تصدر حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - حراكا سياسيا واقتصاديا لافتا خلال الأشهر الماضية تكلل بزيارات «دولة» للعديد من الدول منها بلجيكا وهولندا وروسيا والجزائر، بهدف تعزيز المصالح الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية لعمان، على مختلف المسارات المحلية والدولية وإلى التوسع في أفق الاقتصاد العماني وإحداث نقلة نوعية في التبادلات التجارية مع العالم وجذب الاستثمارات الأجنبية وتحويل عُمان إلى نموذج حضاري لدولة عريقة تحظى بثقة واحترام المنطقة والمجتمع الدولي.

وفي غضون ذلك ظهرت «القوة الناعمة» العمانية في أسمى تجلياتها إشراقا وتألقا واصطفافا مع المبادئ والحق على أكثر من صعيد إقليمي ودولي سواء لجهة استضافة المحادثات النووية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران (قبل تخريبها إسرائيليا) أو التوصل إلى وقف الهجمات التي تشنها جماعة «الحوثي» على حركة الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وهو نجاح دبلوماسي هائل يضاف إلى المدرسة السياسية العمانية في التعاطي مع تقلبات المنطقة والصراعات العالمية فضلا على انعكاسات هذه الخطوة البالغة الأهمية والأثر على خطوط واستقرار التجارية العالمية.

انطلاقا من هذا التوجه السامي الذي يعكس الفلسفة الاقتصادية لجلالة السلطان المعظم، لا بد من الإشارة إلى جملة من التحديات إزاء ترجمة هذا النهج المتقدم في مقاصده ومضامينه النبيلة إلى حراك اقتصادي ديناميكي في البلاد، حراك يتمتع بالسرعة والمرونة في استيعاب المتغيرات الاقتصادية العالمية سواء لجهة مشاريع التنويع الاقتصادي والتحولات نحو الطاقة النظيفة أو التواجد الحقيقي في خارطة الاستثمارات العالمية واستقطاب التكنولوجيا والارتقاء بالجهاز الإداري للدولة لمواكبة هذه التطلعات وخلق فرص عمل ملائمة للمواطنين.

في واقع الأمر، وعند النظر للمشهد الكلي - على مستوى «الماكرو» - يلاحظ ما يشبه عدم الاتساق والتناغم مع المشهد التفصيلي ـ على مستوى «المايكرو» - ولا يبدو أن بعض وحدات الجهاز الإداري الخدمي على ذات الدرجة من التفاعل والاستجابة لهذا الحراك الذي يتطلب السرعة والمرونة العالية في التعاطي معه بكل تفاصيله الإجرائية والإدارية والمالية وغيرها خاصة في جوانب الاقتصاد والتجارة والحكومة الإلكترونية وجوانب العمل والتعمين والتوظيف.

على ضفة الأنشطة الزراعية والصناعية على سبيل المثال، يشتكي أصحابها من تعرفة الكهرباء العالية والمرهقة وتناقضات المطالب الإجرائية لبعض الجهات الخدمية والتي يبدو أن الكثير منها غارق في (التركيز على الشجرة وليس الغابة) بمعنى أن هذه الوحدات لربما يفوتها أحيانا المشهد الكلي للتوجه الوطني الاستراتيجي وهو تفعيل مكامن القوة الاقتصادية والتجارية لعمان عبر تسهيل الأنشطة التجارية على مختلف الأصعدة في البلاد وجعل عمان دولة جاذبة للاستثمار والأهم تسهيل وتشجيع المواطنين بكل السبل إلى الارتقاء بأنشطتهم التجارية وتوفير البيئة المثلى بقوانينها وتسهيلاتها لهم بالدرجة الأولى، وسرعة استجابتها لشكاوى المواطنين والمقيمين، وأعتقد أنه لو كان الأمر كذلك لما احتجنا أن يوجه جلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - بإنشاء منصة «تجاوب» وتجنبنا تكدس المراجعين في تلك الوحدات فضلا على مكاتب «سند».

ولهذا ليس من المستغرب أن تتعثر العديد من هذه المشاريع في قطاعات الأمن الغذائي والصناعي وغيرها، ولا يكفي على سبيل المثال أن نسهل منح مستثمر أرضا بنظام الانتفاع من جانب وزارة الإسكان والتطوير العمراني أو نتفاخر بسهولة منصة «استثمر في عمان» وغيرها ثم تفاجأ من جانب جهات أخرى بجملة معقدة من الإجراءات والرسوم والمتطلبات والشروط وغياب الخدمات.

نحتاج في عمان القرن الحادي والعشرين إلى التخلص من هذا الفكر البيروقراطي في ثنايا بعض الوحدات الخدمية في الجهاز الإداري للدولة والانتقال إلى فلسفة «البحث عن الحلول المباشرة والفورية» عوضا عن «البحث عن سبل التعطيل والتعقيد». ويؤمل أن تنسجم الرغبات حول تبسيط الإجراءات وتعزيز بيئة الأعمال التجارية وجودة الخدمات الحكومية بين التوجهات الاستراتيجية التي تعلن على أعلى مستوى في الحكومة وبين تنفيذها على مستوى المراجعين والمستفيدين والتعاملات اليومية مع منافذ الخدمات الحكومية.

خلاصة القول، لقد حبا الله عُمان بمكونات اقتصادية مختلفة في كافة القطاعات وقيادة تعمل بلا كلل للارتقاء بعمان بما يليق بها في القرن الحادي العشرين ولا مناص من احتواء هذه الممارسات البيروقراطية في بعض الوحدات الخدمية عبر خدمات حكومة إلكترونية متكاملة ومباشرة وميسرة وسهلة الاستخدام بكل شفافية وبرسوم رمزية تجعل من عمان إحدى أهم الوجهات الاستثمارية في المنطقة والإقليم وتشجع المواطنين بكل الوسائل إلى الاستفادة المباشرة من هذه البيئة المحفزة وبالتالي خلق مزيد من فرص العمل لأبنائهم وبناتهم.

وهناك تجارب دولية ناجحة في هذا السياق يمكن الاستفادة منها مثل تجربة دولة «إستونيا» خاصة ما يتعلق بالهوية الرقمية لكل مواطن حيث يمكن استخدامها للتصويت، وتوقيع الوثائق، ودفع الضرائب، والوصول إلى الخدمات الحكومية عبر الإنترنت علما أن 99% من الخدمات الحكومية في إستونيا تتوفر عبر الإنترنت على مدار الساعة ويمكن للمواطنين القيام بمعظم المعاملات بدون زيارة أي جهة حكومية وما يسمى كذلك بالإقامة الإلكترونية حيث يمكن لأي شخص في العالم أن يصبح مقيّمًا إلكترونيا ويفتح شركة في إستونيا عن بُعد وهي المبادرة التي جذبت آلاف رواد الأعمال حول العالم وتطبيق فكرة حكومة بلا أوراق عبر نظام يُسمى X-Road يربط قواعد البيانات الحكومية بشكل آمن يتيح لكافة مكونات الحكومة تبادل المعلومات دون الحاجة إلى أوراق، وبالتالي يمكننا احتواء ممارسات غرائبية مثل مزاجية بعض الموظفين في التعامل مع المراجعين والتحجج بأن النظام «عطلان» أو المدير المعني في إجازة أو المزيد من المتطلبات الورقية والنسخ وما إلى ذلك من مشتتات الجهد والوقت والمال وسمعة المؤسسة.

يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الخدمات الحکومیة على مستوى

إقرأ أيضاً:

احتجاج الأطباء الشبان في تونس إنذار جديد بالمستشفيات الحكومية

تونس- يتواصل لليوم الثاني إضراب الأطباء الشباب في تونس -المقرر أيام 12 و13 و16 و17و18 يونيو/حزيران الجاري- بدعوة من المنظمة التونسية للأطباء الشبان احتجاجا على رفض وزارة الصحة الاستجابة إلى مطالبهم.

وعلى مدار اليومين الأولين من الإضراب، توافد مئات الأطباء الشبان من الطلبة في سنواتهم الأولى -وصولا للأطباء المقيمين الذين يخضعون للتكوين حسب اختصاص دقيق- إلى باحة كلية الطب للاحتجاج.

وهذا التحرك ليس الأول من نوعه، بل يأتي ضمن سلسلة طويلة من الاحتجاجات والإضرابات والمسيرات التي خاضها الأطباء الشبان خلال العقد الماضي.

مقاطعة وإضراب

وعلى مدار هذه الأيام الخمسة، يرفض الأطباء الشبان العمل ضمن إضراب شامل، كما يقاطعون اختيار مراكز التربُّصات (المستشفيات) التي سيعملون بها خلال الأشهر الستة المقبلة.

ومع أن وزارة الصحة دعتهم، الخميس، للانتقال إلى المعهد العالي لعلوم التمريض لاختيار مراكز التربصات بدلا من كليات الطب، فإنهم واصلوا مقاطعتهم وتحصنَّوا بالكلية.

وقد نددت المنظمة التونسية للأطباء الشبان بما اعتبرته هروبا للأمام للوزارة، بمحاولة كسر مقاطعة الأطباء لمراكز الاختيار بدعوتهم للانتقال إلى خارج أسوار كليات الطب "في سابقة خطيرة ستفاقم الأزمة".

إعلان

وبين المحتجين في كلية الطب، يقف الطبيب المقيم في أمراض وجراحة العيون عاطف الوريمي الذي أعلن مقاطعته لاختيار المستشفى الذي سيشتغل فيه الشهر المقبل.

عاطف وريمي أحد الأطباء الشبان المحتجين على تردي أوضاعهم وبات يفكر بالهجرة للخارج (الجزيرة)

أمضى الوريمي أكثر من 10 سنوات في التكوين وهو يشتغل منذ 6 سنوات كطبيب مقيم بمستشفى شارل نيكول في تونس العاصمة، براتب لا يتجاوز 1900 دينار (620 دولارا) شهريا وسط ظروفه الصعبة.

وبحكم تنقله من مدينة جرجيس (جنوب) للعمل في العاصمة، تحتَّم عليه إيجار سكن بقيمة 250 دولارا شهريا، إضافة لمصاريف الطعام والتنقل، ويقول للجزيرة نت إن راتبه الشهري "يتبخر".

ورغم أنه يؤمِّن أسبوعيا نحو 50 ساعة استمرار (إضافية) في المستشفى خارج ساعات عمله الأصلية، فإنه لم يتقاض مستحقاته، ولذلك قرر مقاطعة اختيار المستشفى الذي سيعمل فيه الأشهر الستة القادمة.

ويقر الوريمي بأن فكرة السفر للخارج تساوره بسبب تردي وضعه المادي، كغيره من الأطباء الذين هاجروا للخارج، وخاصة إلى ألمانيا التي كثَّفت الطلب على الكوادر الطبية وشبه الطبية التونسية.

 

إنذار للسلطة

وأبرز المتحدث ذاته تأثير الإضراب ومقاطعة الأطباء الشبان لاختيار مراكز المستشفيات التي سيعملون بها، مما يعني أنه -بداية من الشهر القادم- لن يوجد الأطباء في المستشفيات مما قد يربك الخدمات الصحية.

ويتم اختيار مراكز التربصات (المستشفيات) من الأطباء الشباب بشكل دوري، مرة كل 6 أشهر، في نطاق تكوينهم التطبيقي. في حين يعتمد الأطباء الشبان اللجوء إلى مقاطعة مراكز العمل كوسيلة للضغط على وزارة الصحة والسلطة.

وجيه ذكار رئيس المنظمة التونسية للأطباء الشبان أكد أن هؤلاء الأطباء لا يأخذون مستحقاتهم (الجزيرة)

ويقول رئيس المنظمة التونسية للأطباء الشبان وجيه ذكار -للجزيرة نت- إن عدم وجودهم للعمل في المستشفيات الشهر المقبل يهدد بخلل حقيقي في سير العمل الطبي وبتراجع الخدمات الصحية.

إعلان

ويضيف ذكار أن عدد الأطباء المشاركين في الإضراب يقدر بنحو 12 ألف طبيب، لكن الأطباء الذين سيقاطعون اختيار مراكز التربصات (المستشفيات) يصل عددهم إلى 6 آلاف طبيب داخلي وطبيب مقيم.

ويحمّل وزارة الصحة تداعيات مقاطعة الأطباء اختيار مراكز التربصات، لعدم إبدائها إرادة حقيقية لتحقيق مطالبهم رغم ما يعانونه من تدهور ظروف العمل وأجور متدنية وتأخير في صرف المستحقات.

مطالب لم تنفذ

وحول الأسباب الدافعة لهذا الاحتجاج، يقول ذكار إن الأطباء الشبان يشعرون باستياء وإحباط بسبب عدم استجابة الوزارة لمطالبهم بصرف مستحقات عملهم خلال ساعات الاستمرار في المستشفيات العمومية.

ويضيف أنهم يتقاضون أجورا زهيدة تتراوح بين 1400 دينار (450 دولارا) و1900 دينار (620 دولارا) شهريا، في حين يتقاضون دولارا واحدا بأحسن الحالات عن كل ساعة عمل إضافية في المستشفى.

ويتابع ذكار "هذا الأجر لا يتناسب إطلاقا مع حجم المسؤولية والجهد المبذول. كما أن قيمة ساعة الاستمرار مهينة".

ويؤكد أن الوزارة لم تستجب إلا لنقطة وحيدة من مطالبهم، وهي الترفيع في راتب الطبيب خلال الخدمة العسكرية لمدة سنة من 750 دينارا (250 دولارا) إلى 2000 دينار (680 دولارا) شهريا.

غير أن هذا التحسين لا يعوض بقية المطالب المتراكمة التي ظلت تراوح مكانها دون تنفيذ -حسب ذكار- الذي يؤكد أن معاناة الأطباء الشبان تفاقمت منذ سنة 2010 وتسبب في هجرة المئات منهم.

ويضيف أن آخر مفاوضات جرت مع الوزارة كانت في 15 مايو/أيار الماضي، ولم ينبثق عنها أي شيء، حيث أبدت تفهما شكليا لكنها تعللت بوجود عراقيل إدارية ومالية تحول دون تنفيذ المطالب.

غياب الإرادة

ويؤكد ذكار أن معالجة ملف الأطباء الشبان تفتقر إلى الإرادة السياسية، معتبرا أن الصحة العمومية في البلاد رغم الخطابات الرسمية -التي تؤكد أهمية المستشفى العمومي- لا تحظى بالأولية المطلوبة.

إعلان

ويشهد تكوين الأطباء في تونس مسارا طويلا يدوم 12 عاما بعد البكالوريوس، إذ يبدأ بـ5 سنوات دراسة بكليات الطب تليها سنة تدريب عملي كطبيب داخلي بأحد المستشفيات العمومية.

جانب من احتجاج الطلاب بكلية الطب بتونس حيث علقوا عملهم خلال الأيام القادم بالمستشفيات (الجزيرة)

ثم يجتاز طلبة كليات الطب مسابقة التخصص لينتقلوا إلى مسار يدوم سنوات طويلة من التدريب التطبيقي المستمر بالمستشفيات كطبيب مقيم، ويستغرق بين 3 و5 سنوات حسب الاختصاصات الطبية.

ويعمل الأطباء الجدد في نطاق مسار التخصص لساعات طويلة بالمستشفيات، ضمن ما يعرف بساعات الاستمرار، ويخضعون لمراحل متعددة من التأهيل والاختبارات قبل الحصول على بطاقة الطبيب.

غير أن الأطباء الشبان يشتكون من تردي وضعهم المادي رغم ما يؤكدونه من انضباط وجهود كبيرة لتقديم الرعاية الصحية للمواطنين بمستشفيات تعاني من نقص الموارد والتجهيزات، ورغم المخاطر الصحية.

مقالات مشابهة

  • الدبلوماسية العمانية.. خيار المجتمع الدولي لإحلال السلام
  • رئيس محكمة استئناف محافظة الحديدة لـ”الثورة ” : نجاح العمل يتطلب التكامل في العملية الإشرافية بين الجميع لتحقيق العدالة 
  • لتوسيع نطاق الخدمات المقدمة عبر منصة "حافز "بالمحافظات.. وزير التخطيط تبرم اتفاقًا مع "الصناعات "و "الغرف التجارية"
  • جامعة نزوى تتصدر الجامعات العمانية في النشر العلمي
  • «موارد دبي» تعمم مبادرة «صيفنا مرن» في الجهات الحكومية
  • “إدارة الأزمات” يوضح حول تعطيل المؤسسات الحكومية في ظل الظروف الإقليمية
  • الإصلاح المؤسسي وتحسين كفاءة الخدمات الحكومية فى ندوة بجامعة أسيوط
  • ارتفاع الصادرات الصناعية العمانية إلى السعودية بنسبة 28.3 %
  • احتجاج الأطباء الشبان في تونس إنذار جديد بالمستشفيات الحكومية