كيف يستعد المغاربة لـالعيد الكبير دون أضحية؟.. بيع في الخفاء وارتفاع بالأسعار
تاريخ النشر: 30th, May 2025 GMT
في ساعة متأخّرة من يوم أمس الخميس، داهمت السلطات المحلّية، محلاّ يبيع أضحية العيد، بقلب أحد الأحياء الشعبية المُتواجدة بمدينة الدار البيضاء، في المغرب؛ مشهد وصفه عدّة مغاربة بـ"الغريب والمُبالغ فيه"، فيما اعتبره آخرين: "منطقيا"، عقب القرار الملكي القاضي بعدم ذبح الأضاحي.
ارتباك المغاربة في الاستعداد لعيد الأضحى هذه السنة، بات جليّا؛ إذ خفّت مشاهد بيع لوازم العيد من الفحم والتبن، وشحذ السكاكين.
"عربي21" خلال جولة في عدد من الأسواق الكبرى، والمحلّية، رصدت التحوّل الذي حصل خلال الساعات القليلة الماضية، إذ بعد مشاهد توحي بطبيعة الاستعداد الطبيعي لعيد الأضحى، خفّت الأجواء فجأة، مع بروز للسلطات في الواجهة.
ما الذي يجري؟
"القرار الملكي أتى رحمة بجيوبنا التي اكتوت بنار الغلاء، لكن عدد من المغاربة جعلوا الأسواق تلتهب أكثر، جرّاء إقبالهم غير الطبيعي لشراء الأضحية، سواء في العلن أو في الخفاء" هكذا قالت سميرة، وهي أم لثلاثة أطفال.
وتابعت سميرة في حديثها لـ"عربي21" بالقول: "منذ صدور القرار وأنا أقنع أطفالي أن للعيد شعائر عظيمة، ولو لم نشتري الكبش؛ وأن القرار أتى لصالحنا وجرّاء الجفاف الذي اجتاح البلاد لسنوات"، مردفة: "لكن منذ يومين، وجرّاء تهافت جل من أعرف للشراء، أصبحت حائرة في أمري، هل سأضطرّ للاقتراض من أجل الكبش؟".
مُواطنين مغاربة، كُثر تحدّثوا لـ"عربي21" عن استثنائية استعداداتهم لعيد الأضحى هذا العام، بين من اعترف بشرائه للأضحية قبل أشهر للعيد في قلب مناطق قروية خارج المُدن الكبرى، وبين من اكتفى بشراء اللحم والحرص على الاستعداد النفسي لأجواء العيد رفقة العائلة، دون ذبح، وبين من احتار به الأمر، إثر ما شاهده من تهافت للمغاربة على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة Jaber HD (@jaber_hd90)
تعليمات صارمة..
بمُجرّد اقتراب عيد الأضحى في المغرب (السبت)، عاشت مجموعة من المتاجر الكبرى، على إيقاع تعليمات "صارمة" وجّهت لإدارات هذه الفضاءات التجارية، تقضي بسحب لحوم الغنم ومشتقاتها، بشكل كامل، من رفوف البيع. ما أثار موجة من التساؤلات لدى المواطنين.
أيضا، أصدرت ولاية جهة طنجة تطوان الحسيمة، قرارات لمنع كافة مظاهر الاحتفال بعيد الأضحى، في خطوة تنظيمية لافتة، طالبت خلالها تجار المواشي، وخصوصا بائعي الأغنام، بإخلاء الأسواق، حتى إشعار آخر، وذلك في سياق تنفيذ توجيهات وطنية تتعلق بعيد الأضحى.
توجّه السلطات المحلية، قضت به بشكل مُتسارع، باقي مُدن وأقاليم المملكة، من أجل الحد من بعض مظاهر الاحتفال بالشعيرة، تنفيذا لتوصيات قيل إنها قد صدرت عقب الرسالة الملكية الموجهة إلى الشعب المغربي، والتي دعا فيها الملك محمد السادس إلى عدم ذبح الأضاحي هذه السنة.
ساعات قليلة قبل هذه التعليمات، تجوّلت "عربي21" في عدد من الأسواق، فلاحظت ارتفاع فُجائي في أسعار اللحوم، ما كان قد ضاعف من قلق الأسر المغربية، بالتّزامن مع أنباء كانت تتداول، بخصوص أن السلطات ستتّخد إجراءات صارمة لمنع ذبح الأضاحي هذا العام. كل هذه الأحداث المُتسارعة، جرت، في غياب تواصل مُباشر للجهات المختصّة مع المواطنين.
وكان القرار الملكي قد أتى، إثر ما وُصف بـ"سياق استثنائي" تراعي فيه الدولة لتداعيات الظروف الاقتصادية والمناخية الرّاهنة؛ فيما أجمع متتبعو الشأن الديني بالمغرب على أنّ: "القرار يعكس حسّ الملك بالمسؤولية الاجتماعية، وحرصه على تخفيف الأعباء على المُواطنين، دون المساس بجوهر الشعيرة".
حماية المستهلك على الخط
أمام الوضع المُعاش في المغرب، خلال الأيام الراهنة التي تسبق حلول يوم عيد الأضحى، ارتفعت حدّة الانتقادات الموجّهة من جمعيات حماية المستهلك، للتّحذير من: "استغلال بعض التجار والموزعين للطلب الموسمي المتزايد على اللحوم ومكونات "الدوارة" (أحشاء الذبيحة) للترويج لمنتجاتهم بأسعار مبالغ فيها".
وأوضحت جمعيات حماية المستهلك في المغرب أنّ: "هناك استغلالا واضحا للمناسبات الاجتماعية، مثل العقيقة وعيد الأضحى، لرفع الأسعار دون مراعاة للتوجيهات الرسمية الرامية إلى استقرار السوق وضمان توازن الأسعار".
وتابعت: "لا تقتصر أسباب هذا الارتفاع على المضاربة وحدها، فالإقبال المكثف والمفاجئ للمواطنين على اقتناء اللحوم خلال فترة قصيرة، سواء لأغراض عيد الأضحى أو لمناسبات خاصة (مثل العقيقة)، يُساهم بدوره في ارتفاع منسوب الطلب بشكل غير مسبوق، وهذا الارتفاع المفاجئ في الطلب يُحدث اختلالا واضحا بين العرض والطلب في السوق".
وفي حديثه لـ"عربي21" قال الباحث في علم النفس وقضايا الأسرة، محمد حبيب، إنّ: "المغرب يشهد هذا العام تهافتا واسعا على اقتناء الأضاحي بسرية وتحايل "العقيقة"، بل وحتّى على مكونات ثانوية مثل "الدوارة" التي ارتفع ثمنها إلى 600 (60 دولارا) درهم بعدما كانت لا تتجاوز 200 (20 دولارا) درهم".
وأوضح حبيب: "رغم السياق الاقتصادي الصعب، ورغم الخطاب الملكي السامي الذي دعا بوضوح إلى تأجيل قيام الشعيرة ومراعاة الظروف الراهنة. المفارقة أن نفس المجتمع الذي اشتكى قبل أشهر قليلة من غلاء الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، هو نفسه من دخل في سباق محموم للحفاظ على طقوس عيد الأضحى، وكأن الأمر يتعلق بهوية مهددة أو كرامة موضوعة على المحك".
"لفهم هذا السلوك، يجب تجاوز التفسيرات الاقتصادية البسيطة. فالمسألة ليست فقط عنادا جماعيا أو جهلا بأولويات المرحلة، بل هي تعبير عن قلق نفسي جماعي، وخوف من فقدان الرمزية التي يمثلها العيد في المخيال الجماعي" بحسب الباحث في علم النفس وقضايا الأسرة.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة Jaber HD (@jaber_hd90)
وتابع: "فالأضحية، بالنسبة للغالبية، ليست فقط شعيرة دينية، بل هي مناسبة ذات طابع وجداني واجتماعي عميق، تُستحضر فيها صور الطفولة، والعائلة، والدفء، والانتماء. وبالتالي، التخلّي عنها أو تأجيلها يُشعر البعض بأنه انسلاخ عن الذات، عن الذاكرة، وعن: السرب".
وأكد حبيب لـ"عربي21": "من هنا نفهم كيف تتحول السنة المؤكدة إلى واجب اجتماعي، وكيف يصبح المظهر أهم من المضمون. فالعيد صار عرضا اجتماعيا لا يمكن تغييب مشاهده: الخروف، النار، الشواء، الصور على مواقع التواصل. هذه الطقوس تعاش كوسيلة لحماية الكرامة الاجتماعية، وليس فقط تقربا إلى الله".
وختم بالقول: "لهذا، لا يهم إن كانت الوسائل مكلفة أو مرهقة، المهم هو عدم الغياب عن المشهد العام، ولو تطلب الأمر الاستدانة أو بيع الممتلكات" مستدركا: "ارتفاع أثمنة الدوارة (أحشاء الكبش)، بدوره، يفصح عن تحول آخر: الربط بين العيد والطعام لا بالشريعة. فالمواطن بات يقيس العيد بما يطهى، لا بما يؤدى من شعائر".
واستطرد: "هذا يعكس سيطرة ثقافة الاستهلاك على المعنى، وتحول المناسبة الدينية إلى طقس غذائي- اجتماعي مركزي، حيث يشتد الطلب على الرأس، الكرشة، الدوارة، دون أي نقاش حول مغزى ذلك من الناحية الدينية أو القيمية".
تفاعل متسارع..
رجّت مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب، بعدد المنشورات حول أسعار اللحوم في عدد من الأسواق المغربية، مع استفسارات عن مدى قانونيتها، وتداعياتها المباشرة على القدرة الشرائية للمواطنين؛ فضلا عن صور ومقاطع فيديو لمداهمات السلطات لمحلات بيع الأضحية.
وتفاعلا مع ما يجري، أكّد وزير الدولة المغربية السابق المكلف بحقوق الإنسان، المصطفى الرميد، أنّ القرار الملكي، قد أتى: "بعد تفكير ملي، وتردد جلي، واستشارة واسعة".
وأوضح الرميد، عبر منشور مطول على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "ذلك أنّه يعرف حق المعرفة، أن الأمر يتعلق بشعيرة مستحبة، أصبحت مع مرور الزمان عادة متمكنة مستحكمة، ويعرف أن هذه الدعوة بقدر ما سيتسحسنها الكثيرون، سيقول بشأنها البعض ما سيقولون !!!".
"لكن واجب رفع الحرج عن الناس، ودفع الضرر عنهم، من منطلق ما تقرره الشريعة الغراء، من واجب جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، امتثالا لقول الله تعالى (وماجعل عليكم في الدين من حرج)، دفعه إلى دعوة شعبه إلى ما دعاه إليه" تابع الوزير المغربي السابق.
وأضاف: "من المعلوم، أن توالي سنوات الجفاف على المغرب، أدّى إلى نقصان كبير في أعداد قطيع الماشية، مما أدى إلى ارتفاع أثمان اللحوم"، مردفا: "من المعلوم أيضا، أن الحكومة فشلت في السنة الماضية في توفير الأضاحي لتخفيف أزمة غلائها، مع كل الدعم المالي الكبير، الذي استفادت منه القلة القلية بدون عائد واضح على أثمانها".
وتابع: "معلوم أنه لو لم يقدم الملك على ما أقدم عليه من الدعوة إلى عدم الإقدام على شعيرة الذبح يوم العيد، لتسابق الناس في شراء الأكباش، ولتفاحشت أثمانها، ولتضرر الفقراء والمساكين، وتقلبوا في مضاجعهم حسرة وألما، خاصة منهم ذووا الأبناء الصغار"، مسترسلا: "من المعلوم أيضا، أن عدد رؤوس الماشية التي تذبح يوم العيد، تتراوح بين خمسة إلى ستة ملايين راسا من الغنم؛ ولنا أن نتصور المستوى الذي كان سيؤول إليه ثمن اللحم بعد عيد الأضحى، وهو الذي كان قد بلغ مائة وخمسين درهما للكيلو الواحد، قبل يوم26 فبراير، تاريخ الرسالة الملكية!!!".
"قرّر فقهاؤنا أنّ الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة، وكما يقرر الناس في شأن ضروراتهم الخاصة، بعد استفتاء العلماء، فإن من واجب ملك البلاد أن يقرر بشأن الحاجة العامة التي تهم البلاد والعباد، بعد استحضار معطيات التراجع الواضح في أعداد قطيع الماشية، واستيفاء الرأي الشرعي اللازم في مثل هذه الأحوال" بحسب الرميد.
وأردف: "لذلك، فإن من واجب الناس، كل الناس، احترام التوجيه الملكي، خاصة وأن الدولة حريصة على الحرص على استيفاء كل سنن العيد ومظاهره، ما عدا الذبح الذي سينوب بشأنه الملك أمير المؤمنين عن كافة المواطنين".
وأورد: "كما على عباد (الدوارة)، الذين يذبحون على سبيل العادة لا العبادة، أن يعلموا أن الذبح يوم العيد على خلاف عموم الناس، هو إلحاق الأذى بالجيران، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره)".
وختم الرميد، منشوره الذي حظي بتفاعل واسع، بالقول: " ليعلم من يقدم على الذبح في هذه الظروف، أنه مواطن سيء، وأن تدينه مغشوش، بل إنه مريض يحتاج إلى علاج، شفاه الله وغفر له".
إلى ذلك، توالت التعليقات، والمنشورات بخصوص إقدام بعض المغاربة على التهافت على الأسواق، في مقابل عزم السلطات على الحد من مظاهر الاستعداد للدبح السرّي أو لبيع الأضحية في الأسواق. بينهم الأمين العام للحزب المغربي الحر، إسحاق شارية، الذي وصف الحكومة بكونها: خانت ثقة الشعب والملك.
وتابع شارية، عبر منشور على مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "في الوقت الذي أعطى جلالته تعليماته وتوجيهاته بإلغاء شعيرة عيد الأضحى حماية للقطيع الوطني ومساهمة في إعادة إنتاجه.. كان على الحكومة العمل على تنزيل القرارات الملكية من خلال مراسيم تمنع شراء الأكباش خلال هذه الفترة".
"وتمنع الجزارة من بيع لحومها وبطونها تحت طائلة غرامات أو عقوبات" أضاف شارية، مردفا: "عمدت حكومة عزيز أخنوش إلى ما يشبه تحدّ سافر للقرار الملكي أو تبخيس غير مباشر من خلال امتناعها عن تنزيل قراراته ومواكبة احترامها بأي مرسوم أو قرار حكومي رادع حماية منها للشناقة وكبار المربين من أصحاب الحمامة والمستفيدين من الريع".
واسترسل: "قامت بما يمكن تشبيهه بعملية تدليسية هدفها الانتقام من نزع كعكة أموال الفلاحة من عزيز أخنوش، بل والسعي إلى مزيد من النزيف والاستنزاف للثروة الحيوانية، وما إطلاق يد الجزارة والناس لشراء كبش العيد.. إلا رسالة واضحة مفادها أن الحكومة تخيّر الجميع من أعلى سلطة حتى آخر مواطن بين بقائها وبين الجوع، وأنها مستمرة في سياساتها الاستنزافية..".
وبالعودة إلى الباحث في علم النفس وقضايا الأسرة، محمد حبيب، فإنّه: "على المستوى السياسي- التواصلي، فقد شكّل الخطاب الملكي خطوة مهمة في توجيه الرأي العام، لكنه لم يواكب بحملات إعلامية ودينية كافية لتأطير القرار وخلق تعبئة مجتمعية حقيقية".
وأكّد في حديثه لـ"عربي21" أنّ: "المجتمع، دون مواكبة تواصلية فعالة، قد يقرأ الرسالة بطريقة خاطئة، نقاش عقيم حول مصطلح "يهيب" ويحوّل التوجيه إلى منع، والمنع إلى تهديد، ما يولد مقاومة رمزية تعبر عن ذاتها بالتهافت بدل الالتزام".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية المغرب المغاربة عيد الأضحى المغرب عيد الأضحى المغاربة الغاء العيد المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التواصل الاجتماعی القرار الملکی مواقع التواصل عید الأضحى فی المغرب على الم بین من عدد من
إقرأ أيضاً:
القدس في وجدان المغاربة.. من حارة التاريخ إلى ضمير الأمة.. كتاب جديد
كتاب: المغاربة والمسجد الأٌقصى صلات أصيلة، وعطاء ممتدالكاتب: حماد القباج وعبد المجيد أيت عبو
الناشر: مكتبة وما يسطرون
الطبعة الأولى: 2025
عدد الصفحات: 540
وقائع تاريخ بيت المقدس تثبت وجود صلات عميقة بين المغاربة والمسجد الأقصى سواء في التاريخ العام الذي يهم فلسطين والقدس والخليل، أو في التاريخ الخاص الذي يستعرض الأوقاف أو المدارس التعليمية أو الأبنية في القدس، وتحتفظ حارة المغاربة وباب المغاربة برمزية تاريخية كبيرة، تشهد على دور المغاربة في تعمير بين المقدس والدفاع عنه.
لكن هذه الرمزية التاريخية التي تشهد للمغاربة بشرف خدمة المسجد الأقصى، بقدر ما تجلي أدوراهم التاريخية وواجبهم اتجاه المسجد ألأقصى، بقدر ما تختصر هذه الجهود وتغطي على جهود أخرى، لا يعرفها إلا الباحثون المطلعون على الحقائق التاريخية لصلة الغاربة بالمسجد الأقصى والعطاء الممتد في التاريخ الذي قدموه لبيت المقدس.
وقد قام عدد من الباحثين والمؤرخين المغاربة والمشارقة والأجانب بجهود بحثية مهمة تكشف جوانب من هذا العطاء الذي بقي مغمورا في الكتب، منهم الدكتور المؤرخ نظمي الجعبة الذي كتب عن " المغاربة في بيت المقدس ظهر سنة 2021، وقد سبقه المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي الذي كشف جانبا من صلة المغاربة ببيت المقدس عبر بوابة الرحلة، فكتب كتابه:" القدس والخليل في الرحلات المغربية"، وكان قد قدم في سنة 2009، جملة وثائق قانونية وتاريخية لملتقى القدس الدولي برعاية جلالة الملك محمد السادس، وبتعاون بين مؤسسة ياسر عرفات ووكالة بيت مال القدس الشريف، حول المغاربة والقدس، وقدم وثائق أخرى عن أوقاف المغاربة بالقدس الشريف سنة 1981، وكتب الدكتور عبد الرحمان المغربي أطروحته حول طائفة المغاربة بالقدس، بجامعة عين شمس سنة 2000، وغطت إسهامات أخرى أدوار المغاربة ببيت المقدس، خاصة في مجال التعليم والبناء والتجهيز والعمل الخيري والإحساني، ولم يكن نصيب المغاربة من إظهار أفضال أجدادهم هو الأبرز، بل غطى المؤرخون المشارقة والغربيون هذه الافضال في جملة كتاباتهم العامة، التي تناولت تاريخ بيت المقدس والخليل، أو غطت بالبحث والدراسة الأوقاف الإسلامية، أو المدارس الإسلامية بالقدس الشريف.
لقد كان قصد الشيخ حماد القباج من هذا الكتاب في سياق تطبيعي وتوقيع اتفاقات إبراهيمية، تداعت فيه أقلام مغرضة للتشكيك في المغاربة وعلاقتهم بالقضية الفلسطينية، أن يثبت الصلات الوجدانية العميقة بين المغاربة وبيت المقدس، وأنها ليست مبنية على شعارات أو أوهام، وإنما هي مبنية على إرث تاريخي، مليء بالمنجزات والأفعال الدالة على تعلق المغاربة ببيت المقدس ودفاعهم عنه، وخدمتهم له. فصلة المغاربة ببيت المقدس، حسب الكتاب، ليست صلة عابرة، وإنما هي متجذرة في التاريخ متصلة غير مقطوعة تشهد عليها عطاءات المغاربة الممتدة إلى اليوم في كافة المجالات.في هذا السياق، ندرج جهدا آخر، أتى متأخرا زمنيا، لكنه، جاء مستوعبا لما سبقه، غير مقتصر على باب واحد من أفضال المغاربة وإسهامهم في خدمة بين المقدس، إذ كان الشيخ حماد القباج ـ الداعية والبحاثة المغربي ـ رحمه الله مهتما بالقضية الفلسطينية ومناصرتها، مغرما بجمع الوثائق التي تثبت صلات المغاربة ببيت المقدس وإسهامهم في خدمته، فاشتغل على جمع مادة الكتاب وتبويبها وتنسيقها، والتمس من يعينه في ذلك، ولم تمنعه الإعاقة من استكمال جهده، فأعانه على ذلك الأستاذ عبد المجيد أيت عبو، وشاءت يد القدرة أن يتوفى الشيخ حماد القباج قبل خروج هذا العمل إلى المكتبات، إذ توفي رحمه الله في التاسع من مارس 2025 أي قبل أقل من ستة أشهر من صدور كتابه.
قصة الكتاب
يروي الأستاذ عبد المجيد أيت عبو في مقدمة كتاب: "المغاربة والمسجد الأٌقصى صلات أصيلة، وعطاء ممتد" سياق تأليفه، وأن الشيخ حماد القباج رحمه الله، اشتغل على مادته لسنوات طويلة، وجمع فيه جذاذات بعضها قد استوى على ساقه، وبعضها الآخر كان مسودات تحتاج لدراسة ومراجعة، وأن الشيخ نظرا لامتداد السنوات واشتغاله بشكل متقطع على مادة الكتاب، خشي أن تداهمه السآمة فتحول دون إتمام كتابه، وأنه لذلك عرض عليه في صيف 2024، مقترحا بمساعدته في إتمام الكتاب وإخراجه، فتم التوافق على العمل المشترك الذي أثمر صدور هذا الكتاب هذا الشهر.
يذكر الأستاذ عبد المجيد أيت عبو في المقدمة نفسها بجهود الشيخ القباج في مناصرة القضية الفلسطينية ومقاومة التطبيع، ويشير إلى جملة من أعماله وكتاباته ومقالاته حول القضية الفلسطينية، ويعتبر أن انشغاله بموضوع صلة المغاربة ببيت المقدس لم يكن مجردة سرد تاريخي أو ولع بوثائق كان يرجو تقاسمتها مع القراء والجمهور، بل كان يقصد بدرجة أولى أن يغوص في أعماق ذاكرة جمعية مغربية مقدسية عربية إسلامية تحمل في طياتها إرثا روحيا وحضاريا وسياسيا امتد عبر قرون، وأن ذك أضحى يشكل جزءا ثابتا في هوية الأمة المغربية.
لقد كان قصد الشيخ حماد القباج من هذا الكتاب في سياق تطبيعي وتوقيع اتفاقات إبراهيمية، تداعت فيه أقلام مغرضة للتشكيك في المغاربة وعلاقتهم بالقضية الفلسطينية، أن يثبت الصلات الوجدانية العميقة بين المغاربة وبيت المقدس، وأنها ليست مبنية على شعارات أو أوهام، وإنما هي مبنية على إرث تاريخي، مليء بالمنجزات والأفعال الدالة على تعلق المغاربة ببيت المقدس ودفاعهم عنه، وخدمتهم له. فصلة المغاربة ببيت المقدس، حسب الكتاب، ليست صلة عابرة، وإنما هي متجذرة في التاريخ متصلة غير مقطوعة تشهد عليها عطاءات المغاربة الممتدة إلى اليوم في كافة المجالات.
بين يدي الكتاب
يضم الكتاب مقدمة وبابين اثنين، خصص الأول لتقديم لمحة تاريخية عن القدس والأقصى، حيث عرج على الفتح العمري والاحتلال الصليبي لبيت المقدس وتحرير صلاح الدين للقدس والمسجد الأقصى، ثم الاحتلال الصليبي الثاني للشام (الاحتلال الفرنسي للشام والاحتلال البريطاني والصهيوني لفلسطين) مذكرا في هذا السياق بالتحالف العربي البريطاني، وأدوار لورانس، واكشاف الملك حسين لغدر بريطانيا مرورا بوعد بلفور واختلاق هيكل سليمان والسياسة التهويدية اتجاه القدس، والإجراءات الصهيوني التي طالت المسجد الأقصى، والموقف العربي الإسلامي من تهويد القدس.
أما الباب الثاني، وهو زبدة الكتاب وثمرته الأساسية، فقد خصص لعرض علاقة المغاربة ببيت المقدس والمسجد الأقصى، إذ اختار المؤلف أن يقف على مختلف إسهامات المغاربة، منطلقا ابتداء من مسح موقع القدس والمسجد الأقصى في الرحلات المغربية، وذلك منذ مراحل جد مبكرة في القرن الخامس الهجري (رحلة الفقيه المغربي المالكي أبي بكر ابن العربي المعافري)، ثم رحلات كل من الشرق الإدريسي السبتي وابن جبير ورحلة الإمام الشاطبي والعبدري وخالد البلوي وابن بطوطة وابن ابن خلدون والمقري والعياشي والمكناسي والكتاني وابن يزدان والجعيدي وبوشعرة ومحمد الرقيوق، ثم أشار المؤلف في نفس الفصل المتعلق برحلات المغاربة إلى ما كتبه رحالة مغاربة عن القدس ولم يروها.
كما ضم الباب الثاني من هذا الكتاب، ودائما ضمن عطاءات المغاربة وصلاتهم بالقدس الشريف، صفحات مشرقة من جهادهم في الدفاع عن القدس، سواء في غزوة دمشق أو غزوة تيمورلنك، فذكر في هذا السياق جهاد الأمير عبد العزيز بن شداد الصنهاجي، وإسهام يعقوب المنصور الموحدي، والقائد المرابطي، ومكي بن حسون المغربي، وذكر جوانب مهمة من التعاون بين الدولة المغربية والدولة الأيوبية. ولم يقتصر الكتاب على جهود الأجداد في القرون الماضية، ولكنه ألحق بهم جهود المعاصرين في مواصلة النضال، فذكر من ذلك نضال الشيخ محمد المهدي شيخ أوقاف حارة المغاربة (1945)، ومصطفى مراد الدباغ (1989)، وشكيب القطب وبهجة أبو غريبة (2012) وفوزي نامق القطب (1088) وعصام ناجي سيسالم (2009) وعماد خليل العلمي ودلال المغربي (1973) وسامر عصوم المحروم، وحسن العلمي (2005)، وهاني محمد الشريف ومحمود معين الريفي (2009).
وركز الكاتب أيضا على جانب آخر من جوانب إسهام المغاربة في خدمة بين المقدس، يهم الحركة العلمية بالقدس، سواء من خلال القضاء، أو الإمامة والخطابة في المسجد الأقصى أو التدريس والإفتاء، أو تصدر مجالس العلم وكراسيه في مجال الحديث والفقه ومشيخة المغاربة وإمامة المالكية، هذا فضلا عن مجال الأدب والشعر والعلم بالمواقيت، ليعرج في فصل آخر ضمن نفس الباب أيضا على أوقاف المغاربة في القدس وفلسطين، وكيف توسعت بشكل كبير حتى شملت جوانب لا يمكن تصور دخول الأحباس عليها، فذكر الكاتب من ذلك وقفية الشيخ عمر المصمودي المجرد المغربي المالكي، والربعة الشريفة (المصحف المريني) ووقفية ابي مدين الغوث المغربي المالكي، وأشار إلى وقفيات أخرى كثيرة، مركزا أيضا على تدبير المغاربة لهذه الأوقاف وطرق إدارتها، وكيف استهدفها العدوان الصهيوني بعنف، والآثار الاقتصادية والاجتماعية التي ترتبت عن تدمير هذه الأوقاف والاستيلاء الصهيوني عليها.
وفي الفصل الخامس من نفس الباب المعني بكشف عطاءات المغرب اتجاه القدس وبيت المقدس وصلاتهم الوثيقة بهما، عرض الكاتب بالتفصيل الموثق إلى جوانب مهمة من تراث المغاربة المادي في القدس، وذكر من ذلك زاوية المغاربة، وطاحونة وقف المغاربة، وجامع المغاربة، وباب المغاربة (باب الحرم) ومئذنة باب المغاربة، وحارة المغاربة والمدرسة الأفضلية وجامع المغاربة وباب المغاربة وزاوية المغاربة ومسجد البراق وحائط البراق والزاوية الفخرية وملحقاتها ومدرسة بنات المغاربة، وتعرض الكاتب أيضا للسياسة الصهيونية التي استهدفت حارة المغاربة بالهدم، وكيف تحول هذا الحي إلى حي منسي بعد أن قام بأدوار مهمة في تاريخ بيت المقدس.
وإضافة إلى هذا التراث المادي، تناول الفصل السادس من نفس الباب الثاني، نضال وجهاد المغاربة للدفاع عن تراثهم المادي بالقدس، وانتصارهم للقدس والمسجد الأقصى سواء من خلال الجهود المدنية أو المؤسسية الرسمية، فذكر في هذا السياق إسهام المغاربة في ثورة البراق سنة 1929، ومواقف المغرب بالمؤتمر الإسلامي بالقدس سنة 1931، واحتجاج المغرب ضد قرار تقسيم فلسطين سنتي 1937 و 1947، وذكر جوانب من احتجاج مدن المغرب على هذا القرار خاصة مدينة سلا، وكيف تداعى المغاربة للتطوع للجهاد في حرب 1948، ولم يفته أن يقدم لمحة مهمة عن مواقف الحركة الوطنية من القضية الفلسطينية، وخص بالذكر حزب الاستقلال ومواقف زعيم الحركة الوطنية علال الفاسي وأحد رؤساء رابطة علماء المغرب الشيخ عبد الله كنون رحمهما الله، هذا فضلا عن مواقف المغرب الرسمية في الدفاع عن القضية الفلسطينية والاحتجاج على السياسات الصهيونية، والمبادرات التي قام بها سواء بالمشاركة في حرب 1973، أو إنشاء لجنة القدس وبيت مال القدس، دون أن يغفل الكتاب الإشارة إلى المبادرات المدنية لدعم الكفاح الفلسطيني.
أشار الكتاب إلى العلاقات الاقتصادية والتنموية بين المغاربة والقدس من خلال ذكر أوقاف المغاربة، وكيف كانوا يديرونها للمنفعة العامة، ولخدمة التنمية في المدينة المقدسة، وأيضا من خلال إسهاماتهم في مجال الأبنية والتجهيزات التي كانوا يقيمونها بالمدينة المقدسة، ولم يغفل الكتاب أن يذكر جانبا آخر، من جوانب الارتباط (السياحي) من خلال الرحلات المغربية إلى بيت المقدس والمسجد الأقصى، وما يسجله الرحالة المغاربة في كتاباتهم بهذا الشأن.هذا وقد فضل الكاتب أن يختم الباب الثاني، بفصل سابع، جعله بمثابة دليل استمرارية تيقظ الوعي الوطني بقضية فلسطين وواجب الأمة العربية اتجاهها، فاستقرأ جريدة "الوحدة المغربية"، والنصوص التي تضمنت مواقف اتجاه القضية الفلسطينية وفضح السياسات الصهيونية، ووثائق تكشف المخططات العبرية للسيطرة على فلسطين والمسجد الأقصى، وطرق مقاومة هذا الكيان وتخليص فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.
هذا وقد اعتمد الكتاب على 124 مرجعا علميا باللغة العربية، يضم المصادر التاريخية العامة والخاصة، والوثائق الوقفية، والوثائق المتعلقة بمدارس التعليم بيت المقدس، فضلا عن دراسات علمية في جزئيات متخصصة تكشف أدوار المغاربة المختلفة في بيت المقدس وخدمتهم للمسجد الأقصى، كما ضم مقالات ومراجع أجنبية متخصصة، مما يبين الجهد الموسوعي الذي قام به حماد القباج، والذي قد يغني القارئ إلى الرجوع إلى المراجع المتخصصة، إذ جمع الوثائق المختلفة، وضمنها هذا الكتاب، مما يبين أهميته في هذا الباب.
في حقيقة ارتباط المغاربة بالقدس والمسجد الأقصى
في خاتمة الكتاب، خلص المؤلفان إلى الجوانب الأساسية من ارتباط المغاربة بالقدس والمسجد الأقصى، إذ انتهى الكتاب بتقرير حقيقة أن ارتباط المغاربة بالمسجد الأٌقصى ليس فقط مجرد علاقة تاريخية أو جغرافية، بل هو علاقة عقائدية وروحية عميقة تستمد جذورها من التاريخ الإسلامي المشترك.
وهكذا بين الكتاب وجه الارتباط التاريخي الذي يجمع المغاربة القدس والمسجد الأقصى، والذي يمتد لقرون طويلة تعود إلى الفتح الإسلامي لبيت المقدس في القرن السابع الميلادي، حيث ساهم الجنود المغربة بشكل كبير في تحرير القدس، ويعود هذا الارتباط مع استقرار عدد من المغاربة في المدينة المقدسة خلال فترات مختلفة من التاريخ وخاصة بعد تحريرها من الصليبيين على يد صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر، حيث أنشأ لهم حارة خاصة عرفت بحارة المغاربة وكانت قرب المسجد الأقصى لتسهيل عبادتهم وخدمتهم له.
أما بخصوص الارتباط العقائدي، فقد دلل عليه الكتاب بارتباط المغاربة بمدينة القدس والمسجد الأقصى منذ أن استقر الإسلام في أوطانهم، بفعل الأواصر الروحية والعقائدية التي تشد المسلمين إلى أعظم ثلاث مساجد في الإسلام، المسجد الحرام بمكة، والمسجد النبوي بالمدينة المنورة والمسجد الأقصى بالقدس.
وأما الارتباط الروحي والعلمي، فقد أثبته الكتاب من خلال دأب المغاربة منذ العصور الأولى على زيارة الأقصى حين يرجعون قافلين من رحلتهم للحج، أو حين يقصدونها استقلالا وشوقا إلى هذه البقعة الطاهرة، ورغبة في الصلاة بالمسجد الأقصى، إذ كانوا لا يفوتون هذه الفرصة التعبدية، ويضيفون إليها النهل من دروس العلم التي لا تنقطع من مساجد القدس ومدارسها وزواياها، فمن المغاربة من آثر المكث في مدينة القدس مددا طويلة، ومنهم من كان يقضي مآربه ويرجع إلى أهله، وقد كانوا بين مستفيد من العلم ينهل من مجالسه، وبين علماء ومشايخ يقدمون زادهم العلمي، ويوطدون العلاقات العلمية والروحية بين المغاربة وفلسطين.
هذا وقد أشار الكتاب إلى العلاقات الاقتصادية والتنموية بين المغاربة والقدس من خلال ذكر أوقاف المغاربة، وكيف كانوا يديرونها للمنفعة العامة، ولخدمة التنمية في المدينة المقدسة، وأيضا من خلال إسهاماتهم في مجال الأبنية والتجهيزات التي كانوا يقيمونها بالمدينة المقدسة، ولم يغفل الكتاب أن يذكر جانبا آخر، من جوانب الارتباط (السياحي) من خلال الرحلات المغربية إلى بيت المقدس والمسجد الأقصى، وما يسجله الرحالة المغاربة في كتاباتهم بهذا الشأن.
وإذا كانت بعض هذه الجوانب من الارتباط تغطي بشكل كبير المراحل التاريخية السابقة، فإن الكاتب، إضافة إلى استمرار جوانب الارتباط التاريخي والعقائدي والروحي، لم يغفل أن يشير إلى مظاهر الارتباط الغربي بالقدس في العصر الحديث، سواء من خلال المبادرات المدنية أو الرسمية التي تقوم بها الدولة المغربية من خلال مشاريع بيت مال القدس التي بذلت الكثير لفائدة المقدسيين سواء في مجال التعليم أو الصحة أو البناء أو حفظ التراث المقدسي.