مخطط «ترامب- نتنياهو!».. هل ينقذ «مجرم الحرب» ويسهّل السطو على لقب «رجل السلام»؟!
تاريخ النشر: 1st, July 2025 GMT
سقطت شريحة كبيرة من الرأي العام العربي في «فخ» المخطط الذي تناقشه، الآن، إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مع حليفه الرئيسي، بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، عندما اعتقدت أن أسماء الدول والزعامات العربية التي يتحدث عنها المشروع لها علاقة به أصلًا، وأن ما يحدث مجرد خطة إنقاذ لنتنياهو، وتحايل من ترامب للفوز بلقب «رجل السلام»، رغم أنه وإدارته شريكان في الصراع الإقليمي، وصراعات دولية أخرى.
ليس صحيحًا أن ترامب رقّ قلبه فجأة، ويرغب في إنهاء العدوان المستمر على قطاع غزة منذ ما يقرب من عامين، ومن ثم، فالتقارير التي تشير إلى تحركات دبلوماسية واسعة النطاق لا تهدف إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي، بل إلى تبييض سمعة الحليفين: ترامب ونتنياهو، عبر ما يسمى بتوسيع خطط التطبيع (اتفاقيات إبراهيم) ودعم حل الدولتين.
المثير أن الرأي العام العربي لا يدرك أبعاد المخطط (يطلق عليه في إسرائيل: درع إبراهيم)، الذي تروّج له هيئة البث الإسرائيلية، عندما نقلت عن مصادرها المحلية اتفاق ترامب- نتنياهو، خلال محادثة هاتفية، على إنهاء الحرب خلال أسبوعين، مع مشاركة دول عربية في إدارة قطاع غزة بعد الحرب، ونفي قيادات حماس، وإطلاق سراح الرهائن. وربما كانت الخطوة الأقرب إلى التصديق هي ضمّ سوريا إلى اتفاقيات إبراهيم، وإقامة علاقات دبلوماسية مشتركة.
مخطط التغرير يتضمن مبادرة إسرائيل بالتعبير عن استعدادها لدعم حل الدولتين، بشرط إصلاحات في السلطة الفلسطينية، بينما ستعترف الولايات المتحدة بتطبيق سيادة إسرائيلية محدودة على أجزاء من الضفة الغربية. وتصف الصحافة الإسرائيلية هذه الخطة بـ«الطموحة»، إذ تهدف إلى تغيير نظام التحالفات الإقليمية، مع التركيز على إضعاف نفوذ إيران وتفكيك الجماعات المتقاطعة معها.
مخطط ترامب- نتنياهو يتضمن السماح لسكان غزة بالهجرة «الطوعية» إلى دول أخرى (تستقبل دول أوروبية وغيرها الفلسطينيين الراغبين في الهجرة من غزة)، وهو اقتراح أثار انتقادات واسعة باعتباره تهجيرًا قسريًا تحت غطاء سياسي. وقد حذر مراقبون من أن إسرائيل تسعى لفرض واقع جديد في غزة يشبه الضفة الغربية، من خلال تقسيم القطاع إلى كانتونات معزولة، ومنع إعادة الإعمار إلا بشروط تلغي حق العودة.
مخطط ترامب- نتنياهو، يشارك في مناقشاته وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، ووزير الشئون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، إلى جانب قيادات سياسية وعسكرية وأمنية إسرائيلية، وأخرى مالية ومتخصصة في العمليات السيبرانية. وعلى سبيل الوقيعة بين الشعوب وحكوماتها، نشرت الجهات المعنية في إسرائيل صورًا ولوحات إعلانية ضخمة، عليها صور «تركيب» لبعض القادة العرب مع نتنياهو وترامب، مكتوب عليها: «تحالف الأمن الإقليمي - درع إبراهيم»!
المبادرة الإسرائيلية- الأمريكية تخطّط لـ«إغلاق جبهة غزة، وإعادة جميع المختطفين، وتشكيل حكومة انتقالية تكنوقراط في غزة، ونفي قادة حماس إلى الخارج، وإعلان حكومة نتنياهو النصر في غزة وهزيمة القوة العسكرية لحماس، فيما تتوصل إسرائيل إلى تفاهم ثنائي مع الولايات المتحدة بشأن حرية العمل في العمليات الأمنية والغارات الموجهة في المستقبل، لمنع عودة حماس وتفكيك البنى التحتية لأي حركة مقاومة فلسطينية في المستقبل».
ويزعم المخطط (الذي يستهدف طمأنة المستوطنين، والإسرائيليين الذين بدأوا خلال الشهور الأخيرة في الهجرة إلى الخارج) أن «دولًا عربية ستشارك في إعادة إعمار غزة، وتطبيق مناهج تعليمية جديدة، وإيقاف التحريض ضد إسرائيل في المدارس والمؤسسات الحكومية والمساجد، واستبداله ببرامج تعليمية تدعو إلى التسامح والتعايش مع الكيان».
تشمل المزاعم نفسها، التي يروّجها مخطط ترامب- نتنياهو، ما يلي: «ستعمل قوات شرطة عربية في غزة لفرض القانون والنظام خلال الفترة الانتقالية، والتي حددتها الخطة بنحو عشر سنوات، يتم خلالها نزع الأسلحة بالكامل من الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك إغلاق طرق تهريب الأسلحة. كما تُمنح إسرائيل حرية التصرف لتنفيذ مداهمات أمنية محددة لفرض نزع السلاح، ومنع التهديدات، والتعامل مع البنية التحتية المناهضة للاحتلال. في الوقت نفسه، لن تقوم إسرائيل بضم أراضٍ في قطاع غزة أو الضفة الغربية من جانب واحد».
ويتضمن المخطط نفسه «الضغط على السلطة الفلسطينية حتى تتوقف عن دفع رواتب من يثبت قيامه بأفعال مناهضة لإسرائيل، والسجناء وعائلاتهم. وإلغاء التعامل النقدي في قطاع غزة - صفر نقد - وتطبيق آلية متطورة للرقابة النقدية». ورغم ذلك، فالمخطط يتضمن أيضًا «إنشاء قيادة فلسطينية جديدة تعترف بدولة إسرائيل وطنًا قوميًا لليهود، وتدعم الإجراءات التي تنص عليها الخطة، واعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على كل من غزة والضفة».
كما تروّج وسائل الإعلام الإسرائيلية للمخطط، وأنه سيتم بموجبه «حصار إيران ومنع امتلاكها سلاحًا نوويًا، وتسخير قوى إقليمية لتحقيق الاستقرار في سوريا، وتحويلها إلى منطقة عازلة ضد المحور الإيراني. وستواصل إسرائيل فرض نزع السلاح في مرتفعات الجولان - السورية المحتلة - مع تشكيل حكومة جديدة، ونشر قوات دولية كبيرة في المنطقة»، فيما ستواصل إسرائيل نشاطها العملياتي لمنع التسلّح الاستراتيجي في سوريا، والحد من تهريب الأسلحة إلى لبنان والأردن والضفة الغربية، مع الحفاظ على جاهزيتها التامة للرد على أي تطوّر، وتعزيز انتشار الجيش الإسرائيلي على طول الحدود.
فيما يتعلق بتركيا، فإن مخطط ترامب- نتنياهو يقول إنه، في ضوء «مركزيتها في تشكيل النظام الجديد في سوريا، ستُنشئ إسرائيل قناة اتصال مع تركيا لتعزيز المصالح المشتركة في الاستقرار الإقليمي»، مع «إخماد جبهة جنوب لبنان عبر القرار 1701، ولن تتسامح إسرائيل مع أي انتهاكات تتعرض لها مناطق الشمال المواجهة للجنوب اللبناني».
ووفقًا للمخطط، «ستعمل إسرائيل على إنشاء منطقة تجارية خاصة في الشرق الأوسط ومركز اقتصادي عالمي، وتوقيع اتفاقيات للتعاون الاقتصادي الإقليمي في مجالات البحث والتكنولوجيا والعلوم والبيئة والسياحة والتجارة والزراعة والمياه، بالإضافة إلى بناء مشاريع ضخمة للبنية التحتية والسكك الحديدية والطرق العابرة للحدود، تكون سوقًا لها».
ارتباط المخطط بمصالح سياسية (إنقاذ نتنياهو من المحاكمة ودعم التوسع الاستيطاني)، يثير الشكوك حول فشله المرتقب، كما أن الأزمة الإنسانية في قطاع غزة تكشف عن فجوة واسعة بين الخطاب السياسي الأمريكي- الإسرائيلي والواقع الميداني، حيث يُقتل المدنيون أثناء سعيهم للحصول على المساعدات.
هكذا يتكشّف مخطط ترامب-نتنياهو، كمحاولة لتسويق مشروع سياسي مغلف بالسلام، بينما جوهره إعادة هندسة الإقليم على حساب الحقوق الفلسطينية. وبينما تُروّج إسرائيل لأوهام الاستقرار، تتزايد معاناة الغزيّين، ويُستدرج الرأي العام العربي لصيغة تطبيع جديدة، لا تنهي الاحتلال، بل تُجمّله وتُثبّته بغطاء دولي وعربي مشترك.
اقرأ أيضاًأحمد موسى ينفعل على الهواء ردا على مخطط ترامب: مصر لن تتنازل عن شبر واحد
أبرز ردود الفعل العربية والدولية الرافضة لمخطط ترامب
قدرة مصر على إفشال مخطط ترامب
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السورية المحتلة السيادة الإسرائيلية الولايات المتحدة دونالد ترامب رجل السلام مرتفعات الجولان هيئة البث الإسرائيلية الضفة الغربیة مخطط ترامب قطاع غزة فی غزة
إقرأ أيضاً:
حكم التاريخ لن ينقذ غزة
ترجمة: أحمد شافعي -
في الخامس والعشرين من أكتوبر سنة 2023، نشر الروائي المصري عمر العقاد على موقع للتواصل الاجتماعي فيديو لشارع محطم مبعثر الركام في غزة، فكان لا يزال لتلك الصورة آنذاك القدرة على إثارة إحساس بالصدمة. وعلق قائلا «يوما ما، حينما نأمن، ولا يلحق بنا ضرر شخصي من جراء تسمية الأشياء بأسمائها، وبعد أن يفوت الأوان لمحاسبة أي شخص، سيقول الجميع إنهم كانوا دائما ضد هذا».
بمرور الزمن، أصبحت هذه الكلمات كتابا ذا غلاف صادم في طبعته البريطانية التي جعلت من النص الأصلي عنوانها. أما في الطبعة الأمريكية فحمل الغلاف صيغة أقصر من العنوان الأصلي وهي «يوما ما سيقول الجميع إنهم كانوا دائما ضد هذا». في هذا الشهر، حيث بدأت إسرائيل هجومها المباغت على إيران وقبل أن تنضم إليها القاذفات الأمريكية ـ مفتتحة بذلك فرصة لصراع إقليمي شديد التوسع والامتداد، أو حتى حربا عالمية ثالثة محتملة ـ أجد نفسي محملقا في غلافي هذا الكتاب، متسائلا: هل سيحدث هذا؟ أم أن الأرجح هو أن العالم سيمضي في طريقه؟ حينما وقعت الضربات الإسرائيلية الأولى على إيران في الثالث عشر من يونيو، بدا أنها تستهل فصلا جديدا في تفكك العالم الجاري خلال العقود القليلة الماضية، حيث تنحى الاستقرار النسبي لما عرف يوما بـ«النظام الدولي أمريكي القيادة» لصالح شيء ما أميل إلى العنف والفوضوية. لكن لعلها أيضا كانت نهاية فصل: فصل كان فيه سلوك إسرائيل في غزة موضوعا لتدقيق أخلاقي مستمر وإن تقطع ولم تترتب عليه بالضرورة عواقب.
ففي الشهر الماضي فقط وصف المستشار الألماني فريدريتش ميرز حرب غزة عبر التلفزيون بالحرب غير المبررة، ووصف رئيس وزراء أسبانيا دولة إسرائيل بـ«دولة الإبادة الجماعية» في البرلمان الأسباني. وأصدر قادة فرنسا وكندا وبريطانيا بيانا مشتركا وصفوا فيه معاناة أهل غزة بأنها «لا تطاق»، ووصفوا حجم المساعدات الإنسانية والغذائية بـ«غير الكافي» و«غير المقبول»، وبرغم اعترافهم بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها أمام الإرهاب، فإنهم رأوا التصعيد الأخير «غير متناسب بالمرة» وهددوا بعمل ملموس إذا لم تعلِّق إسرائيل هجومها وترفع القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية.
بجانب أستراليا والنرويج وكندا ونيوزيلاندا، فرضت بريطانيا أيضا عقوبات على اثنين من المسؤولين الإسرائيليين ـ هما إيتامار بن جفير وبتسلئيل سموتريتش ـ بسبب التحريض عل العنف ضد المجتمعات الفلسطينية، وتمثلت العقوبات في تجميد أصولهما ومنعهما من دخول بلدهما.
واليوم، بعد مرور أسابيع لا أكثر، يركز كثير من هؤلاء القادة على مكان آخر، ويصطف بعضهم مع إسرائيل والولايات المتحدة، ويؤكد آخرون مخاوفهم من سعي إيران إلى أسلحة نووية. ومثلما أسهم هجوم حماس الشنيع على إسرائيل في السابع من أكتوبر في صرف أنظار العالم عن أوكرانيا، يبدو أن هجمات إسرائيل المفاجئة في 13 يونيو قد صرفتها عن غزة إلى صراع آخر - صراع ذي مخاطر أعلى وقنابل أضخم، وأقل اصطباغا بالشعور القاهر بالحتمية القاتمة من المشهد الهستيري للاستعراض الترامبي. لقد قال الرئيس ترامب للصحفيين في 18 يونيو إنه «لا أحد يعرف ما سوف أفعله»، ذلك في الوقت الذي كانت فيه فوكس نيوز تقول لمشاهديها إنه من غير المستبعد تنفيذ ضربة نووية تكتيكية، وكانت شبكة سي إن إن وصحيفة وول ستريت جورنال تقولان إن مجتمع المخابرات الأمريكي يعتقد أن إيران على بعد سنين من تصنيع أسلحتها النووية الخاصة. وبعد ثلاثة أيام، وجه الرئيس الأمريكي القاذفات الأمريكية، بحافز في ظاهر الأمر من التغطية الإخبارية الإيجابية التي حظيت بها هجمة إسرائيل على شاشات التلفزيون. من أوجه واضحة، ترامب هو المخطط والمجسد لهذه الحقبة الجيوسياسية الناشئة التي تسمى في بعض الأحيان الحرب الباردة الجديدة أو عودة تنافس القوى العظمى، لكنها تبدو أيضا عصر دبلوماسية «المحارب الذئب» والارتداد الشرس إلى العصر القومي السافر الذي اتسمت به إمبريالية القرن التاسع عشر. ومهما يكن المصطلح الذي يروق لكم استعماله، فإنها فترة استنزفت أغلب خطابها الأخلاقي والتضامني والتعاوني الذي كان يضفي على الجغرافيا السياسية مظهر الشعور الإنساني والمبادئ العليا على الأقل. ولقد كانت في النظام القديم أوهام ونقاط عمياء غفيرة، أما النظام الجديد فقد ينظر حتى إلى الحملات التخريبية الكارثية بما يشبه اللامبالاة الأخلاقية. وما يوصف بـ«عودة التاريخ» قد جاء وبصحبته قبول رجعي لأهوال الحرب. قبل أسابيع، حدث أن اعترف المتحدث السابق باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر ـ خلال إدارة بايدن، وكان بمنزلة فقاعة السياسة الخارجية التي بدت داعمة بلا مواربة لحرب غزة ـ عرضا بأنه يرى «بلا أدنى شك صدق القول بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب». وفي حوارات عديدة على مدار الشهر الماضي، كرر رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود أولمرت مثل ذلك. فكتب في أواخر الشهر الماضي في ها آرتس أن «ما نفعله في غزة الآن حرب تخريب: وقتل إجرامي للمدنيين بلا تمييز ولا حدود وبقسوة... وهذه نتيجة سياسة الحكومة المفروضة عن وعي وشر وفساد وانعدام للإحساس بالمسؤولية. نعم، إسرائيل ترتكب جرائم حرب». كم جريمة حرب؟ في تقرير قانوني شامل وعام نشرته مجلة نيويورك الأسبوع الماضي قدمت الصحفية سوزي هانسن تقديرا تقريبيا فكتبت أن اتهام إسرائيل بأنها ارتكبت «مئات، أو حتى آلاف» من جرائم الحرب قد أصبح «غير قابل للإنكار بأي حال». قد تبدو هذه اعترافات متأخرة بحقائق معلومة منذ أمد بعيد لمن يتابعون عن كثب. لكن تعليق ميلر كاشف بصفة خاصة، في ضوء كم الوقت الذي قضاه في تضييق الخناق على التحقيقات في سلوك إسرائيل في الحرب، ودعم أمريكا لها، منذ أيامها الأولى.
رفعت جنوب أفريقيا قضيتها الأولى على إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في ديسمبر 2023، أي بعد أقل من اثني عشر أسبوعا على بدء الحرب. وبحلول مايو، أصدرت المحكمة أمرا لإسرائيل بإيقاف هجومها في رفح، وبحلول يوليو أصدرت رأيا استشاريا تعلن في استمرار حضور إسرائيل في الأراضي «غير شرعي». وفي نوفمبر الماضي، انتهت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة في تحقيق لها إلى أن أفعال إسرائيل في غزة «تتوافق مع الإبادة الجماعية». وفي الشهر التالي، انتهت محكمة العدل الدولية إلى مثل ذلك.
قوبل كثير من هذه الاعتراضات بالقمع أو الرفض باعتبارها معادية للصهيونية بداهة، وهو مثلما حدث للمظاهرات الشعبية التي اندلعت في خريف عام 2023 ـ في واشنطن ولندن وغيرهما ـ وللمخيمات الجامعية التي أقيمت في الجامعات الأمريكية في الربيع التالي. ومثلما كتبت هانسن، فإن أولى الاعتراضات لم تنشأ بأثر رجعي وإنما في الوقت نفسه. إذ كتبت أن «باحث الإبادة الجماعية الإسرائيلي راز سيجال أطلق وصف الإبادة الجماعية اعتبارا من الخامس عشر من أكتوبر... وأن ثمانمائة باحث في الإبادة الجماعية وقعوا على رسالة تحذير من إبادة جماعية بعد ذلك بوقت قليل».
في السابع عشر من أكتوبر، بعد عشرة أيام من بدء الحرب، تقدم مسؤول في الخارجية الأمريكية يدعى جوش بول ـ كان قد ساعد في إدارة صفقات أسلحة لحلفاء لأمريكا ـ باستقالة من وظيفته احتجاجا على الحرب، ونشر خطاب استقالة مؤثر على لينكد إن، وأدلى بحوارات لبي بي سي وبي بي إس وغيرهما، وشارك في ملف في نيويوركر أعده أخي ونشر في 6 نوفمبر. وكان القتال آنذاك لم يتجاوز بعد شهرا واحدا.
وحينما أدى انفجار إلى مصرع مدنيين في مستشفى الأهلي بمدينة غزة في 17 أكتوبر، أثار ذلك فيضا من التعليقات والتكهنات والجدل حول المسؤول، وهو سؤال بادي الأهمية، وفي وقته، لأن ضرب مستشفى كان لا يزال يعد خطا أحمر غير قابل للتجاوز. وآنذاك، كان الجدل حول سلوك إسرائيل في الحرب متشابكا مع حجج كثيرة تتعلق بسياسة الدولة الأمنية، وخطابها القاسي، وتعاطف منتقديها، وحجم الصدمة الوطني من جراء السابع من أكتوبر، ونوع الرد الذي قد يبرره الدفاع عن النفس أو الانتقام. وكانت تصعب في بعض الأحيان رؤية تفاصيل معينة للرد العسكري بوضوح وسط كل تلك التشابكات، لكن بدا الأمر أيضا أشبه بمسألة مهمة تتطلب تفرقة جيوسياسية. تظهر تقارير الأمم المتحدة أن جميع مستشفيات غزة تقريبا تضررت أو تدمرت الآن، وكذلك أغلب المدارس والمساجد. ووفقا لمركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية، فإن قرابة 70% من جميع مباني غزة قد تعرضت خلال أقل من سنتين لضرر محتمل أو متوسط أو شديد، أو تدمرت تماما. واعتبارا من يناير، أظهرت أرقام الأمم المتحدة أن تسعة من كل عشرة بيوت إما تضررت أو تدمرت. وأن قرابة 90% من الشعب قد نزحوا، ولمرات كثيرة في حالة أهل غزة. وأشارت دراسة نشرت في عدد يناير من مجلة ذي لانسيت الطبية اللندنية إلى أن قرابة خمسة وستين ألف فلسطيني تعرضوا للقتل بإصابات وجروح في الشهور التسعة الأولى من الحرب، وهذا الرقم يزيد بنسبة 40% عن تقديرات وزارة الصحة في غزة. وقدرت الدراسة أيضا أن أكثر من نصف الموتى نساء وأطفال، وتشير بعض التقديرات إلى أن نسبة الضحايا المدنيين أعلى من ذلك. وقد لقي أكثر من 175 صحفيا فلسطينيا مصرعهم.
تنازع إسرائيل وأنصارها في هذه الأرقام وكذلك في درجة تسبب هذه الحرب في قتل عدد من المدنيين يفوق أبشع الهجمات العسكرية الشنيعة في الذاكرة الحديثة (من قبيل الفلوجة والموصل). ولكنكم فيما تقرأون عن الضربات الحديثة المستهدفة لإيران، وقد قتلت وفقا للجيش الإسرائيلي عددا من كبار القادة العسكريين والنووين، يجدر بكم أن تفكروا في تقرير مجلة (+972) الصادر في وقت سابق من صراع غزة بأن كل مقاتل منخفض المستوى استهدفته إسرائيل بالذكاء الاصطناعي العسكري كان مسموحا في استهدافه بقتل ما بين 15 و20 مدنيا معه، وأنه في العديد من الحالات على الأقل، وفي حالة الشخصيات رفيعة المستوى، كان مسموحا بمائة أو أكثر من الوفيات بين المدنين. (في أواخر أبريل، كتبت عن تقرير +972، وتأكد كثير منه عبر تقارير أخرى لنيويورك تايمز).
في الأسابيع الأخيرة، تعلقت أكثر أخبار غزة رعبا بالهجمات على المصطفين من أجل الحصول على ألزم المساعدات الإنسانية. وفي وقت سابق من هذا الصراع، كان من اللافت بصفة خاصة أن شاهدنا سيندي ماكين - رئيسة برنامج الغذاء العالمي وأرملة السيناتور جون ماكين، الداعم القوي لإسرائيل لدرجة استعمال وجهه الضاحك في ميمات memes ضربات إيران الأخيرة ـ وهي تحذر من مستويات الجوع الخطيرة في أرجاء غزة. وفي مايو، حذرت من مجاعة، وظلت على هذا بصورة متقطعة طوال قرابة عام. وبعد ذلك التحذير، سرعان ما تأسس نظام لتوزيع الغذاء. ووفقا لمكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، لقي مئات الفلسطينيين مصرعهم منذ ذلك الحين، وهم في انتظار الطعام.
والذين كانوا يتابعون الصراع عن كثب، لن يجدوا الكثير من هذه المعلومات ـ أو حتى ما هو أكثر بكثير في مقال هانسن المطول ـ غريبا عليهم في الشكل أو الجوهر. ولكننا نتكلم عن انعدام الغرابة لنقصد به الألفة والاعتياد.
وقبل زمن غير بعيد، كان الأمريكيون كثيرا ما يتكلمون عن حكم التاريخ عندما يتعلق الأمر بنزاعات داخلية وصراع عالمي، وكأنما بمرور الزمن سوف يميل منظور العالم باتجاه العدالة لا محالة. لكن الأمور لا تميل دائما إلى الوضوح بمرور الزمن. ففي غالب الأحيان، تضعف الذاكرة، وتغيم التفاصيل، ويخفت صوت من يعترضون في ظل سخونة اللحظة بينما يمضي غيرهم على ما هم فيه.
ديفيد والاس-ويلز متخصص في العلوم وتغير المناخ والتكنولوجيا وهو من أكثر الكتاب مبيعا في هذه المجالات.
** خدمة نيويورك تايمز