تشهد اليابان اليوم واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخها الحديث، مع انتقال سياساتها الدفاعية من مرحلة الانكفاء التاريخي الذي فرضته بعد الحرب العالمية الثانية إلى استراتيجية إعادة تسلح واضحة وواسعة النطاق.

 هذا التحول لا يأتي في فراغ، بل يتزامن مع مشهد إقليمي بالغ التعقيد في المحيط الهادئ، حيث تتقاطع التوترات بين الصين والولايات المتحدة، وتتزايد المخاوف من خطوات عسكرية مفاجئة من كوريا الشمالية، بينما تواصل روسيا توسيع حضورها في شرق آسيا على وقع حربها في أوكرانيا.

في هذا السياق المشحون، أعلنت طوكيو عن خطوة كبرى بشراء 400 صاروخ توماهوك أمريكي الصنع، وهو قرار ينظر إليه كأحد أبرز مظاهر التحول في العقيدة الدفاعية اليابانية التي طالما التزمت بـ”الدفاع الذاتي” وعدم امتلاك أسلحة قادرة على الضرب بعيد المدى. 

ويأتي ذلك بالتوازي مع توسع غير مسبوق في التحالفات العسكرية اليابانية، سواء مع الولايات المتحدة أو عبر شراكات أمنية جديدة مع دول في جنوب شرق آسيا والهند وأستراليا، في محاولة لبناء شبكة ردع واسعة في مواجهة ما تصفه تقارير الدفاع اليابانية بأنه “أخطر بيئة أمنية تواجهها البلاد منذ عقود”.

وتشير وثائق الأمن القومي اليابانية الأخيرة إلى أن الصين تمثل التهديد الأكبر، خاصة مع تصاعد الأنشطة العسكرية الصينية حول جزر سينكاكو المتنازع عليها، إلى جانب القلق من البرنامج الصاروخي لكوريا الشمالية، وتعزيز موسكو لقدراتها البحرية في أقصى الشرق.

خبير سياسي: اليابان لم تعد لاعبًا سلميًا ونهجها العسكري قد يشعل صراعًا عالميًا

قال الخبير السياسي سعيد الزغبي في تصريحات خاصة لموقع صدى البلد إن “اليابان لم تعد ذلك اللاعب السلمي الذي اعتدناه لعقود، بل تحولت إلى طرف قادر على إشعال صراع عالمي إذا استمرت في نهجها العسكري التصاعدي”.

وأكد الزغبي أن “شراء طوكيو لـ400 صاروخ توماهوك بقيمة تتجاوز 2.3 مليار دولار لا يمكن تفسيره على أنه دفاعي، بل هو تحول واضح نحو استراتيجية الضربة الأولى، بتشجيع أمريكي يرى في بحر الصين الجنوبي بيرل هاربر جديدة”.

وأضاف أن “تقرير دفاع اليابان 2025 الذي يصنف الصين وروسيا وكوريا الشمالية كـ«أكبر تهديد منذ الحرب العالمية الثانية» يعكس عقلية هجومية أكثر مما يعكس رداً على تحرشات صينية بجزر سينكاكو”.

وأشار الزغبي إلى أن “ارتفاع ميزانية الدفاع اليابانية إلى 9.9 تريليون ين بحلول 2027 هو جزء من مخطط أمريكي لتحويل اليابان إلى الرمح الآسيوي في الحرب الباردة الجديدة، وليس مجرد تحديث عسكري تقليدي”.

وشدد على أن “اليابان اليوم تبيع للعالم صورة السلام بينما تبني على الأرض «حاملة طائرات غير غارقة» في أوكيناوا، وتجري تدريبات مكثفة مع واشنطن ولندن وكانبرا، في إطار تحويلها إلى العمود الفقري لتحالف AUKUS الموسع”.

واعتبر الزغبي أن “السيناريو الأخطر يتمثل في هجوم صيني محتمل على تايوان، يجر اليابان للرد بصواريخ Type-12، ما سيدفع واشنطن للتدخل ويستدعي روسيا شريكة بكين، وهنا قد نجد أنفسنا أمام شرارة حرب كونية تشمل خمس قوى نووية”.

وحذر قائلاً: “اليابان قد تصبح أوكرانيا الشرق الأقصى في 2025 إذا انشغلت الولايات المتحدة بجبهات أخرى مثل إيران أو أوكرانيا”.

وأوضح أن “اليابان ليست الجاني الخالص، بل الضحية المفترسة، فهي خائفة من تمدد الصين في بحر الصين الجنوبي، لكنها في الوقت نفسه تنزلق إلى تحالفات قد تجرها إلى حرب ليست حربها، خصوصاً مع تطبيعها المتزايد مع إسرائيل”.

وأردف الزغبي أن “التحركات اليابانية قد تمنع هجوماً صينياً قريب المدى، لكنها في الوقت نفسه تزرع بذور صراع طويل الأمد يزداد خطراً مع تحالف موسكو  بيونج يانج”.

واختتم الخبير تصريحه قائلاً: “اليابان لن تشعل الحرب العالمية الثالثة وحدها، لكنها ستكون بوابتها إذا فشل الحوار، والمطلوب الآن ليس مزيداً من الردع، بل دبلوماسية جريئة تمنع «بيرل هاربر 2.0» قبل أن تقع الكارثة”.


 

طباعة شارك اليابان الحرب العالمية الثانية الصين صاروخ توماهوك الحرب الباردة

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: اليابان الحرب العالمية الثانية الصين صاروخ توماهوك الحرب الباردة الحرب العالمیة

إقرأ أيضاً:

الحرب العالمية لقتل الذاكرة

تطمح الحروب الحديثة إلى أكثر من قتل البشر، تطمح إلى جعل الذين قُتلوا وكأنهم لم يعيشوا ذات يوم، وأن تخرجهم من الزمن قبل أن تخرجهم من المكان أيضا. 

في تسعينيات القرن الماضي عندما قامت القوات الصربية بحرق مكتبة سراييفو الوطنية كانت النيران موجهة بشكل ممنهج إلى ذاكرة البلد، وإلى محو تاريخهم وفكرهم ومخطوطاتهم ووثائقهم وخرائطهم.. كان ذلك تاريخهم المكتوب على الورق والذي يوثق لمجتمع متشابك اللغات والهويات. وكانت الرسالة واضحة جدا، أن الصرب لن يكتفوا بالمجازر ولكن هدفهم محو ثقافة البوسنيين وكل ما راكموه فوق الأرض حتى يأتي يوم ويظهروا فيه عبر التاريخ وكأنكم هامشيون، عابرون، لا جذور لهم. 

كانت حادثة مكتبة سراييفو وراء تبلور مصطلح «قتل الذاكرة» كما سيعرف لاحقا في الكثير من الحروب الحديثة التي تبحث آلة القتل والدمار فيها إلى حرق وتدمير المكتبات والمتاحف والمساجد القديمة والكنائس التاريخية والأحياء القديمة التي تمتلك ذاكرة طويلة للبشر، إلى حد أن الحروب الحديثة باتت تستهدف السجلات المدنية وأرشيف الصحف، وكل ما يمكن أن يشهد بأن شعبا من الشعوب عاش هنا وعبر من هنا. 

تنطلق هذه السياسة من فكرة استعمارية قديمة تقول بشكل واضح إنك إذا أردت أن تضمن المستقبل لنفسك، فعليك أن تسيطر على الماضي أيضا. فلا يكفيك أن تطرد السكان من قرية، بل يجب أن تهدم بيوتهم، وتقتلع مقابرهم، وتغيّر اسم المكان، وتزرع فوقه أشجارا لا تنتمي للمكان وتبني أحياء أو مدنا لا تنتمي له معماريا يحمل لغة المستمر ورموزه. يهدف هذا الأمر في جوهره العميق إلى موضوع إعادة كتابة التاريخ، فحين يعود المؤرخ بعد عقود لقراءة الخرائط والصور سيجد قصة أخرى جاهزة أمامه، قصة كتبها المنتصر، بينما يبقى المهزوم في الهامش، في الحكايات الشفوية، وفي نبرة الحنين المعزولة عن الواقع. 

حدث كثير من هذا في العراق، في الموصل بشكل خاص، عندما قامت أمريكا باحتلاله في عام 2003. عملت أمريكا حينها على سرقة المتاحف وحرقها وتدميرها وهدمت قرى عراقية عريقة جدا ومساجد قديمة. ورغم أن العراقيين تنبهوا مبكرا لهذا الأمر وإلا ما كان سيبقى من تاريخ العراق شيء اليوم. 

حدث مثل هذا في سوريا، بنفس الطريقة والنهج سواء للمتاحف أو للمدن القديمة التي ما كانت عبارة عن متاحف مفتوحة في الهواء الطلق كما هو حال تدمر، وفي حلب وحمص. وحدث في مدن اليمن التاريخية وفي الخرطوم ومتاحفها وحدث في ليبيا.. وكاد أن يحدث في مصر بشكل كارثي. 

لكن فلسطين تقدّم المثال الأكثر اكتمالا لهذه السياسة. من يعود إلى أدبيات النكبة وتفاصيلها سيجدها تتجاوز فكرة التهجر وسلب الأرض.. سيجدها مشروعا منظما وفق منهج ورؤية واضحة لمحو علامات الوجود الفلسطيني! وإلا كيف نقرأ اليوم تسوية مئات القرى بالأرض، وكيف نقرأ استبدال أسماء المناطق بأسماء عبرية، وتغطية الحقول الزراعية بغابات مصطنعة، ونهب الأرشيف وهدم البيوت ونهبها وتحويلها إلى متاحف للمحتل. كل هذا هندسة استعمارية تستهدف الذاكرة بحيث يظهر المكان بعد جيل أو اثنين وكأنه كان دائما على الصورة التي يراها الزائر الآن. 

ما حدث ويحدث في غزة هو استكمال راديكالي لهذه السياسة. استهدفت الحرب إضافة إلى البشر كل الجامعات ومراكز الأبحاث، والمكتبات العامة، والمتاحف الكبيرة والصغيرة حتى تلك التي أنشأ الأفراد وكذلك الأحياء القديمة التي حملت جزءا من ذاكرة المدينة، وكذلك بيوت العائلات التي كانت تحتفظ بوثائق وصور ومخطوطات توثق تاريخ هذه العائلات وتاريخ فلسطين وغزة. حولت هذه السياسة غزة إلى ركام لكن أيضا بلا أرشيف مدني ولا ذاكرة ولا وثائق، والآن يريد مشروع ترامب للسلام بناء سرديات جديدة وذهنيات مختلفة! 

لكن الذاكرة لا تقتلها الحروب وحدها.. في الكثير من المدن العربية قتلت الذاكرة بشكل أخذ مسارا تحديثيا. محى التطوير مئات الأحياء القديمة وبنى على أنقاضها أبراجا عالية ومجمعات تجارية تحمل صبغة غربية. ولم تكلف تلك البلدان نفسها قبل أن تصنع «التغيير» على توثيق الحياة التي مرت من هناك. وقبل أن يظهر العصر الإلكتروني تخلصت الكثير من البلدان من سجلات ضخمة من المخاطبات والعقود وأحرقت بحجة ضيق المكان وعدم توفر المخازن. هذا الموضوع قتل جزءا كبيرا من الذاكرة بقصد أو بدون قصد. 

طور القانون الدولي في السنوات الأخيرة فكرة «الحق في الحقيقة» وهو يعني أن للضحايا وللمجتمعات حقا غير قابل للمساومة في معرفة ما جرى، من أصدر الأوامر، ومن نفّذ، وأين اختفى المفقودون، وكيف يمكن أن تبنى رواية موثقة للماضي. هذا أحد شروط العدالة الانتقالية. لكن لا أحد يضمن تطبيق مثل هذه القوانين عندما تتعارض مع مسارات الدول الكبرى، كما هو الحال في عدم تطبيق القوانين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وعموما القضايا العربية والإسلامية. من جهة أخرى فإن معرفة ما جرى وكيف جرى لن ترجع ذاكرة الأمم والشعوب، لن ترجع شريط ذكرياتهم العائلية ومفردات طفولتهم. 

المفارقة أن المستعمر يعرف قيمة الذاكرة أكثر مما نعرفها نحن أحيانًا. لهذا يفتشون في الأرشيفات العثمانية والبريطانية، وفي سجلات الأراضي، وفي وثائق القرون السابقة، لإعادة تأويلها لصالحهم، بينما يظل كثير من الأرشيفات الوطنية العربية حبيسة صناديق مهملة لا يعرف عنها الرأي العام شيئا هذا إذا لم يكن قد تم تدميرها وحرقها! 

في مواجهة هذا الواقع، تصبح مهام المؤرخ والكاتب والفنان أكبر بكثير من إنتاج كتاب أو رواية أو فيلم. عمله يتحوّل إلى شكل من أشكال المقاومة ضد قتل الذاكرة. المؤرخ الذي يقرأ الوثائق ضد خطابها الرسمي، ويستعيد صوت الضحايا من هوامش التقارير، يمارس دورا يشبه دور من ينقذ وثائق من حريق. الروائي الذي يصرّ على تسمية القرى بأسمائها الحقيقية، وعلى وضع الوجوه والأماكن في سياقها، يحفر مجرى للذاكرة داخل عالم يحاول أن يدفع كل شيء إلى النسيان. 

لكن هذه المقاومة الفردية لا تكفي وحدها. نحتاج إلى ما يمكن تسميته «سيادة على الذاكرة»، كما نتحدث عن سيادة على الأرض. سيادة تعني وجود مؤسسات تحفظ الأرشيف وتفتحه. 

حين ننظر إلى أطفال غزة اليوم، وإلى أطفال مدن عربية أخرى نجوا من جحيم الحرب لكنهم يحملون في ذاكرتهم صورا لا تُحتمل، يجب أن نسأل أنفسنا: أي ذاكرة سنتركها لهم؟ هل سنتركهم أسرى لصور متفرقة على هواتفهم، بلا سياق ولا أسماء ولا خرائط، أم سنساعدهم على بناء سردية متماسكة عن أنفسهم وعن ما جرى؟ قتل الذاكرة مشروع طويل النفس. ومواجهته تحتاج إلى نفس أطول. لكن هذه معركة ليست سهلة خاصة وأن وراءها قوى عالمية كبرى هدفها تدمير الحضارة العربية والإسلامية.. لكن أيضا لا يمكن ترك الأمور دون جهود تمنع وقوعها قبل أن تبدأ في حمايتها وانتشالها من تحت الركام. 

عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عُمان 

مقالات مشابهة

  • خبير سياسي: اليابان لم تعد لاعبًا سلميًا ونهجها العسكري قد يشعل صراعًا عالميًا
  • عبدالله آل حامد: الثاني من ديسمبر نقطة تحول تاريخية شهدت بزوغ دولة فتية تصدرت مؤشرات التنافسية العالمية
  • اختتام فعاليات النسخة الثانية من سباق البحر الأحمر للمراكب الشراعية
  • روبيو: مباحثات جديدة حول أوكرانيا ووفد أمريكي يستعد لزيارة موسكو
  • التقنيات الخضراء والمعدات الذكية تحول متسارع لقطاع التعدين في الصين
  • الصين تحذر اليابان: «سنسحق أي محاولات أجنبية للتدخل في شؤون تايوان»
  • هل أشعلت اليابان للتو فتيل الحرب العالمية الثالثة؟
  • اليابان: إيصال المساعدات للسودان يواجه تحديات بسبب الوضع الأمني
  • الحرب العالمية لقتل الذاكرة