غطرسة القوة في مواجهة منطق التاريخ
تاريخ النشر: 21st, June 2025 GMT
تواصل إسرائيل، وحكومتها بقيادة نتنياهو، التصرّف كأنها الحاكم الإمبريالي لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها، وتستند في ذلك إلى دعم وتواطؤ أمريكيين مطلقين، وإلى دعم واسع من دولٍ غربية عديدة، وصمت كثيرين على جرائمها.
لم تكتف إسرائيل بحرب الإبادة الجماعية والتجويع التي تشنّها على قطاع غزّة بغرض تطهيره عرقياً، ولا بحرب التوسّع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي على الضفة الغربية لضمّها بالكامل وتهويدها.
من المبكر الحكم على ما ستؤول إليه المغامرة الإسرائيلية العسكرية الجارية ضد إيران، بعد أن حملت مفاجآت كثيرة، منها هشاشة المناعة ضد الأذرع الاستخبارية الإسرائيلية التي تستفيد بكل تأكيد من دعم استخباري أمريكي وغربي، وربما من بعض دول المنطقة، وتستغل إسرائيل كل ذلك الدعم لتصوير نفسها القوة العظمى الجبارة التي لا تُقهر. وهي صورة اهتزّت بشدة مع رد الفعل الإيراني وفشل منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والأمريكية في ايقاف الصواريخ الإيرانية التي انهمرت بدقةٍ لا سابق لها، وفي موجات متتابعة، على تل أبيب وجميع مناطق الكيان الإسرائيلي. ومؤكّد أن إسرائيل سعت إلى تطوير قدراتها التكنولوجية والعلمية منذ نشأتها، كما وضعت الولايات المتحدة قدراتها العسكرية والعلمية تحت تصرّفها، وهي لا تخفي اعتبارها إسرائيل الحليف الاستراتيجي الأول عالمياً، بل والسند الأكبر لحماية مصالحها في المنطقة.
وكما أظهر العدوان الهمجي على غزّة، فإن الدعم الأمريكي لإسرائيل مفتوح ومطلق، بغضّ النظر عمّن يجلس في مقاعد الحكم في الإدارة الأمريكية. ولا يمكن لأي عاقل أو موضوعي أن يدّعي أن إسرائيل كانت ستستطيع تنفيذ هجومها على إيران من دون الدعم والإسناد والموافقة من واشنطن. والأغرب من ذلك اندفاع حكومات أوروبية إلى دعم ما سمّته “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وهي تُرسل طائراتها لتقصف وتقتل وتدمر في إيران، وقبل أن تردّ عليها إيران بأي شكل. ولم نسمع أيا من هذه الدول تتحدّث عن حق الفلسطينيين بالدفاع عن أنفسهم في غزّة حتى بعد تعرّضهم للإبادة الجماعية، وبعد قتل إسرائيل عشرين ألف طفل منهم، وقتل وجرح أكثر من 10% من أهالي القطاع. غير أن ما فشلت إسرائيل وحكّامها في قراءته وفهمه هو التاريخ ومساراته. والأمر لا يقتصر على الحكام بل يمتد إلى الجمهور الإسرائيلي الذي قال 64% منه في استطلاع للرأي أخيراً أن لا وجود للأبرياء في قطاع غزّة، أي أن الأطفال والنساء وذوي الإعاقة وجميع المدنيين أهداف مشروعة لآلة القتل الإسرائيلية.
وفي خضم الضربات والإنجازات العسكرية والاستخبارية الأولى، غاب الوعي الموضوعي الإسرائيلي، وهذه ليست أول مرّة في تاريخ الكيان الإسرائيلي، إذ شهدناه بعد عدوان 1967، ولم يوقظ إسرائيل من هيجانها المتغطرس سوى حرب أكتوبر (1973)، كما توقظها موجات الصواريخ اليوم، وبعد اتضاح حجم المبالغة في إنجازاتها الأولى.
إسرائيل مغرمةٌ بتصوير نفسها في صورتين متناقضتين، اولاهما صورة الضحية المضطهدة والمستهدفة، حتى وهي تشنّ الاعتداءات على الآخرين وتبطش بهم، هي قادرة على استحضار حالات الاضطهاد التي تعرّض لها اليهود في أوروبا من الهولوكوست الفاشي واللاسامية والبوغرومات لتأكيد ذلك. والثانية صورة القوة العظمى الجبّارة كلية القدرات، والقادرة على إلحاق الهزيمة والإذلال بأعدائها. هي”ديفيد” و”جالوت” في الوقت نفسه، وهي مالكةٌ الحقيقة في كل الأحوال.
نسي حكّام إسرائيل ما حذّر منه بعض قادتها، أن إسرائيل أصبحت، في نظر معظم شعوب العالم، كياناً منبوذاً موصوماً بارتكاب جرائم الحرب ضد الإنسانية، ويتجاهلون ما كتبه المعلق في صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان عن أن إسرائيل تنحدر نحو هاوية العزلة. ولكن الأهم من البعد الأخلاقي والمعنوي الذي لا يعبأ به رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، الاعتبارات الاستراتيجية في تحديد موازين القوى، لحقائق الجغرافيا والديمغرافيا وتاريخ الشعوب ومعتقداتها.
هل تظن إسرائيل حقاً أنها تستطيع أن تحكم منطقة تضم أكثر من 500 مليون إنسان وعلى امتداد بقعة جغرافية مترامية الأطراف؟ وهل تعتقد أنها تستطيع إلحاق الهزيمة بدول ضخمة ذات عناد أيديولوجي وعقائدي عميق، وهي التي لم تستطع قهر قوة مقاومة صغيرة نسبياً بعد 22 شهراً من عدوانها على قطاع غزّة، رغم قتلها وجرحها عشرات الآلاف من سكّانه، وتدميرها أكثر من 90 % من بيوتهم ومؤسّساتهم.
ألم تتعلّم من تجارب قوى الإمبريالية الكبرى التي كانت أكبر منها وأضخم منها بعشرات المرّات؟ هل نسيت أن فرنسا هزمت في فيتنام ثم هزمت في الجزائر حتى انكفأت عن أطماعها الاستعمارية؟ وهل نسيت ماذا حلّ بالولايات المتحدة، حليفتها الكبرى، في فيتنام، الصغيرة بقدراتها والكبيرة بإرادة التحرّر لشعبها؟ أم هل نسيت ما جرى في العراق بعد احتلاله؟ وكيف هربت القوات الأمريكية من أفغانستان مجلّلة بمهانة لا ينفك الرئيس الأمريكي ترامب يذكرها؟ هل حققت الاغتيالات يوماً نصراً لأحد، ولو كانت تحقق ذلك، لانتهت الحرب في قطاع غزّة منذ زمن، ولما حدث “7 أكتوبر” نفسه؟
يعبث نتنياهو اليوم ليس فقط بدول المنطقة، ويتلاعب بالتوازنات الاستراتيجية خدمة لمصالحه قبل كل شيء، ولكن أيضاً خدمة لأيديولوجيته العنصرية المتطرّفة، ولكنه يعبث أيضاً بمستقبل الإسرائيليين أنفسهم، وباستقرار المنطقة بأسرها. وهناك حقيقة لم يستطع نتنياهو وحكومته تجاوزها، ولن يستطيعوا تجاوزها، أن الشعب الفلسطيني لم يرضخ ولن يستسلم لمشروع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، رغم كل ما تعرّض له من مجازر ونكبة وقمع واحتلال وتمييز واضطهاد عنصري على امتداد مائة عام. ولذلك يستمر فشل السياسات الإسرائيلية ويتكرّر صدامها الحتمي بشعوب المنطقة. ولعل نتنياهو يحتاج من يذكّره بما قالته رئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير، عندما أجبرها وزير خارجية أمريكا، كيسنجر، على وقف إطلاق النار خلال حرب اكتوبر 1973: “ما أصغرنا أمام الكبار وما أضعفنا أمام الأقوياء”.
يستطيع الصغير أن ينام ويحلم بأنه أصبح عملاقاً، ولكنه سيستيقظ عاجلاً أم آجلا، وسيكتشف أنه، كما كان، صغيراً.
كاتب وسياسي فلسطيني
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
تحوّلات الردع وتوازن القوة غير المتماثل.. قراءة إستراتيجية في تصاعد الصراع الإيراني – الإسرائيلي
تمرّ منطقة الشرق الأوسط بلحظة تحول إستراتيجي حاد في ظل تصعيد غير مسبوق بين إيران وإسرائيل، يُخرج الصراع من قوالب الحرب بالوكالة إلى مواجهات مباشرة تختبر نظريات الردع التقليدي وتعيد تعريف موازين القوة. حيث تتبنى إسرائيل عقيدة الردع التراكمي المدعوم بالتفوّق النوعي الاستراتيجي، مستندة إلى بنية متكاملة من الدفاعات الجوية متعددة الطبقات، والاستخبارات عالية الدقة، والقدرات السيبرانية. وإن هذا التحول يعكس ابتعادًا تدريجيًا عن منطق الضربة الاستباقية المباشرة نحو احتواء التهديدات عبر تقنيات دقيقة واستجابات محسوبة. ورغم هذا التفوّق، تعرضت العقيدة الإسرائيلية لاختبارات قاسية، لا سيما في هجمات غير تقليدية كشفت عن هشاشات بنيوية في منظومة الردع.
وفي المقابل، تعيد إيران صياغة معادلتها الردعية من خلال نموذج الردع غير المتكافئ، القائم على استراتيجية الدفاع بالعمق والتوسع الإقليمي عبر شبكة من الوكلاء. الضربة المباشرة التي استهدفت تل أبيب تمثل تجاوزًا نوعيًا في العقيدة الإيرانية، إذ كسرت حاجز “الحصانة الجغرافية” الذي طالما اعتبرته إسرائيل من ركائز أمنها القومي. وتدور اليوم معادلة إستراتيجية معقدة عنوانها “سباق السيف والدرع”؛ فإسرائيل تراهن على تفوقها التكنولوجي والاستخباراتي. وإيران تراهن على شبكاتها المتبقية، والتمدد الجغرافي، وتعدد أدوات الضغط العسكري والنفسي.
وإن هذه الثنائية أدخلت المنطقة في مرحلة ردع متبادل غير متوازن (Asymmetric Mutual Deterrence)، وهي حالة تجمع بين الاستقرار الظاهري والهشاشة البنيوية، ما يعزز من احتمالات الانزلاق العرضي نحو مواجهة شاملة. وفي ضوء ذلك، يصح ما قرره “كلاوزفيتز” بأن “الحرب امتداد للسياسة بوسائل عنيفة”، ويفرض على الباحثين تفكيك أبعاد هذا الصراع لا بوصفه مواجهة عسكرية فقط، بل باعتباره انعكاسًا مركبًا لبنية العقائد، والتحولات الجيوسياسية، والمنظومات التكنولوجية المتقدمة.
البُعد الجيوسياسي؛ تشكُّل محاور متحركة وتحالفات وظيفيةلا يُقاس التصعيد الإيراني–الإسرائيلي بآثاره الميدانية المباشرة فحسب، بل بما أحدثه من خلخلة في بنية التحالفات الإقليمية والدولية، وكشفه لجيولوجيا جديدة في توازن القوى. فالمعادلة الجيوسياسية الراهنة تُظهر ارتباكًا في تموضع القوى الكبرى:
الولايات المتحدة تمارس ما يمكن تسميته بـ”الردع الصامت” أو Strategic Restraint، عبر دعم مشروط لإسرائيل دون التورط في تصعيد قد يهدد استراتيجيتها العالمية في مواجهة الصين. روسيا تتبنى خطابًا دفاعيًا يحمي مصالحها المتآكلة في الشرق الأوسط، مستخدمة الحضور الإيراني كأداة ردع ضد التفرد الإسرائيلي. الصين، تنظر للصراع من زاوية الجغرافيا الاقتصادية، وتُفعّل دبلوماسية “ضبط النفس” لحماية مصالحها الطاقية ومشروع “الحزام والطريق”.وأما إقليميًا، فتتسم المواقف ببراغماتية وظيفية أكثر منها عقائدية:
تركيا تتبنى موقفًا موازنًا يرفض الضربات الإسرائيلية إعلاميًا، دون التورط عمليًا في دعم طهران، تعزيزًا لمكانتها كقوة سنية مستقلة. بعض دول الخليج، كالإمارات والبحرين، تُظهر حيادًا معلنًا، فيما تشير التقارير إلى تنسيق استخباراتي غير معلن مع إسرائيل، استمرارًا لتفاهمات ما بعد “اتفاقيات إبراهيم”. مصر والأردن، المتأرجحتان بين الهواجس الأمنية والضغوط الشعبية، تنحوان إلى التهدئة نظرًا لهشاشة جبهاتهما الداخلية.ويُعيد هذا المشهد إنتاج “صراع المحاور” بصيغته الحديثة، حيث تتكوّن تحالفات مرنة مبنية على الخوف المشترك من الانهيار أو التمدد المعاكس، لا على التوافق الإيديولوجي. إنها تحالفات ظرفية لا تُؤسس على مشروع إقليمي جامع، بل على ردود أفعال محسوبة ضمن بيئة أمنية هشة.
البُعد العقائدي والسياسي؛ صراع الرموز وتعبئة الهوياتيستبطن الصراع الإيراني – الإسرائيلي بُعدًا رمزيًا وهوياتيًا يُضاعف من تعقيد المشهد، إذ تتحول الخطابات إلى أدوات تعبئة، وتغدو الذاكرة التاريخية جزءًا من منظومة الاشتباك العسكري .. فإسرائيل تعيد تفعيل سردية “التهديد الوجودي”، وتستدعي في خطابها مفهوم “ردع الكارثة” (Catastrophic Deterrence)، حيث يُبرر اتخاذ أقصى أشكال المبادرة تحت وطأة ذاكرة الإبادة الجماعية وأسطورة الانهيار المصيري (ماسادا). وأما إيران، فترتكز في شرعيتها الرمزية على مركزية القضية الفلسطينية، وتحوّل مواجهة إسرائيل إلى مرآة لخطابها العقائدي التحرري. ,تستحضر خطاب “كربلاء” لتبرير الاستمرار والمواجهة، حيث تتحوّل الهوية الدينية إلى أداة سياسية عابرة للحدود.
وفقًا للمفكر ألكسندر ويندت، فإن النظام الدولي يتشكل بقدر ما يتشكل من القوة المادية عبر الصور المتبادلة للذات والآخر. وهنا تكمن خطورة هذا الصراع الرمزي: إذ يصعّب الانسحاب ويحوّل التسوية إلى فعل “خيانة رمزية”، ما يجعل من كل جولة تصعيد بمثابة إعادة تكوين للهويات، لا فقط لتوازنات القوة.
سياسيًا، يوظف الطرفان التصعيد كأداة لإدارة التوترات الداخلية:
إيران تستخدم الخطاب المقاوم للالتفاف على أزماتها الاقتصادية وتعزيز السيطرة الداخلية. إسرائيل تستثمر المواجهة لتوحيد صفوفها في ظل انقسامات حادة تتعلق بالقضاء والسياسة والدين.لكن الإفراط في الاستثمار الرمزي يؤدي إلى مأزق استراتيجي: كلما ارتفعت سقوف التعبئة، ضاق هامش المناورة السياسية، واتسعت احتمالات الانفجار غير المحسوب.
البُعد الاقتصادي؛ الصراع عبر أمن الطاقة والعقوبات وتوازن المواردفي عالم تزايد فيه تسييس الاقتصاد وتوظيف الطاقة كأداة استراتيجية، يشكل البعد الاقتصادي في الصراع الإيراني – الإسرائيلي جبهة موازية لا تقل أهمية عن الجبهة العسكرية. فالشرق الأوسط، بصفته عقدة مركزية لشبكات الطاقة العالمية، أصبح ميدانًا مفتوحًا لمعادلات الردع الاقتصادي.
وتلوّح إيران بورقة مضيق هرمز باعتباره أداة “خنق استراتيجي” للغرب، في حال تطوّر التصعيد، وهو تهديد يهدد نحو 20% من إمدادات النفط العالمية. في المقابل، فإن أي استهداف لمنشآت الغاز الإسرائيلية أو خطوط الطاقة الخليجية سيقود إلى اضطرابات في أسواق الطاقة العالمية، بما يعيد للأذهان “صدمة النفط” في سبعينيات القرن الماضي.
كما تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية أدوات العقوبات الاقتصادية المركبة لخنق القدرات المالية الإيرانية، من خلال ملاحقة شبكات التهريب والتمويل، وتجميد أصول الحرس الثوري، وهو ما يشكل نوعًا من الردع غير المباشر. وفي المقابل، تعتمد إيران على “اقتصاد الظل” وتحالفات مرنة مع الصين وروسيا، لضمان الحد الأدنى من الاستمرارية المالية لمشروعها الإقليمي.
ورغم ما تتمتع به إسرائيل من متانة اقتصادية وتقنية، فإنها ليست بمنأى عن الخسائر. فالتعبئة الأمنية، وتذبذب الأسواق، وتراجع ثقة المستثمرين، جميعها مؤشرات على التكلفة الاقتصادية للحرب اللاخطية، خاصة إذا ما طالت منشآت الطاقة أو البنية التحتية الحيوية.
وهكذا يتشكل ردع اقتصادي متبادل، تتقاطع فيه خطوط النفط والغاز مع مسارات الحرب، ويُعاد فيه تعريف الأمن القومي من خلال السيطرة على الموارد والأسواق، لا فقط على المواقع والمعابر.
البُعد السيبراني والإعلامي؛ السيطرة على الوعي وإعادة تشكيل الإدراكأصبح ميدان الحرب اليوم متعدد الطبقات، يمتد من الأرض إلى الفضاء الرقمي، ويعتمد على ما بات يُعرف بـ “الردع الإدراكي”، حيث تُصاغ الانتصارات والهزائم بقدر ما تُصاغ الحقائق.
تتنافس إيران وإسرائيل في ساحة الحرب السيبرانية والإعلامية على امتلاك الرواية والتأثير في الإدراك الجمعي. يُوظف الإعلام الرسمي والرقمي في كلا الجانبين كمنصات تعبئة نفسية وخطابية، حيث تتقاطع الرسائل الرمزية مع الأدوات التقنية لخلق صورة تفوق متخيلة، لا تقل أثرًا عن التفوق العسكري الميداني.
في هذا السياق، تُعد الحسابات على منصات مثل “إكس” و”تلغرام” أدوات فعالة في ما يُعرف بـ**”الحرب النفسية الرقمية”**، حيث تُبث الإنذارات الكاذبة، وتُضخم أو تُقلل من حجم الأحداث، في محاولات لإعادة تشكيل مشاعر الثقة والخوف.
أما في البُعد السيبراني، فينخرط الطرفان في حرب ظل تعتمد مبدأ “الضربات المحدودة دون التصعيد”، حيث تستهدف البنى التحتية الحساسة بطريقة مدروسة، لإيصال رسائل ردعية دون تجاوز عتبة الانفجار الشامل. لكن خطر “الضربة السيبرانية القاضية” يبقى قائمًا، وهي هجمة رقمية كبرى قد تشل منشآت دولة بأكملها.
وبهذا، يظهر هذا الصراع نموذجًا مكتملًا لما يسميه ويليام ليند وتوماس هامز بـ”الجيل الخامس من الحروب”، حيث تتقاطع فيه أدوات الإعلام، والسيبرانية، والتلاعب بالحقائق، لصناعة واقع إدراكي يسبق، بل ويحدد، نتائج الحرب الفعلية.
ما بعد الردع التقليدي؛ الشرق الأوسط على تخوم معركة مفتوحة أو حسم تفاوضيتكشف المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية عن تحوّل استراتيجي عميق في طبيعة الحروب وتوازنات القوة، حيث تختلط القوة الصلبة (الضربات العسكرية) بالناعمة (السيطرة الرمزية)، وتتداخل الميادين من الجغرافيا إلى الوعي، ومن العقيدة إلى الاقتصاد. وقد أثبتت هذه المواجهة أن الردع الإسرائيلي التقليدي لم يعد كافيًا، في ظل خصم يمتلك عقيدة مرنة، وأذرع متعددة، واستعدادًا للتضحية عبر نموذج “الردع المتحرك” و”الإنهاك المتدرج”. وفي المقابل، ورغم تفوق إسرائيل التكنولوجي والاستخباراتي، فإنها تواجه بيئة ردع غير متكافئة لا تتيح لها الحسم المباشر دون تكلفة باهظة.
وإن مستقبل هذا الصراع سيُحدده نجاح الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها الطرف الوحيد القادر على ضبط التوازن، في تفعيل أدوات التهدئة واحتواء الانزلاق. وإلا، فإن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة جديدة من الحروب الهجينة، حيث تُرسم خطوط النفوذ لا عبر المعارك التقليدية، بل عبر السيطرة على فضاءات العدو، والدور الإعلامي، والتحكم في حالة الأسواق، والتعبئة الرمزية، في ما يشبه “إعادة هندسة” لحالة التحالفات والتوازانات الأمنية والجيو سياسية في الإقليم.
المراجع
– Center for Strategic and International Studies (CSIS), The Iranian Way of War: How and Why Iran Uses Force, December 2022, https://csis.org.
– Vali Nasr, The Shia Revival: How Conflicts within Islam Will Shape the Future (New York: W. W. Norton, 2006).
– Ynet News, “Cyber War Heats Up: Iranian Hackers Target Israeli Infrastructure,” Ynetnews, April–June 2024, https://ynetnews.com.
– Ze’ev Schiff and Ehud Ya’ari, Israel’s Lebanon War, trans. Ina Friedman (New York: Simon & Schuster, 1984).
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.