لجريدة عمان:
2025-07-01@09:46:02 GMT

البحر صورة أخرى للمسافة

تاريخ النشر: 30th, June 2025 GMT

للبحر ارتباط وثيق بذاكرة الإنسان، امتطى أمواجه مسافرا عبرها إلى الأمكنة البعيدة، ووصف زرقته وجمالها المتخيل، وكتب حكاياته وأساطيره العظيمة، حتى أصبح مرآة لأدبيات الشعوب وتراثهم التاريخي والفني؛ إذ لا تخلو النصوص الأدبية من حكايات البحر وأخباره؛ فكُتبت النصوص المتخيلة من موج البحر وزرقته تعبيرا حيا لأهميته الأدبية.

في هذه المقالة سأتتبع بعضا من صور البحر التي تتشكل المسافة منه مانحة الفضاء الشعري اتساعا وتأويلا أكثر، وهنا نجد الشعراء يقتربون من البحر معبّرين عن المسافات البعيدة المتشكلة لحظة التأمل الشعرية، كما نجدهم يرسمون صورة للتباعد المتخيّل وكأن البحر باتساعه وغموضه قد رسم في ذهن الشاعر والمتلقي تلك دلالات فأعاد الشاعر إنتاجها في هيئة نص.

هنا أقف على نص للشاعر محمود حمد بعنوان «عروس البحر» فأجده يستخدم مفردتي (بعيدا عنك) و(الرحيل) في تكوين صورة لعروس البحر/ المكان؛ فتتكئ السطور الشعرية في تكوين الدلالات مانحة المسافات تأثيرها، ونجد النص يبدأ في سطره الأول بعبارة (أعوام تسرقني بعيدا عنك)، من هنا تتجسد المسافة لتعبّر عن لحظة مختبئة في تفكير الشاعر؛ إذ تكبر المشاعر لحظة القرب والبعد، وفي اللحظة الزمنية (الغسق، الأعوام) التي تُطلق ذاكرتها في الفضاء المتخيّل.

هنا تتشكل المسافة كونها دلالة مركزية تنطلق من البحر لربطه بخيالات الإنسان، والمكان، والمشاعر والأحاسيس، نجده يربط ذلك قائلا:

أعوام

تسرقني بعيدا عنك

حين الكل

يكره ملحك الأبدي

يتَجَزَّؤون..

بلا امتداد البحر

عنك

كأنهم من

رجفة الصحراء

وأنا قريب منك

قرب البحر من خديك

في غسق الرحيل صُورُ النَّواخذة الذين يعلّمون الرمل في عُرس الشواطئ والسفن إني عشقتك دفئيني.

إنّ للمسافة عند محمود حمد قيمة مركزية تتمحور حولها الدلالات المُشكّلة للفكرة، التي يمكن اعتبارها قيمة مهمة في تشكيل الجانب العاطفي المتمثل في ثيمة الحب والعشق، فلفظة العروس في عنوان النص ولفظة (إني عشقتك) في آخر النص تتشكل عبر المسافة الممتدة زمنيا ومكانيا.

وإذا كان للمسافة عند محمود هذه القيمة فإن للمسافة عند عائشة السيفية ارتباطا بدلالات الفراق والهجران والغياب والحزن. تحلينا هذه الدلالات على إمكانية التعرف على تشكيل مثل هذه الصور في النص الشعري، وكيف استطاع الشعراء أن يجعلوا من البحر جسرا موصلا إلى المكان الآخر معبّرين عن مشاعرهم القلقة تجاه البحر؟ وكيف يمكن للزرقة أن تعكس صورة الحزن والبُعد والفراق في مخيلة الشاعر؟

في قصيدتها (البحر يبدّل قمصانه) تقدم عائشة السيفية صورة متخيلة للبحر، صورة قائمة على العلاقة المتبادلة بين طرفين تعكس من خلالها المشاعر المتصارعة:

يجاملني البحر بالأغنيات

فأشهق.

هل بدّل البحر قمصانه ليصير دمي عاريا

وأصير أنا ككمان بلا صاحب أو صديق؟

أفهم البحر أكثر من طفلة لدماها تغني

وأفهمه حين يهجرني الظل.. أو تتوكأ أشجار تشرين بي

ليس أكثر من دمعة سأريق على البحر.. كي يتقيأ ملحي

وليس سوى وتر وشراع سأكسر

كي يقذف البحر جمجمة الرمل بي.

لذا تمتزج حركة التعبير الشعري بدلالات الحزن والموت في غير موضع، إنها قرين الفراق والرحيل، فالمسافة التي خلّفها الموت وتشكّلت مقترنة بالبحر، جعلت النص يميل إلى الحزن في بناء دلالته، فكان الموت مسافة تمتد بامتداد البحر:

سأموت..

الدروب تعاشرني.. وأنا من دمي يتعرى مسيحٌ

ويقذفني البحر من زرقة المدِّ

أحتاج سربا من الغجر الثملين بأحزانهم؛ لأصليْ

آخر آلهة البحر.. كالنورسات التي لم تنبأ بمقتلها بعدُ

أحتاج بلورة لأدس القصيدة بين يدي والكمان العجوز

فالبحر إذن والدروب كلها مسافات تشكّلت في النص، وأفضت بالدلالات إلى الحزن العميق والفراق المحتمل. هكذا يصنع الشعر من البحر ملمحه الحزين، وهكذا تنتهي المسافة إلى الموت:

تسقط منا النبوة/ يرتفع الوحي شبرين عنا

ويرتفع الموت عنا مسافة أفواهنا وكؤوس الهزيمة

هل بدل البحر قمصانه ليقول لنا:

ظلكم حزنكم..

فلتكونوا كما تشتهون

قناني نبيذ

حذائين للرقص /

سبطين منتشيين /

دعاء حزينا على فم أم

لماذا يجاملنا البحر بالأغنيات؟

ولما نَشِخ.. أو يجف بأضلاعنا صوته الغجري القديم؟

وتكتب شميسة النعمانية عن البحر قصيدتها (سبحانه البحر) معبّرة عن الترحال، واليتم، والشوق المتشكل من دلالات الامتداد والأبد. يظهر البحر هنا متنفسا تبوح الذاكرة بأسرارها له، لا سيما البوح الزمني الممتد الذي تبتدئه بعبارات تمثّل البوح:

إليك جئت وهذا الشوق بسملتي... يحدو خطاي إلى برديكَ في سَعَدِ

إليكَ جئتُ أمدّ الكفَّ فاتحةً... آياتها النبضُ مذ كُوِّنتَ في خلدي

إليك يا بحرُ يا ملاح أغنيةٍ... شُبّاكها الدفءُ لا صنارةً بيدِ

إليكَ جئتُ وعشقي ملءُ قافيةٍ... من الأزاهيرِ عنها الشمس لم تَحِدِ

تتسع الذاكرة بعد ذلك باتساع البوح، فتتضمن الذاكرة المسافات المتخيلة القابعة في العقل الإنساني، وترتكز المسافة على دلالات مثل: (الترحال الأبدي، ازرقاقك العذب ممتدا بلا أمد، لعل موجك يمحو ما ذرى زمني، ونحن في اليتم بين الصيف والبَرَد).

للذاكرة مسافة ممتدة إذن. وللبوح مسافة. وهما مسافتان ارتبطتا بالبحر لحظة البوح:

خلعتُ عـنـي عـبـاءاتـي وعـمـتُ علـى... ازرقاقكَ العذبِ مُمتدا بلا أمدِ

هنا سأقضي صلاةً كنتُ أحملُها... على جبينيَ في ترحاليَ الأبدي

لعلَّ موجكَ يمحو ما ذرى زمني... على العيون التي كَلَّتْ من الرمدِ

وعلَّ رملَكَ يُصغي للأنامل في... حديث أبجدةٍ يُنْبِيكَ عن كَمَدِ

أنت الربيع الذي ما مر بلدتنا... ونحن في اليتم بين الصيفِ والبَرَدِ

على شواطيكَ باحَ السِّرْبُ غِنُوتَهُ... وعانق الموج مزهوًا بما يجدِ

هكذا يصبح البحر فضاءً مفتوحا للتأويل، ممتدا بمسافاته الزمانية منها أو المتخيلة، استقرأ الشعراء مضامينه وكونوا منها دلالاتها المتشكلة التي تُعينهم على بناء النص الشعري المتمثل في التخييل والتأمل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من البحر

إقرأ أيضاً:

النادي الأدبي بجدة يعزز مكانة التاريخ الأدبي عبر ملتقى “قراءة النص”

أثرى النادي الأدبي الثقافي بجدة المشهد الثقافي في المملكة، معززًا من مكانته التاريخية والأدبية، وذلك عبر ملتقى “قراءة النص” في نسخته الحادية عشرة لهذا العام، تحت عنوان “التاريخ الأدبي والثقافي في المملكة العربية السعودية بين الشفاهية والكتابية” بمشاركة نخبة من الأدباء والنقاد والمثقفين.

وتضمن الملتقى (50) ورقة بحثية، اختير (20) منها للمشاركة في جلساته، مما يعكس تميز موضوع الملتقى وأهميته في المشهد الثقافي، وسط تنافس المشاركين وتنوع أوراقهم البحثية، والباحثين الذين قدموا رؤى ثرية للملتقى.

وأوضح رئيس النادي الأدبي الثقافي بجدة الدكتور عبدالله عوقيل السلمي، أن الملتقى يأتي في إطار جهود النادي لتعزيز الحوار النقدي عبر دراسات نقدية وتاريخية معمقة، مشيرًا إلى أن الملتقى في نسخته الحالية يعكس التطورات المتسارعة في الحراك الثقافي السعودي، حيث يتناول تسعة محاور رئيسة تسلط الضوء على ثراء الثقافة السعودية، وتنوعها بين الموروث الشفاهي والإبداع الكتابي، من خلال استعراض قضايا أدبية وتاريخية تعكس تداخل الشفاهية مع التدوين في تشكيل المشهد الثقافي.

أخبار قد تهمك «ملتقى النصّ» يوصي بتأسيس مركز وطني لتوثيق التراث الشفوي السعودي 8 فبراير 2025 - 4:23 صباحًا ملتقى “قراءة النص 21” يوصي بتأسيس مركز وطني لتدوين التراث الشفوي السعودي 7 فبراير 2025 - 3:20 صباحًا

وناقشت جلسات الملتقى قضايا جوهرية تتصل بالثقافة الشفاهية والتاريخ الأدبي، وتشمل أصول الثقافة الشفاهية القديمة، والنقوش والوثائق التاريخية، والحرف اليدوية وتجلياتها في الأدب، مع استعراض أجناس الأدب الشفاهي وأبعاد السرد الأدبي في السير والتراجم والذكريات.

وتطرقت للمقاربات النقدية بين النص الشفاهي والنص الكتابي، وانعكاسات الإعلام القديم والحديث على المشهد الأدبي، في ظل ما يمثله الملتقى كمنصة فكرية تهدف إلى تحفيز الباحثين والمثقفين على دراسة الأدب وتطويره، إلى جانب تعزيز الاتجاهات الأدبية والإبداعية.

مقالات مشابهة

  • وداعًا يا مريم.. قصة الفراشة التي اختطفها البحر في تونس
  • فيديو متداول يوثق لحظة العثور على جثة الطفلة مريم في عرض البحر
  • هل غرقت في الأعماق؟.. قصة الطفلة مريم التي اختفت وسط البحر في تونس
  • تحذيرات صفراء وأمطار مفاجئة في تركيا اليوم الاثنين 30 يونيو.. حالة الطقس لحظة بلحظة
  • منع الصحافة و تلبية شروط تعجيزية لفنانين أجانب.. تفاصيل نسخة كارثية من مهرجان موازين
  • النواب يوافق نهائيا على زيادة ضريبة القيمة المضافة على السجائر والكحوليات وعدد من السلع والخدمات
  • عن عروس لبنان التي قضت بغارة إسرائيلية في الجنوب.. ماذا قالت سيرين عبد النور؟
  • حافز 600%.. ننشر النص الكامل لتعديلات قانون تنظيم أعضاء المهن الطبية
  • النادي الأدبي بجدة يعزز مكانة التاريخ الأدبي عبر ملتقى “قراءة النص”