتى لا يصبح استخدامها معقدا. ويضيف أن التدريب المناسب سيكون ضروريًا للمستخدمين، إذ ستظل الرقابة البشرية لازمة.
وأكد "ينبغي أن يتلقى الأطباء، الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي، تدريبًا يركز على تفسير مخرجات الذكاء الاصطناعي وليس مجرد الوثوق بها".

ويشير أسان إلى أنه في نهاية المطاف، يجب تحقيق توازن جيد بين سهولة استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي وفائدتها.

ويؤكد الباحث "يُشير البحث إلى وجود معيارين أساسيين لاستخدام أي شكل من أشكال التكنولوجيا، وهما: الفائدة المتوقعة وسهولة الاستخدام المتوقعة. فإذا اعتقد الأطباء أن هذه الأداة مفيدة في أداء عملهم، وسهلة الاستخدام، فسوف يستخدمونها".
مصطفى أوفى (أبوظبي)

مقالات مشابهة

  • شركة عالمية تُطمئن: الذكاء الاصطناعي لن يكون بديلاً للإنسان في كل الوظائف
  • مستقبل الفضاء الإذاعي في ظل تطبيقات الذكاء الاصطناعي
  • المصرية للاتصالات ترعى قمة المرأة المصرية 2025 لدعم تمكين الشباب والمرأة في «STEM» و«الذكاء الاصطناعي»
  • واشنطن تطلق تحالفا لمواجهة هيمنة الصين على المعادن والذكاء الاصطناعي
  • هل يهدد الذكاء الاصطناعي التعليم والجامعات ؟
  • أين تستثمر في الذكاء الاصطناعي خلال 2026؟
  • كيف تحمي نفسك من أدوات الذكاء الاصطناعي التي تجمع بياناتك الشخصية (فيديو)
  • أوبن أيه آي تطلق نموذج الذكاء الاصطناعي GPT-5.2 بعد تحسينات واسعة
  • بقيادة ترمب.. تشكيل تحالف دولي لمواجهة الهيمنة الصينية في الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يساعد الأطباء في تحليل الصور الطبية