لم يكن العقل العربي، في يوم من الأيام، أسير هذه التصنيفات الضيقة التي تحيل الإنسان إلى رقم في سجل الطوائف، أو عنوان في كتاب المذاهب. لقد عرفنا التاريخ فكرا حرا، وفنا متقدا، وحياة لا تقاس إلا بجمالها وعمقها. فكيف انقلبنا على ذواتنا، فصرنا نفتش في تراث الشاعر عن مذهبه، وفي سيرة المطرب عن دينه، وكأنما الفن لم يعد إلا وسما على جبين الهوية؟  

إنها إشكالية حضارية قبل أن تكون سياسية، ثقافية قبل أن تكون دينية.

فما الذي جعل العين العربية تتحول من قراءة النص إلى قراءة الهوية؟ ومتى صرنا نرى العالم من خلال شقوق الطائفة، بدلا من أن نراه من أفق الإنسانية؟  

كان الفن، في زمان ليس ببعيد، هو الوطن الحقيقي للإنسان العربي. فلم يكن أحد يسأل عن دين أم كلثوم، ولا عن مذهب عبد الوهاب. كانت الأغنية تسمع لما فيها من جمال يهز الروح، لا لما في صاحبها من انتماء يرضي الخصوم أو يغضب الأعداء.  

وكان الشعر، ذلك الفن الأصيل، لغة جامعة لا تفرق بين شيعي وسني، ولا بين مسلم ومسيحي. فما كان المتنبي يسأل عن عقيدته حين يخط قصيدته، ولا كان أبو تمام يحاكم على مذهبه حين ينسج بيته. بل كان الشعر هو الحكم، والجمال هو المقياس. فكيف تحولنا إلى أمة تزن الفن بميزان الهوية، وتقيس الإبداع بقدر انتمائه؟  

يقولون إن الاستعمار غادر أرضنا، لكنه ، للأسف الشديد ، خلف وراءه أدوات أكثر فتكا من الرصاص. لقد أدرك أن تقسيم الأمة لا يكون بالحدود وحدها، بل بالعقول والقلوب أيضا. فصنع منا شعوبا متعددة تحت اسم واحد، وجعل من الدين والمذهب ساحة للصراع بدلا من أن يكون سبيلا للتعايش.  

وصار الفنانون والأدباء وقودا لهذا الصراع. فلم يعد المهم ما يقوله الشاعر، بل المهم أي فريق ينتمي إليه. ولم يعد السؤال عن جودة اللحن، بل عن خلفية مؤلفه. وهكذا تحول الإبداع من فعل حر إلى سلعة طائفية.  أليس هذا هو الانتصار الحقيقي للاستعمار؟ أن نكون نحن من يقسم أنفسنا، ونحن من يحارب إبداعنا بأيدينا؟  

صراع مفتعل  

لقد كان الدين، في أزهى عصور الحضارة العربية، رفيق الفن لا خصمه. فها هو ابن الرومي يمدح المسيح في شعره، وها هو أبو نواس يلهو بلا خوف من سوط المتشدقين. وكان الفقهاء أنفسهم يروون الشعر، ويقيمون مجالس الأدب، لأنهم فهموا أن الدين ليس سجنا للجمال، بل إطارا يسمح له بالازدهار. فمتى تحول الدين إلى أداة لفرز الناس إلى "خيرين وشريرين"؟ ومتى صرنا نقرأ السيرة الفنية لنجد فيها "الكفر" أو "الإيمان"؟ إن هذا الفهم الضيق للدين هو الذي يجعلنا نحارب أنفسنا، ونرفض كل من لا يشبهنا.  

لعل الخروج من هذا المأزق لا يكون بإلغاء الهوية، لكن بتوسيعها. فالإنسان ليس رقما في سجل الطوائف، بل كون قائم بذاته. والفن ليس حكرا على فئة دون أخرى، بل هو لغة يفهمها الجميع.  

لنعد للفن مكانته، ولنرفع عنه غبار السياسة والطائفية. ولنتذكر أن فيروز لم تكن تغني للمسيحيين، ولا نزار قباني كان يكتب للعلويين، لأنهم كانوا يخلقون عالما نعيش فيه جميعا، بلا حواجز ولا أقفاص. فهل نستطيع أن نكون أهلا لهذا الجمال مرة أخرى؟  

كان المثقف العربي، في عصور النهضة الأولى، جسرا بين الماضي والمستقبل، لا سجينا للتراث. فها هو طه حسين نفسه يدعو إلى قراءة التراث بنظرة نقدية، وها هو علي الوردي يحلل البنى الاجتماعية بمنهجية علمية. كانوا يبحثون عن الحقيقة لا عن الانتماء، عن المعنى لا عن المذهب.  

لكننا اليوم نعيش حالة من "الخلل الثقافي" حيث صار كل فريق يحمل تراثه كسلاح ضد الآخر. لم نعد نقرأ ابن خلدون لفهم سنن التاريخ، بل لنستشهد به في معاركنا المذهبية. ولم نعد ندرس المعتزلة أو الأشاعرة كتيارات فكرية، بل كأحقاب سياسية من الماضي. حتى الفلسفة، التي كانت يوما ملاذ العقل الحر، صارت تقرأ من خلال عدسة "الهوية" بدلا من عدسة "الفكر". أليس هذا هو الموت الحقيقي للثقافة؟ أن نحول التراث من منبع للإلهام إلى متحف للتحنيط الفكري؟  

هوس المؤامرة  

ثمة سؤال وجودي يطرح نفسه: هل نحن ضحايا مؤامرة خارجية، أم أننا شركاء في صنع كارثتنا؟ ، فضل العقل العربي، في العقود الأخيرة، اختزال كل أزماته في نظرية المؤامرة. كل انحدار ثقافي، كل تخلف علمي، كل فشل سياسي – له "جهة خارجية" مسئولة. بينما الحقيقة الأكثر إيلاما هي أننا نحن من سمح بتحويل الدين إلى أداة تفريق، والفن إلى ساحة تصفية، والثقافة إلى سلعة طائفية.  

لننظر إلى تجارب الأمم التي انتصرت على نفسها: كيف تحولت ألمانيا من النازية إلى دولة العلم؟ وكيف تجاوزت جنوب أفريقيا نظام الفصل العنصري؟ لقد فعلوا ذلك بنقد الذات أولا، لا بلعب دور الضحية أبدا.  

نحو أنسنة الهوية  

إن حل هذه المعضلة لا يكمن في إنكار الهويات، بل في "أنسنتها". بمعنى:  

1. تحويل الهوية من سجن إلى جسر: فكوني مسلما أو مسيحيا، شيعيا أو سنيا، يجب أن يكون نقطة اتصال بالآخر لا حاجزا ضده.  

2. فصل الإبداع عن الانتماء: كما كان القدماء يفصلون بين جودة الشعر وعقيدة الشاعر.  

3. إعادة تعريف الوطنية: لتكون ولاء لقيم العدل والجمال، لا لطائفة أو عرق.  

فها هو محمود درويش يقدم نموذجا عندما قال: "أنا لست من هناك.. أنا من هنا". لم يرفض انتماءه الفلسطيني، لكنه جعله بوابة للإنسانية لا سجنا لها.  

في الختام ، ثمة سؤال مصيري: هل نستحق أن نستمتع بفيروز إذا كنا سنسأل عن كنيستها؟ هل نحن أهل لقراءة أدونيس إذا كنا سنحاسبه على مذهبه؟  

الجمال بالتأكيد يفرض شروطه. وهو يسألنا: هل أنتم قادرون على رؤيتي كما أنا؟ أم أن عيونكم قد أعماها الغبار الطائفي؟ ربما تكون الإجابة في كلمات نزار قباني التي كتبها قبل أن يصنفوه:  

"أنا لا أعتذر عن حبي..  

فلو أن الحب جريمة  

فليشهد التاريخ أني  

أعظم المجرمين"  

فهل يمكننا استعادة جرأة الحب هذه؟ حب الفن لذاته، والإنسان لأجل إنسانيته، والوطن لأنه مساحة للجميع؟

التاريخ يراقب، والإجابة بين أيدينا.

طباعة شارك الجمال الحب فيروز

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الجمال الحب فيروز

إقرأ أيضاً:

العثور على متوفى مجهول الهوية في محطة قطار مرسى مطروح| صور

عثرت قوة قسم شرطة النقل والمواصلات بمحطة قطار مرسى مطروح، صباح اليوم الأحد على جثمان متوفى  مجهول الهوية  بجوار محطة قطار مرسى مطروح.

انتقلت شرطة النجدة إلى موقع الحادث، حيث تبين انه شخص في العقد الرابع من العمر ويرجح أنه من العاطلين الذين يمارسون التسول  في موسم الصيف  كما لم يتم تحديد أسباب الوفاة .

تم تحرير المحضر اللازم  والتحفظ على المتوفي بثلاجة مستشفى مطروح العام   تحت تصرف النيابة ومفتش الصحة .

طباعة شارك مطؤوح محافظة مطروح اخبار محافظة مطروح اخبار المحافظات محطة القطار

مقالات مشابهة

  • فاروق جعفر: إدارات بعض الأندية تجعل اللاعبين يضعون مطالب مادية مبالغ فيها
  • العثور على هياكل عظمية بشرية مجهولة الهوية جنوبي العراق (صور)
  • د. عادل القليعي يكتب: مَا بَيْنَ شِعْبِ أَبَي طَالِبِ وَشِعْبِ غَزَةِ زَمَكَانِيةٌ مَعْلُومَةٌ!
  • سقوط الأقنعة .. مناصرو القدس بالأمس شركاء الصهيونية اليوم
  • وزير الزراعة: الدولة تدعم توطين صناعة اللقاحات والأدوية في مصر
  • الدكتور شريف فاروق وزير التموين يصدر قرار بتعين أحمد عصام مساعدا للوزير التموين
  • العثور على متوفى مجهول الهوية في محطة قطار مرسى مطروح| صور
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الرباعية الدولية .. صراع المصالح يبدد فرص الحل..!
  • انحدار الذوق وضياع الهوية.. محمد موسى يهاجم أغاني المهرجانات