(1)
لا أعلم على وجه الدقة متى سمعت بهذا الكتاب! لكني أتذكر جيدا أنه لم يكن كغيره من الكتب التي ربطتني بها صلة وثيقة؛ إما لقيمتها وقيمة مؤلفها في المقام الأول وإما لفرادتها وشمولها وتغطيتها مساحة واسعة جدا من مجالها المعرفي لم تترك فيه شاردة ولا واردة لم تغطها أو تتعرض لها!
لأحاول أن أضرب مثالًا على ما أقول، قبل الخوض في الحديث عن كتاب حلقة هذا الأسبوع من (مرفأ قراءة):
مثلًا موسوعة (تاريخ الأدب العربي) في عشرة أجزاء كبار التي أنجزها عميد مؤرخي الأدب العربي في القرن العشرين؛ تلميذ طه حسين، الدكتور شوقي ضيف.
ربما كان هذا هو النموذج الأبرز والأنصع للأعمال الأكاديمية الكبرى ذات المرجعية، وذات القيمة وذات الوزن الثقيل!
بهذا المنطق وبهذه الرغبة المحمومة في إنجاز تاريخ كامل وشامل ومستقص للنقد الأدبي (هذه المرة) في التراث العربي، تصدى تلميذ شوقي ضيف النجيب؛ المرحوم الدكتور إحسان عباس إلى القيام بهذه المهمة وقد أداها على خير وجه وأكمله وأحسنه! وأنا أكتب هذه السطور بعد ما يزيد على ربع القرن من تعرفي الأول على كتابه المذهل (تاريخ النقد الأدبي عند العرب) الذي ما زلت أحمل له عظيم الامتنان وعظيم الشكر ووافر الاعتراف بما أسداه إلي من خير وفير ومعرفة غزيرة وتأسيس منهجي وتاريخي ما زلت أقف منه على أرض صلبة واثقة بتاريخنا العربي وتراثنا النقدي منه بالأخص وتفريعا على مجالات وحقول أخرى تيسر لنا منها معرفة لا بأس بها!
(2)
«تاريخ النقد الأدبي عند العرب»؛ لإحسان عباس. لا يزال هذا الكتاب أهم ما كُتب في أي لغة عن تاريخ النقد العربي، بكل ما تعنيه من استقصاء وشمول وعودة للنصوص والمصادر. يقول أستاذنا الدكتور رضوان السيد عنه «وقد استخدم عباس في كتابته عشرات الكتب المخطوطة، ومئات الكتب والرسائل المطبوعة. وهذه المصادر التراثية كلها استعان بها، ثم عمد إلى تحقيق بعضها، وإلى تصحيح أو نقد نشرات البعض الآخر إذا رأى الاكتفاء بذلك. لكنه لا يعود إلى النصوص النقدية مثل الآمدي أو الجرجاني، أو إلى دواوين الشعر ومجموعاته فحسب، بل يرجع أيضاً -مستعينا بثقافته الموسوعية- إلى المقتبسات والعبارات ذات المنحى النقدي في الكتب الأُخرى المطبوعة أو المخطوطة، من مثل رسائل الجاحظ وأبي حيان التوحيدي أو ابن أبي الإصبع المصري أو حازم القرطاجنّي أو فن الشعر لأرسطو، في النص الذي نشره شكري عياد للترجمة القديمة، أو في ترجمته هو له عن الإنجليزية.. إلخ».
ولعل هذه العبارة المكثفة في حاجة إلى شرح وتفصيل، ذلك أن جهد الدكتور إحسان عباس في هذا الكتاب/ الموسوعي/ المرجعي/ يتجاوز بكثير جهد الجمع والاستقصاء بل يتعداه إلى جهد التصنيف والتبويب والتخطيط (رأسيا وأفقيا) بطريقة تُعجز فعلا من يحاول التفكير في مشروع مشابه؛ ولا أظن أن هناك في تاريخ التأليف باللغة العربية في نصف القرن المنصرم مشروعًا لتأريخ النقد العربي القديم قد جاوز أو تخطى ناهيك على التفوق على مشروع الدكتور إحسان عباس.
فلنفصل القول إذن في قيمة هذا المشروع غير المسبوق في تاريخ الثقافة العربية، وتاريخ التراث العربي، وفي القلب تاريخ الدراسات الأدبية والنقدية عند العرب..
(3)
يوضح الدكتور إحسان في مقدمته أنه سعى لتقديم صورة كاملة ودقيقة وشاملة عن (النقد الأدبي عند العرب)، محددو زمنيا منذ أواخر القرن الثاني الهجري وحتى القرن الثامن، أو من الفترة الممتدة بين الأصمعي الراوية واللغوي القح، وابن خلدون مؤسس علم الاجتماع وآخر مفكر عربي أصيل ختمت به ومضة الإشعاع الحضاري والثقافي العربي والإسلامي في القرون الوسطى.
وقد اتبع الدكتور إحسان عباس فيها منهج التدرج الزمني؛ لأنه يعين على تمثل النقد في صورة حركة «متطورة»، بين مد وجزر أو ارتفاع وهبوط، على مر السنين. وقد عمد إلى الوقوف عند القضايا الكبرى، معرضًا عن جزئيات الأمور التي تصرف الدارس عن إبراز الدور «الفكري» للنقاد العرب، وتنشبه في الأخذ والرد حول الأمور الجانبية، وتورطه في شبكة معقدة من القواعد البلاغية.
يقول الدكتور إحسان «وإذ كان همي منصرفًا إلى إقامة كيان للنقد الأدبي عند العرب، كان لا بد لي من الاستقصاء في المصادر، المطبوع منها والمخطوط على السواء. والاحتكام إلى أساسٍ شمولي في النظرة الكلية إلى ذلك الكيان، ولهذا السبب لم أقصر الرؤية على مَن عرفوا بالنقد التطبيقي؛ مثل الآمدي، والقاضي الجرجاني، وابن الأثير، بل درست من كان لهم نشاط نظري في النقد؛ مثل الفارابي، وابن سينا، وابن خلدون، محاولًا في كل خطوة أن أوجد -حتى عند النقاد التطبيقيين- الأسس النظرية الفكرية التي كانت توجه النقد لدى كل منهم، وبغير هذا التصور -فيما أعتقد- تظل دراسة النقد الأدبي، عند العرب، وصفا سطحيا أو تلخيصا مبتسرًا للآثار التي خلفوها».
في رأيي كانت هذه الفكرة «الثورية» في إعادة ترسيم حدود النقد الأدبي عند العرب، بتوسيع حدود المادة وعدم الاقتصار على كتب النقد الخالصة أو مقدمات الدواوين الشعرية إن وجدت، أو غيرها بل أيضا الاتجاه إلى كتب النقد النظري وكتب الدراسات اللغوية والبلاغية والتفسير والفقه وأصوله.. إلخ.
وقد كان يحدو الدكتور إحسان إلى هذا العمل الشاهق الضخم -الذي استغرق منه سنوات طوالا- شعورا بأن النقد عند العرب في حاجة إلى استئناف في النظر والتقييم، وقد قرأ ما كتب عنه من مؤلفات حديثة، وإحساسه وهو يقرأ هذه الكتب النقدية المختلفة التي كتبها الأسلاف، أن فيها ما يستحق بذل الجهد ليعرض ذلك النقد بأمانة وإنصاف.
يقول: «وأحب أن أقرر هنا، أن النقد لا يقاس دائمًا بمقياس الصحة أو الملاءمة للتطبيق، وإنما يقاس بمدى التكامل في منهج صاحبه؛ فمنهج مثل الذي وضعه ابن طباطبا أو قدامة، قد يكون مؤسسا على الخطأ في تقييم الشعر -حسب نظراتنا اليوم- ولكنه جدير بالتقدير لأنه يرسم أبعاد موقف فكري غير مختل، وعن هذا الموقف الفكري يبحث دارس تاريخ النقد، ليدرك الجدية والجدة لدى صاحبه في تاريخ الأفكار. ولهذا تركت هؤلاء النقاد يتحدثون عن مواقفهم بلغتهم في أكثر الأحيان، ولم أحاول أن أترجم ما قالوه إلى لغة نقدية معاصرة، إلا في حالات قليلة جدًا حين تستغلق العبارة على القارئ المعاصر، كما هي الحال في نقد حازم القرطاجني».
(4)
التزم الدكتور إحسان التزاما تاما بحدود المنهج الذي رسمه، وهو «منهج» استقصائي مسحي، يمكن القارئ بعد أن يقرأ مادة الكتاب من أن يعيد بناء كثير من الجزئيات والقضايا المفردة على نحو جديد، وقد بين ذلك في المقدمة؛ يقول: «فإني إنما جعلتها نموذجاً للبحوث المستقلة في مشكلاتٍ بأعيانها؛ مثل:
أثر الاعتزال في نشأة النقد الأدبي وتطوره - شخصية الناقد كما تصورنا النقاد العرب- أثر الإحساس بالتطور وقيمته لدى كبار النقاد- طبيعة المشكلات التي وجهت النقد- كيفية دراسة القضايا المهمة في تاريخ النقد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تاریخ النقد فی تاریخ
إقرأ أيضاً:
النقد بلا رد
دانيال حنفي
القاهرة (زمان التركية)- لماذا نهتم بالتعليق على كل نقد يختلف معنا أو لا يعجبنا؟ ولماذا لا نترك هذا النقد الذي لا يعجبنا يروح إلى حال سبيله، دون أن نستثمر فيه طاقة كبيرة سلبية، لا مبرر لها، ولا ناتج منها سوى الإساءة إلى الصورة العامة؟
إن النقد البنّاء لا عيب فيه – بصرف النظر عن وجهته أو موضوعه محلّ الاهتمام – إذ لا يمكن لإنسان أو جهة ما أن تتقن كل شيء، أو أن تصل إلى الكمال. ولا يمكن لإنسان أن ينجح في كل شيء. فالأصل في النقد ليس هو التجريح – بفرض حسن النيّة طبعًا – وإنما محاولة المشاركة في الرؤية، والمساعدة في الحل، وفي تحقيق التحرك الجماعي نحو الأمام.
والتحرك نحو الأمام هو مسؤولية الجميع، ومسؤولية جميع مكونات الدولة، وليس مسؤولية مكون واحد، أو فرد واحد، أو جهة وحيدة. لأن التفرّد بالعمل الجماعي وبالمسؤولية الجماعية ظلم للنفس قبل أن يكون ظلمًا للأطراف أو للمكونات المستبعدة من المشاركة في الرؤية أو للمجتمع، لأنه يحمّل الإنسان فوق طاقته من المسؤوليات.
لا أحد يعيش للأبد، ولا يوجد من يملك كل زوايا المشهد في كل وقت وفي كل حين. والناس، كلٌّ يرى الأمور بلون مختلف ومن زاويته؛ ولذلك، تظلّ هناك آراء مختلفة وآراء معارضة دائمًا، وفي كل الأحوال تقريبًا.
وليست الآراء المعارضة أو الناقدة على حق في كل الأحوال، ولكن الأمر لا يتعلق بصواب الرأي أو خطئه، وإنما يتعلق برغبة الناس في التعبير عن آرائهم أو قناعاتهم. فقناعات الناس تعني – بالنسبة إليهم – شيئًا من القيمة، حتى ولو كانت في الحقيقة غير ذات جدوى ولا تستحق النظر مطلقًا.
فهكذا هم الناس في كل بلاد الدنيا: البعض ذو شأن، والبعض بسيط لكنه ذو رأي وذو لسان. والكثيرون ذوو عقل، والبعض لا يتمتعون إلا بقليل من العقل والحكمة، ولكنهم يصرّون على التحدث، وعلى الزجّ بأنفسهم فيما لا يفقهون فيه، بزعم ممارسة حقوقهم في التعبير عن الرأي.
والحياة لا تنتظر المشتغلين بالشجار والاختلاف في طريقها إلى الأمام، وإنما تواصل مسيرتها في هدوء ورزانة، برفقة الأشخاص المشتغلين بالعمل، والتفاهم، والتعاون، وتقدير الحياة والوقت.
وقد كانت الثورات، والحروب، والانقلابات، والمآزق الكبرى بسبب الكبت، وبسبب القهر والتسلّط الذي تراكم لينفجر في لحظة ما دون حدود تردعه أو تلجمه. ولم تكن الأزمات والنكبات بسبب حرية الرأي، أو مشاركة الناس، أو نقدهم لقرار ما، أو لسياسة ما في محيطهم.
فالمنع، والهجوم اللاذع، وتوجيه الإهانات لأحد، هي تجسيد لاهتمام زائد من ناحية، ومن ناحية أخرى تستفزّ غضب الكثيرين بلا داعٍ، حتى أولئك الذين لا يهتمون عادةً بشيء مما يدور حولهم، سوى ما يعنيهم بصفة خاصة ولصيقة.
⸻