إعلان التاسع من يونيو 1969: ليست الحرب كل همنا
تاريخ النشر: 16th, June 2025 GMT
إعلان التاسع من يونيو 1969: ليست الحرب كل همنا
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
(يجري تصوير السودان كبلد في حال حرب أزلية مع نفسه منذ استقلاله، أو ربما قبيله، حتى سأل مشرع أميركي في لجنة الشؤون الأفريقية بالكونغرس عما الذي سيجتمعون حوله عن السودان غير حربه مرة ثانية).
مرت في يوم التاسع من يونيو الجاري الذكرى الـ65 لـ”إعلان التاسع من يونيو 1969″ الذي صدر عن مجلس انقلابيي الـ25 من مايو في ذلك العام.
ودلالة ذلك في ما ذاع عن السودان وحربه المتطاولة هي موضوعنا هنا.
يجري تصوير السودان كبلد في حال حرب أزلية مع نفسه منذ استقلاله، أو ربما قبيله، حتى سأل مشرع أميركي في لجنة الشؤون الأفريقية بالكونغرس عما الذي سيجتمعون حوله عن السودان غير حربه مرة ثانية. وجاء ذكر اسم العقيد جون قرنق كقائد للحركة الشعبية لتحرير السودان خلال النقاش فالتفت المشرع لرفيقه من ولاية أيوا، وهي الولاية التي نال منها قرنق درجة الدكتوراه، في الجلسة وسأله: أهذا ما تعلمونه للناس في أيوا؟
تطابق ذكر السودان مع الحرب كاد يجعل الحرب فيه من حادثات الطبيعة لا المجتمع. فلا تكاد ترى من هذه العاصفة الدموية الطبيعية على السودان كيف أنها لم تكن ضرباً من وعثاء بناء دولة ما بعد الاستعمار الذي يقف من وراء الزعازع في أفريقيا وغيرها فحسب، بل أخفت عما تحقق من خلالها في هذا المسعى من طريق التفاوض والاتفاقات والثورات التي قطع بها السودان فرقة كبيرة لهذه الغاية. فلكي نسترد الحرب من إقليم الطبيعة إلى إقليم المجتمع صح النظر إلى السياسات من ورائها التي طلبت الوطن السوية.
فلم يكف السودانيون خلال حربهم عن التفاوض حول المواطنة في البلد المستقل. وبينما يجري التركيز على الحرب وأطرافها لا تلقى الثورة في السياسة السودانية حظها من البحث في سياق الحرب. فأرادت ثورات السودان الثلاث في 1964 و1985 و2018، وهو رقم قياسي بمقياس قينيس في إصلاح الذات، لا إنهاء الديكتاتوريات العسكرية الحاكمة فحسب، بل فتح باب التفاوض مشرعاً لبناء دولة المواطنة بالإرادة السودانية التي توافرت مع استقلال البلاد عام 1956.
ويقع وزر هذه الحرب المتطاولة في الأدب الدارج على القوات المسلحة، التي غلبت في حكم السودان، من دون الأطراف الأخرى فيه على رغم أن نصيب هؤلاء من الوزر غير قليل. فقد نجحت ثورات السودان الثلاث في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وديسمبر 2018 ضد الأنظمة الديكتاتورية العسكري، التي غلبت الحرب فيها، في فتح باب التفاوض في الوطن ليسع الجميع بمسؤولية.
فانقدحت شرارة ثورة أكتوبر 1964 من داخل ندوة عقدت بجامعة الخرطوم لمناقشة قضية جنوب السودان في سياق معارضة سياسات القمع والتكتم التي اتبعها نظام الفريق إبراهيم عبود (1958-1964) في ذلك الجزء من البلد. وانعقد بفضل الثورة مؤتمر المائدة المستديرة في مارس 1965 وسط حضور عالمي وإقليمي لمناقشة مسألة الجنوب باعتراف مبتكر بأنها أزمة وطنية لا “دسيسة استعمار متبقية” في دارج خطاب الحركة الوطنية. ومع اشتراك الأقسام المدنية الجنوبية في المؤتمر بحماسة متفاوتة إلا أن حركة “أنانيا” المسلحة الداعية لانفصال الجنوب رفضت عرض حكومة الثورة بوقف النار. ولم يجرؤ الجنوبيون في المؤتمر حتى على إدانتها لمواصلتها الحرب. ووقعت الحرب.
لم تعد، من جهة أخرى، الأزمة السياسية عند قيام ثورة أبريل 1985 تقتصر على مسألة الجنوب. فصارت المسألة هي الأزمة الوطنية العامة التي حلها رهين بقيام “السودان الجديد” كما تصورته “الحركة الشعبية لتحرير السودان” الجنوبية المنشأ في 1983 ضد نظام الرئيس جعفر نميري. وكانت دعوة السودان الجديد صرخة مبتكرة للوحدة الوطنية السودانية استدبرت العقيدة الانفصالية التقليدية في الحركة القومية الجنوبية. ووقعت ثورة أبريل 1985 في ذلك السياق السياسي المتفائل بوطن ملموم جديد.
وما إن وقعت الثورة وتولى التجمع النقابي والسياسي مقاليد الحكم حتى استصغر العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، الثورة المدنية لأنها قصرت عن مأموله، وجاءت في صحبة مجلس عسكري، أطلق عليه صفة “مايو 2” (فمايو الأولى كانت انقلاب نميري نفسه)، وفرض نفسه عليها. وبدلاً من أن يلقي قرنق بثقله مع التجمع النقابي، حليفه في معارضة نظام الرئيس نميري، اعتزله، بل وطلب منه أن يتخلص من المجلس العسكري قبل أن يبارك لهم وينضم إلى ركبهم. وكان ذلك مستحيلاً بدون بالذات. فواصل الحرب فعبأ الجيش لمواجهته في حلف مع الحركة الإسلامية انتهى بانقلاب يونيو 1989 الذي جاء ليستبدل الحكومة المدنية الديمقراطية التي لم تحسن الحرب في رأيهم ضد الحركة الشعبية.
ولحركات دارفور المسلحة أدوار بعد ثورة 2018 اختلفت إلا في ريبتها من الحكومة الانتقالية مما جعلها تأخذ جانب العسكريين ممن خرجوا باسم الانحياز للثورة مكاء وتصدية.
وصفوة الأمر أن حركات الهامش المسلحة، طرف مستحق في تطاول الحرب باستدعائها القوات العسكرية السودانية للحكم انقلاباً، فالحرب. فأجنحة هذه الحركات العسكرية تنفر عن عقد أي حلف واجب ووثيق مع ثوار المركز. فتخلق بهذا وضعاً لا يحسن مثل الجيش التعاطي معه.
والمفارقة مؤسفة. فهم يعودون بآخرة مع ذلك للتفاوض مع النظم العسكرية التي خرجت هي نفسها من استعلائهم على الصلح مع المركز المدني وبلوغ الاتفاق معها كما تمثل في اتفاقية أديس أبابا بين نظام الرئيس نميري وحركة أنانيا عام 1972، واتفاقية السلام الشامل بين نظام الرئيس عمر البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2005. وهي اتفاقات الحاكم فيها حسابات قوى وموازناتها لا كدحاً لتأسيس سودان المواطنة بحق.
فما إن تصالح نميري مع معارضيه في الأحزاب المركزية عام 1977 بعد خصومة مضرجة حتى حنث بعهده مع القوميين الجنوبيين ونقضه بعد عقد كامل تمتع فيه الجنوب بالسلام كما لم يقع له من قبل ولا من بعد. وعادت الحرب. أما اتفاق 2005 بين نظام البشير والحركة الشعبية فقد كان سانحة، بما منح من حق تقرير المصير، للقوميين الجنوبيين للعودة القهقرى إلى موقفهم التاريخي منذ الأربعينيات وهو الاستقلال عن السودان. وتنصلوا بذلك جهاراً عن دعوتهم للسودان الجديد الموحد بمزاعم فطيرة لا ترقى مرقى المبادئ التي ألهموا بها قطاعاً كبيراً من السودانيين حارب معهم بالقلم والسيف.
ولم يستو مبدأ تقرير المصير فينا على الجودي السياسية لأننا نظرنا إليه كممارسة “مكروهة”، إن لم تكن “حراماً”. بل لم يذع مجاز في النظر إليه كمثل مجاز الطلاق: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”.
وذلك غل على الحرية في أسمى تجلياتها. ومر زمن كان فيه انفراط دولة ناشزة، لا مجرد انفصال طرف منها في حق تقرير المصير، سمة للعقل والشجاعة. وقد أطرى الكس توكفيل، مؤلف كتاب “الديمقراطية في أميركا” (1835)، أميركا لتلك المأثرة. فلم ينفعل ببسالة الأميركيين المعروفة في تحرير بلدهم من البريطانيين عام 1778 بقدر انفعاله بإعادتهم التفاوض في مصائر وطنهم الذي تفرق شيعاً في المؤتمر الدستوري بفيلادلفيا عام 1786، الذي بنوا فيه “اتحاداً ناجزاً”. ولم ينتب السودانيين حظ الأميركيين بالحصول على “توكفيل” خاص بهم ليثني على بعد نظرهم السياسي بتبني تقرير المصير في آخر مطاف أزمة تطاولت. بخلاف ذلك، وطأهم الناس بمنسم وعيروهم كشعب فاشل.
ومن أسف أن الناعين ردوا هذا الفشل إلى شذوذ ثقافي لم تأتلف به العروبة والأفريقية أو الإسلام والمسيحية (والعقائد التقليدية) في البلد. ومع أن هذه الحقائق الثقافية غير منكورة الأثر في المسألة السودانية إلا أنها الزبد لا الجوهر. فأصل الإشكال وديناميكيته في فشل الحركة الوطنية الوارثة للاستعمار وخصومها في ترتيب وطن يسعد قوميات الأمة وجماعاتها قاطبة. وهو فشل يتساوى السودان فيه مع سائر أمم المستعمرات السابقة.
أنهى إعلان التاسع من يونيو بضربة واحدة المفهوم التأسيسي للدولة السودانية الذي جعل للأمة ديناً ولغة لا تقبلان القسمة. وأسس لمفهوم قيام الدولة-الأمة على التنزل عند الخلاف، واعتبار مقتضاه في بناء أمة مطمئنة سالمة من شرور الفتن والبغضاء. وصرنا نتداول المفهوم منذ حين كـ”الوحدة في التنوع”. وربما لم نحقق به طمأنينة الأمة بعد. ولكن، متى حصلنا عليها، سنذكر إعلان التاسع من يونيو 1969 بامتنان. إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الشعبیة لتحریر السودان الحرکة الشعبیة تقریر المصیر نظام الرئیس عن السودان
إقرأ أيضاً:
حفتر .. التورط في حرب السودان
دعم المليشيا ومصر أبرز المتأثرين
حفتر .. التورط في حرب السودان
خبير عسكري: نجل حفتر أبرم اتفاقيات تهدف لخوض الحرب مع مليشيا الدعم السريع
أمدرمان: الهضيبي يس- الوان
دخلت ليبيا على خط الحرب السودانية قبل أيام عقب مشاركة مجموعة مسلحة تتبع للقائد العسكري خليفة حفتر، حيث هاجمت تلك القوة المدججة بالسلاح أحد نقاط الارتكاز الحدودية التي تجمع مابين السودان، مصر، ليبيا. الأمر الذي وصف من قبل الحكومة السودانية بالتعدي السافر وانتهاك القانون الدولي باعتبار ماحدث تدخل مباشر في شؤون السودان ووقوف مع مليشيا حملت السلاح ضد الدولة وقامت بانتهاك حقوق المواطنين وتدمير المرافق.
بينما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يوجه فيها السودان أصابع الإتهام إلى ليبيا بالتدخل في شؤونه، ففي شهر سبتمبر من العام 2023 أكدت الحكومة وقتها مشاركة جنود ليبيون في القتال مع الدعم السريع بالعاصمة الخرطوم مطالبة مؤسسات المجتمع الدولي التعامل بشكل جاد مع من أسمتهم بالمرتزقة بل وذهب أبعد من ذلك ووصف مايحدث يعتبر بالمهدد للسلم والأمن الدوليين جراء اتساع نطاق الحرب في السودان.
كذلك لم تخف بعض الدوائر الإقليمية مخاوفها تجاه توسع نطاق الحرب في السودان مما سيكون له تأثيرًا بالغًا على بعض دول الجوار ومن أبرزهم مصر، فقد أطلع مصدر موثوق (ألوان) على زيارة مرتقبة مطلع الاسبوع القادم لمستشار الشؤون الأمنية للرئاسة المصرية اللواء عباس كامل لمدينة بورتسودان من المتوقع أن يجري خلالها مباحثات مع المسؤولين السودانيين حول تطورات الأوضاع في المنطقة وأهم الملفات هي قضية التدخل الليبي في الشأن السوداني. وتتمثل تلك المخاوف في ازدياد حجم الأنشطة السالبة على متن الشريط الحدودي الذي يربط ما بين الدول الثلاث مما أدى إلى ازدياد عمليات بيع السلاح، والهجرة غير الشرعية، والمخدرات مما يشكل مهددًا حقيقيًا على السودان.
ويقول الخبير العسكري عبد المنعم عبد القادر أن الحرب في السودان بعد دخولها العام الثالث هناك بعض الأطراف الإقليمية والدولية التي تسعى لتنفيذ سيناريوهات محدودة النطاق خاصة وأن الهدف من توسعة نطاق الحرب قد يدفع المجتمع الدولي للتحرك وفرض مزيد من العقوبات والتهديد بفرض الوصاية لتحجيم دور الجيش.
كذلك تقليص أي دور محتمل لتطوير علاقات السودان الخارجية بما يحمله من أبعاد عسكرية، وسياسية تعزز موقف الدولة بإبرام مزيد من الصفات كما فعل مؤخرًا مع دول مثل تركيا، إيران، باكستان وغيرها من الدول.
وزاد عبد القادر: ووفقًا لما توفر من معلومات فإن من بات يقود صفقات الحرب ليس المشير خليفة حفتر إنما نجله صدام عقب زيارات قام بها مؤخرًا لكل من إيطاليا، الولايات المتحدة الأمريكية، الخليج العربي لكسب التأييد السياسي نحو خطوة متوقعة، مستغلًا في ذلك الأوضاع الداخلية التي يمر بها السودان بصورتها العسكرية. مؤكدًا أن ما يقوم به نجل حفتر – ماهو إلا محاولة للعب دور مخلب القط في المنطقة، مما سيكون له تأثير بالغ خلال الفترة المقبلة مالم يتم التنسيق المحكم وبشكل جيد مابين مصر، والسودان متوقعًا في الوقت نفسه بأن تقوم “القاهرة” بلعب دور لإثناء مجموعة المشير خليفة حفتر عن الخوض في الحرب السودانية.
ويشير الكاتب الصحفي عبدالناصر الحاج إلى خروج الحرب في السودان من دائرة التعاطي المحلي للإقليمي نظرًا لما باتت تحمله من تقاطعات لمصالح عدة دول منها حليفة للسودان وقد يطلب مساعدتها بشكل أكبر نسبة لتوسع رقعة المهددات. وهنا علينا الإقرار بأن تدخل “ليبيا” قد يطيل أجل الحرب في السودان مما يفاقم الأوضاع الإنسانية ويضاعف الوضع الاقتصادي والاجتماعي معًا، باعتبار انها قوات صممت في الأصل على عقد صفقات تحمل القتال دون أي عقيدة عسكرية وهو ماقامت به من قبل مع تشاد، والسودان الآن.
ويضيف الحاج: فالأمر أيضا يستدعي تحركًا سياسيًا من قبل الحكومة السودانية يتجاوز محطة الإدانات، فهناك كروت رابحة ما تزال بيد “السودانيين” للحد من نطاق حربهم أهمها إقامة تحالفات إقليمية ودولية وفقًا لصيغة مصالح جديدة تكفل اجهاض أي محاولات لتهديد الأمن القومي السوداني. لافتًا إلى أن علاقة “السودان” الآن توصف بالجيدة مع دول المعسكر “الشرقي” ولكن تحتاج للتوظيف والانتقال بها من محطة التعاطي الدبلوماسي لتبادل المصالح الاستراتيجية، وقطعًا لن يتأتى ذلك في ظل عدم اتخاذ قرار سياسي من قبل الحكومة نحو هذا الاتجاه بكلياته العسكرية والسياسية حفاظًا على آمنه الداخلي وموارده.