إبراهيم شقلاوي يكتب: قمة بغداد .. خطابات الدعم وتعميق الخذلان!
تاريخ النشر: 19th, May 2025 GMT
شكّلت القمة العربية الرابعة والثلاثون في بغداد، المنعقدة في 17 مايو 2025، محطة كاشفة لطبيعة الموقف العربي من الأزمة السودانية. فعلى الرغم من الزخم السياسي الذي أحاط بالقمة، بدت الفجوة واضحة بين الخطاب التضامني المُعلن، وبين غياب الآليات العملية والاستجابة الحقيقية لحجم المأساة السودانية المتفاقمة. السودان، المنهك من حرب داخلية طاحنة جراء تآمر إقليمي ودولي، وجد نفسه من جديد في قلب بيانات التعاطف، دون تضامن حقيقي.
مشاركة الفريق مهندس إبراهيم جابر، عضو مجلس السيادة السوداني، في القمة، سعت الخرطوم من خلالها إلى تثبيت شرعيتها السياسية، وتأكيد استمرار ارتباطها بالنظام الإقليمي العربي رغم التحديات الداخلية. الكلمة التي ألقاها باسم السودان جاءت ناعمة و محمّلة برؤية لما وُصف بـ”خارطة طريق للسلام”، تضمنت وقفًا شاملًا لإطلاق النار، وانسحاب مليشيا الدعم السريع من المدن، وفتح ممرات إنسانية تمهيدًا لحوار سياسي شامل يقود إلى الحكم المدني والانتخابات. غير أن هذه الرؤية الطموحة ظلّت لا تجد الدعم الكافي من الوسطاء، بجانب تآكل الثقة بين الفاعلين ، فضلًا عن تدخلات خارجية تُغذّي الصراع بدلًا من احتوائه.
كلمات القادة العرب والبيان الختامي أكّدت مجددًا دعمهم لوحدة السودان ورفضهم التدخل في شؤونه، وهو خطاب مألوف لا يخرج عن ثوابت العمل العربي المشترك. لكن عند اختبار هذا الموقف على أرض الواقع، تتكشّف محدوديته؛ إذ لم تُطرح أي مبادرة جادة للضغط على المليشيا وداعميها، أو لإقرار دعم اقتصادي طارئ، أو ممارسة ضغط دبلوماسي لتنفيذ اتفاق جدة الموقّع في 11 مايو من عام 2023. باستثناء مساعدات إنسانية رمزية، ظل السودان يواجه حربه منفردًا، وسط فراغ استراتيجي إقليمي يعكس ضعف الإرادة السياسية الجماعية.
من بين أكثر المشاهد دلالة في القمة كان لقاء الفريق جابر مع المبعوث الروسي ميخائيل بوغدانوف، وهو ما عكس ميلًا سودانيًا واضحًا إلى تنويع الحلفاء، والبحث عن منافذ دعم بديلة بعد خذلان المنظومة العربية. هذا الانفتاح يحمل احتمالات ذهاب السودان إلى استخدام أوراقه الرابحة في محاور دولية أكثر ثقة، بحسب ما أثبتته التجربة، خصوصًا في ظل تصاعد التنافس الجيوسياسي على الأرض السودانية. إدارة هذه العلاقات تتطلب من السودان قدرًا عاليًا من التوازن السياسي، والبحث عن مصالحه بما يحفظ له سيادته واستقلالية قراره الوطني وسط صراع إقليمي متجدّد.
على هامش القمة أيضًا، انعقد اجتماع ثلاثي جمع الجامعة العربية، والأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، في محاولة لتنسيق المواقف حيال الأزمة. ورغم أهمية التنسيق بين هذه الجهات، فإن نتائج الاجتماع كشفت مجددًا التحديات البنيوية التي تعيق فاعلية العمل المشترك: تعدد المرجعيات، تداخل الأدوار، وغياب آليات تنفيذية ملزمة. الاتفاق على استمرار التشاور لم يكن كافيًا لمجاراة تسارع الأحداث على الأرض، والمتعلقة بانتقال الصراع إلى استهداف البنية التحتية باستخدام مسيّرات استراتيجية، والتي صفتها الحكومة السودان “بالعدوان” ، ما يُبرز الحاجة إلى تحرك مؤسسي عربي فاعل.
في السياق ذاته، أثار غياب أي إشارة صريحة إلى دور الإمارات في دعم مليشيا الدعم السريع تساؤلات ملحّة. ورغم اتهامات مباشرة من السلطات السودانية لأبوظبي، تصاعدت لمستوى قطع العلاقات، لم تتضمن بيانات القمة أي إدانة، ما يعكس عمق الخلل في آليات المحاسبة داخل النظام العربي. فالقمم العربية، ووفقًا لما يُعرف بـ”الحد الأدنى من التوافق”، تتجنب المسّ بالخلافات البينية، لا سيّما إذا كانت تطال دولة ذات نفوذ إقليمي .
نفوذ الإمارات، الاقتصادي والسياسي داخل الجامعة العربية، يمنحها قدرة على تعطيل أي تحرّك جماعي ضدها، حتى عندما تكون هناك اتهامات موثّقة بالتورط في أزمات دولية. كما أن غياب آلية قانونية للمساءلة داخل الجامعة، وتضارب المصالح الإقليمية، يجعل من إدراج إدانة كهذه أمرًا صعبًا. يُضاف إلى ذلك ضعف الموقف السوداني نفسه، الذي لم يتمكن من حشد دعم عربي كافٍ لمطالبه، في ظل تباين المواقف وانقسام الداخل السوداني.
السودان اليوم لم يعد مجرد أزمة داخلية، بل بات ساحة مفتوحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، ما يُصعّب إيجاد حل وطني ما لم يتم الانتباه لذلك. التدخلات الخارجية، سواء كانت دعمًا لمليشيات أو محاور دبلوماسية متنافسة، تعيد إنتاج الصراع وتُعقّده، بينما يبقى الموقف العربي مترددًا، متحفّظًا، وعاجزًا عن تقديم نموذج استباقي وفعّال لإطفاء الحريق.
عليه، يمكن القول إن قمة بغداد، رغم ما حملته من وعود وخطابات تضامن، ستبقى كسابقاتها. السودان لا يحتاج إلى مزيد من البيانات الختامية، بل إلى التزامات سياسية واقتصادية وأمنية قابلة للتنفيذ. إذا لم تتبع القمة تحرّكات ملموسة، سواء بدعم خارطة الطريق السودانية، أو ببلورة مبادرة عربية فاعلة لفرض وقف إطلاق النار، فسيُسجلها السودانيون – مع الأسف – كمناسبة أخرى لتعميق الخذلان لا لنصرتهم.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأحد 18 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
السودان.. حرب بلا معنى (2)
اشتهر أشقاؤنا السودانيون بروح الأخوّة والجماعة والتعاطف بينهم إلى الدرجة، التي يصاب فيها المرء بالحيرة، عندما يحاول فهم هذه الحرب البغيضة بينهم داخل السودان. ولهذا يجد المرء مرارة في قراءة هذا الصراع بين السودانيين، خاصة الطريقة الغامضة، التي نشأت فيها وبرزت ميليشيا الدعم السريع، التي تضم مقاتلين من خارج السودان، بعضهم في سن المراهقة، وتتلقّى الدعم من قوى أجنبية لا تهمها مصلحة السودان. لقد اقترفت هذه الميليشيا الكثير من الجرائم في هذه الحرب العبثية.
من الصحفيين القلائل الذين حاولوا نقل الصورة البشعة لهذه الحرب وعواقبها الوخيمة على الشعب السوداني، الصحفي البريطاني أنتوني لويد، الذي تمكّن من الدخول إلى الخرطوم وأم درمان، وكشف عن جانب مظلم تستخدمه ميليشيا الدعم السريع؛ كسلاح في هذه الحرب.
يسرد الكاتب البريطاني هذه القصة بعد أن أجرى مقابلة مع والدة إحدى الفتيات التي تعرّضت للاغتصاب. اختارت الفتاة المراهقة أن تنام في غرفتها بدلاً من النوم مع أمها وبقية الأطفال في الرواق؛ حيث النسيم العليل القادم من النيل في أحد أحياء الخرطوم، الذي كانت تسكن فيه هذه الأسرة، والذي يخضع لاحتلال ميليشيا الدعم السريع. لم يدر بخلدها أنه في الهزيع الأخير من الليل سيدخل ثلاثة جنود يحملون السلاح من نافذة المنزل ذي الدور الواحد، ثم إلى غرفتها دون أن تلحظ ذلك الأم التي كانت تغط في نوم عميق. لم يكن والدها موجوداً في المنزل ذلك اليوم. كان هؤلاء يبحثون عن أي شيء يسرقونه، وإذا لم يجدوا شيئاً أمعنوا في إهانة أهل هذا الحي بارتكاب جرائم الاغتصاب التي يحجم الكثير من الضحايا عن التصريح بها؛ مخافة العار والفضيحة في مجتمع ديني محافظ. لم يجد هؤلاء الجنود الثلاثة أي ذهب أو مال أوهاتف محمول؛ فأقدموا تحت تهديد السلاح على ارتكاب هذه الجريمة، التي أصبحت- بحسب تقرير بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة- “منتشرة” في هذه الحرب، رغم عدم وجود إحصاءات دقيقة لهذه الاعتداءات؛ بسبب صعوبة حصرها أثناء الحرب، وبسبب الخوف الذي يعتري الضحايا من التصريح بها. عندما وجدت الأم ابنتها ترتجف خوفاً بجانبها في الظلام، أدركت أنها أمام وقت عصيب. لم تجد الصرخات التي أطلقتها في الشارع، وأيقظت الجيران الذين ملأوا ساحة بيتها، ولم تنفعها الشكوى لدى نقطة التفتيش التابعة للدعم السريع في نفس الشارع. تكرر نفس السيناريو بعد ثلاثة أشهر عندما هجم ثلاثة أفراد من الميليشيا على المنزل وأخذوا الفتاة من يدها، لكن الجيران أنقذوا الموقف بعد سماع صيحات الأم. لم تخبر الأم والد الفتاة الغائب بما حلّ بابنته، ولا تدري كيف سيكون ردة فعله لو أخبرته بالأمر. غادرت الأسرة هذه المنطقة التي تسيطر عليها الميليشيا متوجهة إلى أم درمان دون التفكير في العودة للمنزل، الذي أصبح مكاناً للذكريات المؤلمة.
لم تنته قصة الأم المكلومة فأمامها الكثير من الجهد لتساعد ابنتها على تجاوز هذه المعضلة.
هذا جانب واحد فقط من الأعراض الجانبية للحرب. فما بالكم في الحرب نفسها؟
khaledalawadh @