قصر الحلابات في الأردن.. شاهد على عظمة العمارة الإسلامية المبكرة
تاريخ النشر: 20th, June 2025 GMT
عمَّان "العُمانية": يُعد "قصر الحلابات" الواقع في منطقة البادية شرق العاصمة عمّان، من أبرز المعالم الأثرية الإسلامية في الأردن، إذ يتميّز بتاريخه الممتد إلى العصور الرومانية والبيزنطية، وتم تجديده وتطويره في العهد الأموي ليصبح أحد القصور الصحراوية التي تعكس فن العمارة الإسلامية المبكرة، ويجمع القصر بين الأبعاد الدينية والسياسية والمعمارية، ويُعد شاهدًا على التفاعل الحضاري بين العرب المسلمين والحضارات السابقة في المنطقة.
وأطلق اسم "الحلابات" على القصر تحويرًا للّفظة المحكية للكلمة العربية "الحلبات"، وتعني ميادين السباق، إذ تؤكد الدراسات أن ساحات القصر كانت تشهد سباقات الخيل والنزالات والتدريبات العسكرية.
كما تحيط بالقصر أراض شبه صحراوية، وتم اختيار هذا الموقع بعناية من قِبل الأمويين لأسباب عدة منها؛ توفر المياه عبر قنوات مائية وخزانات، ووقوعه على طرق التجارة والقوافل المتجهة من الشام إلى العراق والحجاز، فضلًا عن كونه يُستخدم كاستراحة للحكام والولاة أثناء تنقلاتهم.
وتعود أصول قصر الحلابات، حسب الخبراء، إلى العهد الروماني، في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، حيث أُنشئ في البداية كحصن عسكري صغير لحماية الطرق التجارية من الغارات، ثم تطور البناء في العهد البيزنطي، حيث أضيفت إليه بعض العناصر الدفاعية كالأبراج والأسوار، كما شهد القصر في العصر الأموي تحوّلًا جذريًّا لا سيّما في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك الذي أمر بتحويل الحصن إلى قصر فخم ومرفق إداري وديني، حيث جُدّد البناء بالكامل باستخدام الحجارة المحلية، وتمت إضافة عناصر زخرفية ومعمارية مميزة تعكس الفن الإسلامي في تلك الحقبة.
يمزج القصر بين الأساليب الرومانية والبيزنطية والإسلامية، ويتكوّن من أجزاء رئيسة تتمثل في الأسوار الخارجية مربعة الشكل المبنية من الحجارة البازلتية السوداء والحجر الجيري الأبيض، مما يُضفي عليه طابعًا فنيًّا خاصًّا، ويتخلل السور عدد من الأبراج المربعة التي كانت تستخدم للحراسة.
ويقع المدخل الرئيس لقصر الحلابات في الجهة الجنوبية، ويتميز بعناصر معمارية غاية في الدقة والإتقان، منها الأقواس نصف الدائرية والكتابات الكوفية، وينفتح على ساحة داخلية واسعة تحيط بها الغرف والمرافق.
أما المسجد الواقع داخل القصر فيعد أحد أبرز المعالم المعمارية رغم حجمه الصغير وذلك لأنه مليء بالنقوش والزخارف الإسلامية، وبه محراب تمت زخرفته بزخارف جصية، وتظهر في جدرانه عناصر زخرفية إسلامية بدائية منها تشكيلات للنجوم وللأشكال الهندسية.
ويحتوي مجمع قصر الحلابات كذلك على نظام حمّامات متكامل يُظهر تأثر الأمويين بالثقافة الرومانية والبيزنطية، حيث يوجد نظام أرضي لتسخين الماء، وغرف ينساب عبرها الماء الدافئ والبارد، وهي أشبه ما تكون بالحمامات الموجودة في العصر الحديث.
ويحتوي القصر على عدد من القاعات والغرف السكنية والإدارية، والتي كانت تُستخدم لاستضافة الوفود أو لإقامة الخليفة أو الحاكم أثناء زياراته.
أما الجدران فقد تزيّنت بالزخارف والنقوش الجصية والفسيفساء التي عرفتها المنطقة منذ قرون بتأثير من الحضارتين الرومانية والبيزنطية، خاصة في استخدام الأشكال النباتية والحيوانية والهندسية، وقد وجد الباحثون مجموعة من الكتابات الكوفية التي تعد اليوم من أقدم ما كتب بهذا الخط العربي المعروف.
وفي أوائل القرن العشرين بدأت أعمال التنقيب والحفريات الأثرية في قصر الحلابات من قبل البعثات الأردنية والدولية، وتم خلال هذه الأعمال ترميم أجزاء من القصر، وخاصة المسجد والسور، مع المحافظة على النمط الأصلي للبناء.
ويُعد قصر الحلابات اليوم موقعًا سياحيًّا له أهمية حضارية وتاريخية، تشرف عليه وزارة السياحة والآثار، ويستقطب الزوّار من داخل الأردن وخارجها، خاصة المهتمين بالآثار الإسلامية، كما تُنظَّم زيارات للموقع ليطلع الطلبة والمهتمون على جماليات القصر الساكن في قلب الصحراء الهادئة شاهدًا على عظمة العمارة الإسلامية المبكرة في المنطقة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مبادرات وجهود ملموسة للحفاظ على ملامح العمارة العُمانية التقليدية
كتبت - أسماء بنت خلفان الغدانية -
تحتفظ العمارة العُمانية التقليدية بملامح التاريخ وتقدم سردًا أصيلًا لتجربة الإنسان العُماني في التكيف مع تنوع بيئته وتضاريسه، وتتميز بخصوصية فريدة تعكس احترام المكان وقدرة العُمانيين على مواجهة تحديات الطبيعة المتنوعة، مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من العمارة الإسلامية، ويتجلى هذا التنوع في تصاميم المباني من حيث الطابع الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، حيث تختلف كل منها في هيئتها وجمالياتها المعمارية.
تاريخ وحضارة
تُعبّر العمارة العُمانية التقليدية عن علاقة وثيقة بين الإنسان العُماني ومكانه الذي يعيش فيه، حيث تعكس الاحترام للطبيعة والموارد المتاحة لضمان الاستقرار والمعيشة الكريمة، ويعد الماء العنصر الأساسي في تحديد مواقع الاستيطان، حيث تؤثر وفرة المياه على مساحة البناء والزراعة، وتتحدد الأنماط المعمارية بناء على طبيعة الموقع والموارد المحيطة، وتتميز العمارة العُمانية بتنوعها، إذ نشأت منذ العصور القديمة، مما يُظهر عبقرية العُمانيين في التكيف مع بيئتهم.
وقالت الدكتورة نعيمة بنت أحمد بن قاري أستاذ مساعد في قسم الهندسة المدنية والمعمارية في كلية الهندسة بجامعة السلطان قابوس: «تمتد عمارة سلطنة عُمان المحلية إلى الألف الثالث قبل الميلاد، حيث كشفت الحفريات في رأس الحد إلى مستوطنات تذهب عمارتها وتقسيماتها إلى حد بعيد لمباني الحارات العُمانية التي نجدها اليوم». موضحة أن المقابر مخروطية الشكل التي تعد من أقدم الآثار العُمانية المسجلة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، وتعد أحد أنماط العمارة العُمانية القديمة أيضًا كما يُعتقد أن المؤثر الديني كان من أكبر المؤثرات على العمارة العُمانية التي ما زالت نشهدها اليوم، فعمارة عُمان المحلية نجدها متشبعة بمقومات العمارة الإسلامية التي تم تحويرها حسب الاحتياجات المحلية، فنتج عن ذلك طابع إسلامي محلي عُماني بذاته يتميز ببساطة مفرداته ووضوح لغته الفنية، والاقتصاد في المواد، والمساحات المخصصة للأنشطة واستعمال المواد المحلية من الطين والحجر والصاروج والخشب وسعف النخيل وغيرها من المواد التي ساهمت في نحت شكل العمارة العُمانية».
ملامح العمارة التقليدية
تتنوع العمارة العُمانية بين الأنماط المدنية والدفاعية والدينية، ويتمثل طرازها في القلاع والحصون، ويشمل الأبراج والأسوار، إضافة إلى الجوامع بمختلف عناصرها من قباب ومنابر ومحراب، ويُبرز الشكل الدفاعي المتمثل في الحصون والقلاع دور الموقع الاستراتيجي لعُمان، وتُعرف المساجد بتصاميمها البسيطة التقليدية بينما تتميز الحديثة بتأثيرات من العمارة الإسلامية الفاطمية والعباسية، وتعد المقابر الأثرية في منطقة بات بولاية عبري من أقدم الآثار، فضلًا عن المستوطنات في الجبل الأخضر ونزوى وبهلا، كما أن البيوت العُمانية القديمة المُصنعة من الخشب تحمل كل نافذة وباب فيها قصة تُعبر عن الهُوية الثقافية، وتمثل حارات مثل العقر في نزوى نماذج حية للعمارة التقليدية، أما النقوش والرسومات على الصخور والمباني فهي تُضاف كفن معماري يعكس براعة الإنسان العُماني، مما يعزز من قيمة التراث المعماري العُماني وكينونته.
الفن المعماري
يقول الدكتور ناصر بن صالح الإسماعيلي باحث في التاريخ وناشر لأبحاث تربوية وتاريخية: «لطالما كانت البيئة المحيطة هي مصدر الإلهام للفن المعماري العُماني، إذ تميزت العمارة العُمانية باستخدام مواد بناء محلية مستمدة من البيئة الطبيعية المحيطة، مثل الحجر، والطين، والجص، وسعف النخيل، والخشب، وقد ساهم هذا التوجه في إيجاد عمارة متكيفة بيئيًا، ومعبّرة عن موارد المكان وتنوعه الجغرافي والمناخي، إذ تعتبر الحجارة من أبرز مواد البناء وقد كانت تُستخرج من الجبال المجاورة، ومن الأودية القريبة لما تتمتع به من صلابة ومقاومة للعوامل المناخية مثل الحرارة والأمطار والرياح، كما يمنح المباني مظهرًا مهيبًا ومتينًا، وتم استخدام الطين في البناء في الكثير من الولايات، حيث يتم خلطه بالقش أو التبن لزيادة تماسكه، ثم يُشكّل على هيئة قوالب تُجفف تحت أشعة الشمس، وقد استُخدم الطين في بناء البيوت والأسوار والحصون كونه يتميز بالوفرة وكذا العزل الحراري، فيحافظ على برودة المنازل في الصيف ودفئها في الشتاء، ما يجعله مثاليًا للبيئة الحارة والجافة في سلطنة عُمان».
وأضاف الإسماعيلي: «أما عن مادة الجص والمعروف أيضا بالصاروج، فكانت تستخدم أساسًا في تغطية الجدران سواء الداخلية أو الخارجية وبالتالي يزيد من عمرها الافتراضي ويضيف لها منظرا جميلاً متماشياً مع البيئة المحيطة، وكذلك استخدم الجص العُماني في النقوش والزخارف على الجدران والأقواس، وقد تفنن العُمانيون في تشكيل الجص بأنماط هندسية ونباتية دقيقة تعكس مهارة الحرفيين المحليين وعنايتهم بالقيم الجمالية، أما بالنسبة لسعف النخيل وجذوعها والخشب كانت إحدى المواد البيئية التي استخدمت في بناء الأسقف، كما استخدم الخشب أيضا للأبواب والنوافذ، وتميزت الأبواب بالزخارف والنقوش الهندسية والنباتية التي توضح دقة الصنعة والعناية بالمنظر الجمالي». موضحا أنه تم جلب بعض الأخشاب المستخدمة في صناعة الأبواب والنوافذ من الدول المجاورة كنوع من الانفتاح الحضاري مع الآخر على سبيل المثال الباب الرئيسي لحصن الشباك بعلاية إبراء الذي تم جلبه من سرت بالهند قبل ما يزيد على ثلاثة قرون وهو بحد ذاته لوحة فنية جميلة ويعرض حاليا في المتحف الوطني.
وأشار في حديثه إلى أن بعض الصحون الخزفية كان لها دور في العمارة العُمانية التقليدية، إذ تميزت بعض الحصون باستعمال الخزف لتزيين أسقفها وجدرانها وقد تم جلب هذا الخزف من بلاد فارس ليشكل لمسة جمالية للحصون كحال إحدى غرف حصن الشباك بعلاية إبراء، والتي ألصقت في سقفها جملة من القطع الخزفية لتضيف منظرا جميلاً ورمزاً للتواصل بين الحضارات، مؤكدا أن جميع المواد المستخدمة وكيفية البناء تشرح براعة وابتكار الإنسان العُماني القديم، فمهارته لم تكن مجرد بناء وعمران، بل استغلال للبيئة وتكييفها لصالحه.
جهود ملموسة
وقال الدكتور ناصر: «تظل سلطنة عُمان تبذل جهودًا ملموسة للحفاظ على تراثها المعماري، إدراكًا منها لأهمية العمارة التقليدية في تعزيز الهُوية الوطنية ودعم السياحة الثقافية، رغم ذلك، لا تزال تلك الجهود محدودة أمام كثرة المواقع التاريخية، لكنها تشمل مشاريع ترميم وصيانة العديد من المباني التاريخية، كالحصون والقلاع والأسواق القديمة، ومن أبرز هذه الجهود مبادرة إحياء العمارة، التي نظمها مكتب صاحب السمو السيد بلعرب بن هيثم آل سعيد، والتي تهدف إلى تعريف الزوار بقيمة العمارة وابتكاراتها من خلال متحف عُمان عبر الزمان بولاية منح. تسعى هذه المبادرة إلى تعزيز الوعي بأهمية العمارة كمكون رئيسي من مكونات الهُوية الوطنية وتحفيز المجتمع على استكشاف تأثيرها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. كما تهدف إلى إشراك فئات المجتمع المختلفة في حوارات حول العمارة، وخلق بيئة داعمة للإبداع والريادة، وتعزيز فرص الكادر المعماري في سوق العمل العُماني، بالإضافة إلى ذلك، يمثل مشروع التجديد الحضري للحارات القديمة في محافظة شمال الشرقية خطوة مهمة نحو الحفاظ على العمارة العُمانية التقليدية، وتقوم الجهات المعنية، بصفة خاصة وزارة التراث والسياحة، بتنفيذ مشاريع التطوير والترميم والصيانة، ولم تقتصر هذه الجهود على الهيئات الحكومية، بل ساهمت المبادرات المجتمعية أيضًا، حيث عمل الأهالي على ترميم المنازل القديمة وتحويلها إلى متاحف وبيوت ضيافة تراثية، مما ساهم في إنعاش السياحة والحفاظ على الطابع العمراني التقليدي».
من جانبه قال محمد بن أحمد البرواني أحد الشغوفين بالعمارة العُمانية: «عند الحديث عن العمارة العُمانية التقليدية، نبدأ بتعريف المواد المستخدمة، إذ تعد هذه العمارة تجسيدًا فريدًا للفنون المعمارية التي انتشرت عبر العصور، مُستندة على مواد محلية طبيعية كالتربة والحجر والجص، ويعود تاريخها إلى عصور طويلة وتتميز بأساليب بناء متوارثة تعكس الخصائص البيئية والاجتماعية والثقافية للمجتمع العُماني، وتعتبر القرية العُمانية نموذجًا متقنًا في العمران، حيث صُممت بتفانٍ لتكون حصينة ضد أي اعتداءات، سواء كانت بشرية أو حيوانية، مما منحها شعورًا بالاستقرار والأمان، وتمتاز القرية بمعمارها الفريد وحصونها المحيطة، إضافةً إلى الأفلاج التي تعبر عبرها، مما يضفي لمسة من الابتكار والطابع التقليدي، هذا التزاوج بين التحصين وعمارة الحدائق الغناء يُظهر عمق أصالة تصميمها ودقة تنفيذها، مما أسهم في تشكيل حضارة أخرجت المبدعين والمفكرين الذين عُرفوا بإنجازاتهم، وتجولوا في الهند وأفريقيا، وقطعوا البحار شرقًا وغربًا، مُرَسِّخين إرثهم العُماني الغني».