عبر التاريخ، ثمة أحداث تُسجل نهاية حقبة تاريخية وحضارية وبداية أخرى، بحيث تشكل ذروة قوة دولة أو إمبراطورية ما أو قمة ضعف أخرى. وطالما كانت الحروب هي الأبرز على هذا الصعيد، مثل معركة واترلو التي تعدُّ نهاية إمبراطورية نابليون، أو معركة لينيغراد وفشل حصارها الذي كان أحد أهم منعطفات الحرب العالمية الثانية، وفتح القسطنطينية الذي شكّل نهاية دورة حضارية وانبلاج أخرى، وفشل السلطان سليمان القانوني في فتح النمسا الذي ينظر له المؤرخون كذروة قوة الدولة العثمانية وبداية تقهقرها.
ولا تكتفي هذه الأحداث أو الحروب بأن تكون منعطفات تاريخية وحضارية، ولكنها كذلك كاشفة لمجمل الأوضاع التي عايشتها على طرفَيْ المعركة. وحرب الإبادة التي شُنت على قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" ليست استثناء في هذا السياق، مهما كانت النتائج المباشرة والظاهرة لها على المدى القصير. فهي نقطة تحول عميقة في مسار الصراع مع "إسرائيل"، وكاشفة للأوضاع السائدة، وستحدد على المدى البعيد مصير كل من دولة الاحتلال والمقاومة (والقضية) الفلسطينية والعالم العربي والإسلامي ككل.
إن جزءا أساسيا من أسباب الدموية والوحشية التي تجاوزت كل حدود المنطق والمكاسب العسكرية في هذه الحرب يعود لمحاولة الاحتلال محو صورة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والسعي لبناء الردع مرة أخرى باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والحصول على دعم غير مسبوق وغير محدود
بالنسبة لـ"إسرائيل"، فقد انهارت الأركان الرئيسة لاستراتيجيتها الأمنية المعتمدة منذ تأسيسها، من الردع للحرب على أرض العدو، ومن الإنذار المبكر للحسم السريع، وباتت في حاجة ماسة لاستراتيجية بديلة بعد أن أثبتت المقاومة الفلسطينية محدودةُ الموارد وعناصر القوة؛ بأنها ليست قابلة للحرب فقط وإنما للهزيمة كذلك. وبالنسبة لدولة الاحتلال التي طالما ردد منظّروها بأن أول هزيمة قد تتعرض لها ستكون بداية النهاية أو النهاية نفسها، فقد دقت كل نواقيس الخطر، بعد أن شهدت على ما سبق مختلفُ الأطراف والقوى في المنطقة والعالم، الصديقة لدولة الاحتلال قبل أعدائها.
ولذلك فإن جزءا أساسيا من أسباب الدموية والوحشية التي تجاوزت كل حدود المنطق والمكاسب العسكرية في هذه الحرب يعود لمحاولة الاحتلال محو صورة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والسعي لبناء الردع مرة أخرى باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والحصول على دعم غير مسبوق وغير محدود من الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
كما أن الحرب ستحدد مصير المقاومة الفلسطينية ومعها القضية برمتها، إذ ثمة تلازم كبير بينهما، فبالنظر للسياقات والتغييرات التي طرأت على الحركة الوطنية الفلسطينية في العقود الأخيرة وطبيعة الحرب الحالية، لا يمكن تصفية القضية والمقاومة قائمة، ولا يمكن الحفاظ عليها إن هُزمت الأخيرة.
بعد هذه الحرب، إما أن يُقضى على المقاومة الفلسطينية وتحديدا في قطاع غزة وفق ما تسعى له دولة الاحتلال، وتنتهي بالتالي القضية الفلسطينية كما عرفناها وعرفها العالم منذ القرن الماضي، ويُفتح الباب على إمكانية تصفيتها تماما، وإما أن تخرج واقفة على قدميها رغم التضحيات غير المسبوقة منها ومن الشعب، لنكون جميعا أمام مرحلة جديدة ومتقدمة في الصراع، بغض النظر عن الشكل والأسماء.
وهذه الحقيقة تدركها "إسرائيل" وحلفاؤها، ويثير جنونهم استمرار المقاومة بأشكال مختلفة رغم استخدام كل أدوات القتل والنسف والتدمير على مدى أكثر من عام ونصف، وعدم اقتراب المقاومة من مجرد التفكير برفع راية الاستسلام، ولذلك نرى الوحشية والهمجية في استهداف المدنيين بشكل ممنهج للضغط من خلالهم على المقاومة.
كما أن الحرب كاشفة ومؤثرة في السياق العربي والإسلامي وعلى مستوى المنطقة، خصوصا في الفشل والعجز والتواطؤ الرسمي (باختلاف الدول والمواقف) إزاء الإبادة والحصار والتجويع والتهجير، وهو ما تسجله ذاكرة الشعوب. وكما كانت الحروب السابقة على غزة في علاقة تأثر وتأثير مع الواقع العربي والإقليمي، وخصوصا حرب 2008 التي كانت من ضمن عوامل انفجار الاحتجاجات العربية عام 2010، فإن المواقف الرسمية من حرب الإبادة الحالية ستكون ضمن عوامل التغيير في أكثر من بلد على المدى البعيد.
هذه الحرب ومخرجاتها ستحدد شكل المنطقة برمتها، وليس فقط غزة أو القضية الفلسطينية، لعقود قادمة وربما أطول من ذلك، وستكون إعلانا إما لنهاية العالم العربي والإسلامي كما عرفناه وإما بداية حضارية جديدة له،
على المستوى الإقليمي، ثمة سعي أمريكي- "إسرائيلي" محموم لتغيير المنطقة وإعادة تشكيلها وفق معادلات جديدة، فيتكرر الحديث عن السلام والتطبيع والتعاون مع "إسرائيل" رغم استمرار حرب الإبادة. ما يُسعى له هو مشروع "ناتو شرق أوسطي" كان قد طرحه ترامب سابقا، ولكن بمعادلات جديدة هذه المرة تستهدف إخضاع الجميع للقيادة والرغبات والأهداف "الإسرائيلية". إن المتغير الجذري في الاستراتيجية الأمنية لدولة الاحتلال، ومن ضمنها الحرب الاستباقية وضرب التهديدات المستقبلية المحتملة من الآن في مهدها وإنشاء مناطق عازلة داخل دول الجوار، كلها سياقات تدعم فكرة إعادة رسم الخرائط والمعادلات في المنطقة، والتي لن يكون أحد بمنأى عنها حتى من لا يناصبونها العداء والكراهية حاليا.
الأهم من كل ما سبق، أن الإبادة الحالية لم تكن لتحصل فضلا عن أن تستمر حتى الآن لولا الحضيض الذي وصلته الأوضاع في العالم العربي والإسلامي على المستوى الرسمي تحديدا، من أنظمة استبدادية، وتمزق ونزاعات داخلية، وتجريف للقوى الحية، وهرولة نحو التطبيع، والجسور البرية والبحرية لدولة الاحتلال، وإمدادها بمصادر الطاقة، والتعاون الأمني والعسكري معها؛ من مناورات مشتركة واستضافة لتدريبات جيشها.. الخ، كل ذلك وآلة القتل مستمرة في حصد الأرواح بلا حساب في غزة.
هذه الحرب ومخرجاتها ستحدد شكل المنطقة برمتها، وليس فقط غزة أو القضية الفلسطينية، لعقود قادمة وربما أطول من ذلك، وستكون إعلانا إما لنهاية العالم العربي والإسلامي كما عرفناه وإما بداية حضارية جديدة له، وكثير من الأطراف ذات العلاقة تدرك ذلك وتعيه جيدا، بينما ما زالت بعض النخب والكثير من الشعوب بعيدة عن هذا الإدراك، فضلا عن الفعل.
x.com/saidelhaj
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة إسرائيل الفلسطينية العربي المقاومة إسرائيل فلسطين مقاومة غزة عرب مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العالم العربی والإسلامی لدولة الاحتلال هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
“ضمان الاستثمار”: 4 تريليونات دولار القيمة المتوقعة للناتج العربي لعام 2026
صراحة نيوز- كشفت المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات (ضمان) عن ارتفاع قيمة الناتج المحلي الإجمالي العربي بمعدل 1.7 بالمئة لتبلغ نحو 3.8 تريليونات دولار عام 2025.
وأكدت المؤسسة التي تتخذ من العاصمة الكويتية مقرا لها، في بيان، اليوم الاثنين، أن الارتفاع بالناتج المحلي الإجمالي العربي تحقق رغم التحديات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة، مع استمرار تركزه الجغرافي في كل من السعودية والإمارات ومصر والجزائر والعراق بحصة قاربت 73 بالمئة من إجمالي المنطقة.
وأوضحت المؤسسة أن توقعات أداء الاقتصاد العربي جاءت في مجملها إيجابية بالنسبة للعام المقبل 2026، بارتفاع متوقع يبلغ 5.6 بالمئة في قيمة الناتج العربي ليبلغ نحو 4 تريليونات دولار، مدفوعا بالنمو المرجح في الناتج المحلي في 19 دولة عربية منها 8 اقتصادات نفطية تسهم لوحدها بأكثر من 70 بالمئة من الناتج العربي الإجمالي.
وبنت المؤسسة توقعاتها الحذرة، على تقلص حدة الاضطرابات والصراعات في المنطقة، وتحسن الوضع الاقتصادي وارتفاع عوائد الإصلاحات الهيكلية بجانب زيادة قيمة صادرات المنطقة من السلع والخدمات.
وذكرت المؤسسة أن تقديرات صندوق النقد الدولي تشير الى تباين أداء مؤشرات الاقتصاد العربي خلال العام الحالي 2025 متأثرة بتراجع متوسط أسعار النفط العالمية واستمرار المخاطر الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة بجانب زيادة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
وأشارت المؤسسة إلى أن حجم الناتج العربي وفق تعادل القوة الشرائية بمعدل 6.1 بالمئة ليتجاوز 9.8 تريليون دولار، مع توقعات باستمرار ارتفاعه ليتجاوز 10 تريليونات دولار العام المقبل 2026.
ولفتت لتراجع معدل البطالة في المنطقة إلى 9.4 بالمئة خلال العام الحالي 2025، بالتزامن مع انخفاضه في جميع دول المنطقة، مع توقعات بأن يواصل انخفاضه إلى 9.2 بالمئة العام المقبل، وانخفاض متوسط معدل تضخم أسعار المستهلك في المنطقة العربية لنحو 10.3 بالمئة العام الحالي، مع توقعات باستمرار تراجعه ليبلغ 8.1 بالمئة العام المقبل.
وأشارت المؤسسة إلى تحسن المتوسط السنوي لسعر صرف 7 عملات عربية مقابل الدولار خلال العام الماضي، ضمت عملات تونس وقطر والإمارات والمغرب والجزائر وجيبوتي وسوريا، بينما شهد متوسط سعر صرف عملات 6 دول عربية استقرارا.
ولفتت إلى ارتفاع قيمة الاستثمارات الإجمالية لـ 14 دولة عربية بمعدل 5.2 بالمئة وصولا لنحو 864 مليار دولار العام الحالي لتمثل 27.3 بالمئة من الناتج المحلي لتلك الدول، مع توقعات بأن ترتفع بمعدل 5.4 بالمئة لتصل إلى 910 مليارات دولار العام المقبل 2026.
وحسب المؤسسة زادت الاحتياطيات العربية من النقد الأجنبي بمعدل 3.4 بالمئة لتبلغ نحو 1.2 تريليون دولار، بما يكفي لتغطية الواردات العربية من السلع والخدمات لما يقارب 5.6 أشهر كمتوسط سنوي، مع توقعات بأن تشهد ارتفاعا بمعدل 2.5 بالمئة
يشار إلى أن “ضمان” تأسست عام 1974، كمؤسسة متعددة الأطراف تضم في عضويتها جميع الدول العربية وأربع مؤسسات مالية عربية مشتركة، وتقدم خدمات تأمينية متخصصة ضد مخاطر الائتمان والمخاطر السياسية بهدف تسهيل تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الدول العربية ودعم الصادرات والواردات العربية.