الزراعة في مرمى النيران: الأسلحة النووية واليورانيوم المنضب وتهديد الأمن الغذائي العالمي
تاريخ النشر: 23rd, July 2025 GMT
«الحرب بطبيعتها مدمرة للتنمية المستدامة ويتعين على الدول احترام القانون الدولي الذي يوفر حماية للبيئة في أوقات النزاعات» - (إعلان ريو 1992).
تعد الحروب من أبرز العوامل التي تؤدي إلى تدهور الأنظمة الزراعية والأمن الغذائي على المستوى العالمي. إذ تؤثر النزاعات المسلحة بشكل مباشر وغير مباشر على إنتاج الغذاء وتوزيعه، مما يعرض حياة الملايين للخطر، خصوصًا في المناطق التي تعتمد على الزراعة كمصدر رئيسي للرزق والأمن الغذائي.
في هذا المقال سنقوم بتحليل لأثر الحروب التقليدية وغير التقليدية على النظم الزراعية وسلاسل الامداد والتوزيع والتي بدورها تؤثر على الأمن الغذائي والتنوع الحيوي مع ذكر أمثلة على الدول التي عانت من الحروب سواء الحروب الأهلية أو الصراعات بين الدول، وتقديم عدد من التوجيهات للدول والمنظمات العالمية لتقديم حلول لآثار الحروب المدمرة وتفعيل الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بحماية الأنظمة البيئية وصولا إلى إجراءات حازمة لحظر استخدام الأسلحة النووية والمشعة في المناطق الزراعية.
تفكيك البنى الأساسية
تؤدي الحروب بشكل عام إلى تفكيك البنى الأساسية الزراعية من حيث تدمير الحقول الزراعية وشبكات الري والمخازن والمعدات الزراعية، مما يؤدي إلى توقف الإنتاج وفقدان مواسم زراعية كاملة. في سوريا مثلًا، أشارت تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أن أكثر من نصف البنية الأساسية الزراعية تعرضت للدمار بعد سنوات من الحرب. وتشير دراسة أجرتها منظمة «هيومن رايتس ووتش» (2023) إلى أن 60% من البنية الأساسية الزراعية في مناطق النزاع تتضرر بشكل مباشر من خلال تدمير الحقول وأنظمة الري التي تمد تلك الحقول بالمياه. وفي لبنان وبحسب وزارة الزراعة أدت الحرب الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية خلال عام 2024 إلى تدمير أكثر من 1.88 ألف هكتار من الأراضي الزراعية، واحتراق 47 ألف شجرة زيتون، وتدمير 93 بيتا بلاستيكيا ومرافق تخزين الأعلاف. وكثيرا ما تستهدف الحروب المرافق الحيوية مثل السدود ومحطات الطاقة، كما حدث في سوريا واليمن، مما أدى إلى تعطيل أنظمة الري وتقلص المساحات القابلة للزراعة بنسبة 40%. وفي دراسة نشرت في مجلة «Environmental Science & Technology» (2023) وجدت تركيزات عالية من المعادن الثقيلة في 60% من عينات التربة في مناطق النزاع. في غزة ، دمرت الحرب 68% من المناطق الزراعية، مع أضرار جسيمة لأشجار الفاكهة والمحاصيل ، وارتفعت أسعار المياه للري من 3 إلى 90 شيكلا في الساعة، مما جعل الزراعة مستحيلة.
الشكل يوضح عدد الآبار والحضائر والمزارع التي قامت إسرائيل بتدميرها أثناء الحرب الأخيرة على غزة
تقوم بعض الدول بشكل متعمد أو غير متعمد بتدمير البنية الأساسية الزراعية، حيث تشكل الحقول الزراعية وشبكات الري المتطورة وصوامع تخزين الحبوب والطرق الزراعية أهدافًا مباشرة أو أضرارًا جانبية للعمليات العسكرية، كما أن قصف السدود ومحطات ضخ المياه يشل قدرة المزارعين على ري محاصيلهم، بينما يؤدي تدمير المخازن إلى فقدان المحاصيل المحصودة بالفعل وتلف البذور للموسم القادم، والألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب تحول الأراضي الخصبة إلى حقول موت، تمنع المزارعين من فلاحتها لسنوات طويلة بعد انتهاء النزاع.
تعطيل سلاسل الإمداد والتوزيع
تعتمد الزراعة الحديثة كثيرا على شبكة معقدة من سلاسل الإمداد لتوفير المدخلات (بذور، أسمدة، مبيدات) ونقل المنتجات إلى الأسواق. تؤدي الحروب إلى تقطيع أوصال هذه الشبكات من خلال تدمير الطرق والجسور، وفرض الحصار، وانعدام الأمن الذي يعيق حركة النقل. والنتيجة هي ما يسمى بـ«مجاعات الوفرة»، حيث قد تكون المحاصيل متوفرة في منطقة ما، بينما تعاني مناطق أخرى من نقص حاد بسبب استحالة إيصال الغذاء إليها. وتتسبب الحرب في إغلاق الطرق وتدمير وسائل النقل، ما يعوق حركة السلع الزراعية من مناطق الإنتاج إلى الأسواق. ويؤدي تعطيل سلاسل الإمداد بشكل مباشر إلى ارتفاع تكاليف النقل. وهذا يرفع من تكاليف الغذاء ويؤدي إلى نقصه، خاصة في المناطق الحضرية. في لبنان مثلا، اضطر المزارعون للتحول من التصدير البري إلى البحري بعد حظر السعودية للسلع الزراعية، مما رفع تكاليف الشحن 36%. بحسب البنك الدولي (2023)، أدت الحرب في أوكرانيا إلى تعطيل 30% من سلاسل إمداد الحبوب العالمية. ووثقت منظمة التجارة العالمية (2022) ارتفاعاً بنسبة 36% في تكاليف النقل البحري للسلع الزراعية. وهذا يقود إلى اضطرابات الأسواق العالمية، فوفقا لمركز الجزيرة للدراسات فقد تسببت الحرب الروسية - الأوكرانية في ارتفاع أسعار القمح عالمياً بنسبة 30%، نظراً لاعتماد دول إفريقيا وعدد من الدول العربية على روسيا وأوكرانيا في 80% من واردات القمح.
النزوح القسري وفقدان الأيدي العاملة
ينزح المزارعون من أراضيهم هربًا من النزاع، مما يؤدي إلى فقدان الأيدي العاملة الزراعية. ويترتب على ذلك تراجع في الإنتاج وخلل في نقل المعارف الزراعية المحلية. يوضح تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR، 2023) أن 65% من المزارعين في مناطق النزاع يضطرون للنزوح، مما يؤدي إلى انهيار القطاع الزراعي المحلي. في لبنان، اعتمد القطاع الزراعي على العمالة السورية بنسبة 90%، ونزوحهم خلال الحرب رفع تكاليف العمالة المحلية أربعة أضعاف. وأدى غياب المزارعين إلى تعطيل دورات الزراعة الموسمية، كما حدث أيضا في غزة حيث عجز 71% من المزارعين عن الوصول إلى أراضيهم. عندما تدوي أصوات المدافع، يفر المزارعون وعائلاتهم من أراضيهم بحثاً عن الأمان، تاركين وراءهم حقولهم ومواشيهم. هذا النزوح الجماعي يفرغ الريف من سكانه، مما يؤدي إلى نقص حاد في الأيدي العاملة الماهرة التي تمتلك المعرفة الزراعية المتوارثة. وكما تشير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإن النساء اللاتي يشكلن نسبة كبيرة من القوى العاملة الزراعية في العديد من البلدان، يتأثرن بشكل غير متناسب، مما يفاقم من الخسارة في الإنتاج والمعرفة.
الأسلحة النووية.. إشعاع يبقى لقرون
إذا كانت الحروب التقليدية تدمر هياكل الزراعة، فإن الأسلحة غير التقليدية تسمم روحها – التربة والماء والهواء. إن أثرها يتجاوز الدمار اللحظي إلى إرث من التلوث يهدد القدرة على الحياة لعقود وقرون. ويمثل استخدام الأسلحة النووية كارثة بيئية وزراعية عالمية، حيث تؤدي الانفجارات النووية إلى انتشار الإشعاع في الغلاف الجوي وتلوث التربة والمياه والهواء، مما ينتج عنه تدمير خصوبة التربة وقتل الأحياء الدقيقة المفيدة، وحجب ضوء الشمس بسبب سحب الدخان، وهي ظاهرة تعرف بـ«الشتاء النووي» Nuclear Winter، مما يقضي على الكثير من المحاصيل. وقد أظهرت دراسة لـ»Robock et al., 2007» أن حربًا نووية إقليمية يمكن أن تخفض متوسط درجات الحرارة العالمية بما يصل إلى 1.5 درجة مئوية وتؤدي إلى نقص إنتاج الحبوب بنسبة تصل إلى 10-20%. على الجانب الآخر يؤدي استخدام هذا النوع من الأسلحة إلى تلويث مقومات الحياة الأساسية وهو ما يسمى بالتلوث الإشعاعي، حيث تطلق القنابل النووية مواد مثل السيزيوم-137 والسترونتيوم-90، التي تتراكم في التربة والمحاصيل لقرون. دراسة «اللجنة العلمية للأمم المتحدة» (UNSCEAR، 2021) توضح أن التلوث الإشعاعي قد يستمر لمدة 10,000 سنة، بينما أظهرت أبحاث معهد «تشيرنوبيل للأبحاث» (2020) أن انخفاض إنتاجية التربة الملوثة بنسبة 70%. وبعد قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، ظلت 35% من الأراضي الزراعية غير صالحة للزراعة لمدة 20 عاماً، كما كشفت منظمة الصحة العالمية (WHO، 2022) عن ارتفاع معدلات السرطان بنسبة 50% في المناطق التي استخدم فيها اليورانيوم المنضب. بعد حرب الخليج عام 1991، تلوثت 70% من مصادر مياه الشرب باليورانيوم المنضب، مما أثر على ري المحاصيل وارتفعت سرطانات الكلى والرئة بين المزارعين بنسبة 50% (Aditi Gupta, 2025).
يستخدم اليورانيوم المنضب في الذخائر الخارقة للدروع. فبعد الانفجار يتحول إلى غبار ناعم يدخل التربة والمياه الجوفية. وقد أثبتت الدراسات أن تراكم المعادن الثقيلة مثل اليورانيوم والثوريوم يؤثر على نمو النباتات، ويخفض من خصوبة التربة، ويتسبب في اضطرابات جينية للنباتات. كما تم توثيق علاقته بالإصابة بالسرطان وتشوهات الأجنة، حسب ما ورد في تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP, 2001) . تشير «هيئة الطاقة الذرية العراقية» (2023) إلى تلوث 40% من الأراضي الزراعية في جنوب العراق. من ناحية أخرى يعد اليورانيوم المنضب (DU) أحد السموم الخفية، فقد تسبب استخدام اليورانيوم المنضب في العراق في تلوث 40% من محاصيل القمح، مما جعلها غير صالحة للاستهلاك. كما أدى إلى فقدان خصوبة التربة الأمر الذي قلل من تنوع الميكروبات الضرورية للتربة بنسبة 70% وتراكم معادن سامة مثل الكادميوم والرصاص. كذلك أدى اليورانيوم المنضب إلى آثار صحية كارثية في البصرة والفلوجة، بحسب تقارير «منظمة الصحة العالمية» (2023)، سجلت البصرة ارتفاعاً بنسبة 600% في تشوهات المواليد بسبب التلوث بالإشعاع.
مقارنة تأثير الأسلحة غير التقليدية
المعيار الأسلحة النووية اليورانيوم المنضب (DU).
المادة الفعالة اليورانيوم-235، البلوتونيوم U-238.
نصف العمر الإشعاعي حتى 24,000 سنة (بلوتونيوم-239) 4.5 مليار سنة (U-238) .
الآثار على التربة تدمير الميكروبات، تشوه المحاصيل تراكم المعادن الثقيلة، فقدان الخصوبة.
التأثير الصحي سرطانات، تشوهات خلقية، أمراض جينية سرطانات الكلى والرئة، فشل كلوي.
المناطق المتأثرة هيروشيما، تشيرنوبيل، فوكوشيما العراق (1991-2003)، البوسنة (1995).
(المصدر: عدد من المراجع والدراسات العالمية)
تحتاج الأراضي الملوثة بالإشعاع إلى عمليات تطهير تكلف 5 أضعاف تكاليف الزراعة التقليدية، وتقنيات مثل الغسيل الكيميائي غير متاحة في الدول الفقيرة ، ويؤدي ذلك إلى تداعيات طويلة المدى بيئياً واقتصادياً وصحياً لأجيال مهددة باستهلاك محاصيل ملوثة قد تنجم عنها أمراض سرطانية وتشوهات خلقية، كما حدث في العراق حيث ارتفعت سرطانات الثدي 3 أضعاف. وقد تستغرق الأراضي المتضررة من اليورانيوم المنضب قروناً لاستعادة خصوبتها، بينما قد يؤدي التلوث النووي إلى تغيير الخريطة الزراعية العالمية بشكل هائل جدا.
نحو حماية البيئة في القانون الدولي
تثبت الأدلة أن الحروب تقوض مقومات الحياة عبر تدميرها للزراعة والأمن الغذائي، وللتخفيف من هذه الآثار، يتطلب الأمر تفعيل الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية حظر تقنيات التغيير البيئي (ENMOD 1977) والبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (المادة 55) الذي يلزم أطراف النزاع بحماية البيئة، كما يتطلب إنشاء صندوق دولي لإعادة تأهيل الأراضي الملوثة بالشراكة مع المنظمات العالمية مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) والبرنامج البيئي للأمم المتحدة. ويجب أيضا دمج البعد البيئي في عقائد الجيوش وذلك عبر تبني «المبادئ التوجيهية العسكرية لحماية البيئة أثناء النزاعات».
د. سيف بن علي الخميسي / مدير مركز بحوث النخيل والإنتاج النباتي
وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الیورانیوم المنضب الأساسیة الزراعیة الأسلحة النوویة استخدام الأسلحة والأمن الغذائی الأمن الغذائی غیر التقلیدیة مما یؤدی إلى فی المناطق
إقرأ أيضاً:
«الرقابة النووية» تفوز بالجائزة العالمية للتميز في التدقيق الداخلي
أبوظبي (الاتحاد)
كرم معهد المدققين الداخليين الدولي الهيئة الاتحادية للرقابة النووية بالجائزة العالمية للتميّز في التدقيق الداخلي والتي يقدمها المعهد عن فئة الريادة في القطاع العام، إذ يعد التكريم إنجازاً رفيع المستوى ويأتي تقديراً لجهود الهيئة في هذا المجال.
ومُنحت الجائزة لمجموعة العمل المشتركة للتعاون في التدقيق الداخلي، وهي مبادرة أُطلقت في عام 2020 من قبل الهيئة والمفوضية الكندية للأمان النووي بهدف تعزيز تبادل المعرفة وأفضل الممارسات في التدقيق الداخلي على الجهات الرقابية النووية، وكان من أبرز نتائج هذا التعاون إصدار دليل إرشادي «التدقيق على عمليات التفتيش في الجهات الرقابية في القطاع النووي»، الذي أُطلق رسمياً خلال المؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية في سبتمبر 2024.
وتضمن الدليل الإرشادي منهجية قائمة على إدارة المخاطر وإطاراً رقابياً من ثمانية عناصر أساسية للتدقيق على عمليات التفتيش في المنشآت النووية، ما شكّل مرجعاً عالمياً جديداً في هذا المجال، وقد أسهمت الهيئة بدور محوري في تطوير الدليل، من خلال دمج إطار مكافحة الاحتيال الخاص بها ومنهجية التدقيق والمخاطر، مما أضاف بُعداً نوعياً للدليل وأسهم في تعزيز التبادل الدولي للممارسات الرقابية.
وقالت آمنة فريدون، مدير إدارة التدقيق في الهيئة الاتحادية للرقابة النووية، إن الحصول على الجائزة يعكس التزام الهيئة بالتميز والشفافية والتطوير المستمر فضلاً عن تعزيز تعاونها المثمر مع المفوضية الكندية للأمان النووي، لتطبيق أفضل المعايير الدولية في مجال التدقيق الداخلي على مستوى القطاع الرقابي محلياً ودولياً.
تم اختيار الفائزين بجوائز التميز لهذا العام من بين مئات الترشيحات المقدمة من 45 دولة.