في فبراير 2011، خرج الشعب الليبي يهتف للحرية والكرامة والعدالة، حالمًا بدولة مدنية حديثة، تُدار بالمؤسسات، وتُبنى على المواطنة وتداول السلطة. كانت الشرارة نقيّة، والشعارات واضحة، والأمل كبير. لكن بعد أكثر من عقد، انقلب الحلم إلى كابوس، وتحولت ليبيا من مشروع تحرر إلى ساحة مستباحة دوليًاً، تنهشها التدخلات، وتقودها زُمَر داخلية باعت الوطن مقابل السلطة والنفوذ.
أولاً: ليبيا اليوم أصبحت ساحة للصراع الدولي.
فما تعيشه ليبيا اليوم لم يعد مجرد “تدخلات خارجية”، بل احتلال مقنّع متعدد الجنسيات، يتقاطع فيه النفوذ العسكري مع الاقتصادي، ويتستر خلف شعارات الشرعية والتسوية.
• في الشرق، فتحت أبوابه أمام الفاغنر الروسية، التي تحوّلت لاحقاً إلى “الفيلق الروسي”، بغطاء سياسي وأمني من مصر والإمارات وفرنسا، الطامعة في النفط والموانئ، لا في استقرار الدولة.
• في الغرب، نُصبت القواعد التركية، بطلب ليبي وغُذيت الفوضى بدعم قطري مالي واستخباراتي، ووجدت إيطاليا موطئ قدم لها تحت ذريعة مكافحة الهجرة.
• وفي الخلفية، تحاول الولايات المتحدة فرض خارطة نفوذ جديدة عبر شعارات توحيد السلطة، وهي في الحقيقة تبحث عن موطئ قدم دائم في الجنوب، وتأمين مصالح شركاتها النفطية.
ليبيا اليوم ليست طرفاً في هذا الصراع، بل ساحة مفتوحة يتصارع فوقها الجميع، ويتقاسمونها بترتيبات مع أمراء الفشل المحليين.
ثانياً:
الاحتلال لم يكن ليجد طريقه لولا خيانة الداخل. فمنذ 2011 وحتى اليوم، تصدّر المشهد السياسي زمرة من أمراء الحرب، وتجار السلطة، وسماسرة الجغرافيا، ممن مزّقوا البلاد خدمة لأجندات خارجية أو جهوية ضيقة.
• عقيلة صالح ومجلس النواب، جعلوا من البرلمان أداة تشريع للفوضى والتمديد، واستغلّوه لتكريس الانقسام وتمرير الصفقات، وتحويل الدولة إلى غنيمة جهوية.
• خليفة حفتر وأبناؤه، فتحوا الباب للروس، وطبعوا العملة بلا ضوابط، وحوّلوا الجيش إلى مؤسسة خاصة، تُستخدم في الداخل، وتُدار بمنطق العائلة.
• المؤتمر الوطني العام، جسّد الانحدار المبكر، وخلّف وراءه تركة من الميليشيات والتوظيف الأيديولوجي المدمر.
•في ظل حكومة الوحدة الوطنية ، الذي جاءت تحت شعار التوحيد انتشر الفساد بشكل غير مسبوق في غرب البلاد وشرقها.
ثالثا:
تحوّل النفط من مورد سيادي إلى صندوق حرب بين المتسلطين في الشرق والغرب:
• يُباع النفط خارج الأطر الرسمية.
• تُطبَع العملة في موسكو وبنغازي دون رقابة.
• تُقسم العائدات بين أسر نافذة لشراء الذمم، وتغذية الصراع، وضمان استمرار سلطة أمراء الحرب.
والمواطن الليبي يدفع الثمن: تضخم، بطالة، تدهور خدمات، واختناق اقتصادي.
رابعًا:
كانت الثورة تطمح إلى تأسيس دولة مدنية دستورية، لكن العقليات التي تصدّرت المشهد أعادتنا عقوداً إلى الوراء.
فقد تبنّى حفتر وعقيلة صالح مشروع “الدولة الأهلية”، حيث تتحكم القبيلة في القرار، ويُستبدل القانون بالعُرف، والمواطنة بالجهوية.
تحت عباءة “اللحمة الوطنية”، عاد الحديث عن المجالس القبلية، وأصبحت المؤسسات رهينة الانتماء الجغرافي، لا الكفاءة.
بل تجاوز الأمر ذلك إلى تفكيك القضاء:
• عدّل عقيلة صالح قانون نظام القضاء ليسيطر على المجلس الأعلى للقضاء ويتبعد المحكمة العليا من دائرة المجلس الأعلى للقضاء ويمكن مدير إدارة التفتيش القضائي من رئاسة المجلس ويعيّن المقربين منه وفقاُ لأسس جهوية مقيتة ويلتف بها على الاتفاق السياسي الليبي.
• وذهب أبعد من ذلك ليستحوذ على كل المناصب السيادية:
رئاسة مجلس النواب رئاسة المجلس الرئاسي القائد الأعلى للجيش القائد العام للجيش مستشار الأمن القومي جهاز الرقابة الإدارية.كل هؤلاء من محيطه الجغرافي الضيق، بينما تُركت بقية مناطق ليبيا – التي تمثل أكثر من 85% من الشعب وفقاً لتعداد السكان عام 2006م – تتفرج على مشهد يُدار من غرفة واحدة.
أليست هذه انتكاسة تاريخية؟
أليس هذا انقلاباً على كل مبادئ الثورة؟
خامساً: التطبيع… عربون البقاء في السلطة
في لحظة انهيار أخلاقي، لم يتردد المتصدرين للمشهد في مغازلة الكيان الصهيوني، بحثاً عن دعم خارجي يضمن بقاءهم. حيت التقى مسؤولون ليبيون سِراً بمسؤولين صهاينة في عواصم أوروبية.
وهكذا تحولت فلسطين إلى ورقة مساومة، تُباع كما يُباع النفط، وتُداس كما دِيسَت السيادة الوطنية.
سادساً:
لم يكن القذافي رمزاً للحرية ولا العدالة، لكن لم يكن هناك احتلال روسي، ولا تقسيم جهوي بهذا الشكل، ولا طبع عملة دون غطاء، ولا نهب مكشوف للنفط ولا قواعد تركية في غرب ليبيا.
من المؤلم أن تصل ليبيا إلى هذا الدرك، فيتمنّى بعض أبنائها لو لم تكن هناك ثورة أصلاً.
ليس حباً في النظام السابق، بل لأن كل من جاء بعده لم يكن إلا أداة نهب وتدمير ممنهج للوطن.
وختاماً: هل بقي من الوطن شيء؟
ما بقي من ليبيا هو صدى وطن.
وما بقي من الثورة هو حُطام حلم.
لن تستعيد ليبيا عافيتها إلا إذا:
• رُفع الغطاء الدولي عن العملاء المحليين.
• أُسقطت منظومة الفساد والجهوية بكل أدواتها.
• شُكلت حكومة تأسيسية محايدة، تقود مرحلة انتقالية صارمة.
• انطلاق حوار وطني جامع يؤسس لدستور، تقوده كفاءات حقيقية، لا مرتزقة السياسة.
• ليبيا لا تحتاج حكومة جديدة فقط، بل ثورة على الثورة، لتطهيرها من خيانتها، واستعادتها إلى أهلها.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: لم یکن
إقرأ أيضاً:
مستشفيات غزة: 44 شهيدا بنيران الاحتلال اليوم
#سواليف
أفادت مصادر في #مستشفيات_غزة بـ #إستشهاد #44_شخصا #بنيران #جيش_الاحتلال الإسرائيلي منذ فجر اليوم 22 منهم من منتظري المساعدات.