سعيدة بنت أحمد البرعمية
يمكنني أن أصف بعض ما يُقدَّم في الساحة الأدبية والثقافية، وحتى التعليمية -التي يُفترض أن تكون على قدر من المسؤولية والمصداقية والإخلاص- برياضة الوثب الثلاثي (Triple Jump)، التي تتضمن سلسلة من القفزات "hop, step, jump"، خاصة الوثبة الأولى، وهي المبالغة في اختيار العنوان لأوراق العمل والورش بمختلف أنواعها؛ فالانطباع الأول الذي يفرضه العنوان كفيل بأن يُقصقص جناحيك، ويجعل منك طائرًا لطيفًا يدخل القفص بإرادته، أو آخر ينأى بنفسه بعيدًا موقنًا أنها وثبة أولى ممن يحاولون القفز.
هل وقعتَ يومًا أسيرًا أو فريسة لعنوان معين؟ بالتأكيد نعم، فلا أظن أنّ هناك من لم يقع في شَرَك هذا الصياد.
لستُ ضد إقامة الورش والفعاليات وأوراق العمل الهادفة والفاعلة في تطوير العمل للمؤسسات والأفراد، ولكن يجب أن نُخلِص في تقديمها تقديرًا للوقت، وتثمينًا للمعرفة، وتحقيقًا لأهداف فاعلة، وذلك بمراعاة عدم قفز العناوين بعيدًا عن مساحة الأهداف المرجوة، والأثر الذي تتركه بعد ذلك.
تعلمنا ونحن على مقاعد الدراسة أن العنوان يعطي الفكرة العامة التي يرمي إليها الموضوع، لا أكثر ولا أقل، واختلف الوضع حينما نحضر أوراق العمل أو الورش للفائدة؛ فيجذبنا العنوان ونرفع سقف التوقعات المعرفية، ثم نكتشف أنّ اختيار العنوان كان أعلى بكثير من مستوى التخطيط للورشة أو ورقة العمل.
يحدث أن تأتيك رسالة واتساب في جروب العمل أثناء عملك، دعوة من الزملاء تحثك على ضرورة حضور ورقة عمل لأحد الزملاء في قاعة مخصصة لمثل هذه الأنشطة، وبحكم عنوانها الجاذب تذهب، فتتفاجأ أنك في مسرح الكذب والنفاق، فترى عنوان ورقة العمل معروضًا أمامك، وقد تسمَّر أمامه تمثال أو خفاش رافعًا يده باتجاه الشريحة المعروضة، إلى أن تُلتقط الصور من الزاوية المطلوبة ويصل الهدف غايته، وتنتهي مهمة الجمهور ككومبارس على الكراسي، لا متلقّين للمعرفة، لتعود أدراجك مدركًا خطورة عنوان عريض لا يحمل سوى الفكرة العامة لمحتوى الزيف المتفشي في الأفراد والمؤسسات.
هناك عوامل كثيرة من وجهة نظري ساهمت في هذا الأمر، أهمها عاملان: يتمثل الأول في الإقبال المتزايد على التدريب في مختلف المجالات، وهذا أمر محبّذ شرط أن يسبق التخطيط له وضع العنوان، أما الثاني فيتمثل في "الإجادة"، فقد أصبحت الإجادة ثقيلة على عاتق كل موظف، حتى على الطبيب والمعلم اللذين يُفترض أن يُستثنيا منها، لأنها تركز على الشكل دون التأكد من التطبيق الحقيقي وتحقيق الأثر أو الفائدة.
ولأن الموظف يخضع للتقييم بالمعايير التي تفرضها "إجادة"، يجد بعض الموظفين أنفسهم رهن هذا الزيف، مُجبرين لضمان الاستمرار وإن كان بطرق ملوية، بينما البعض الآخر يقدم بصدق، ولكن تجده متذمرًا شاعرا بالظلم، لأن نظام "إجادة" وفق معاييره يستثنيه من التعزيز والمكافآت، بالرغم من أنه أجاد بشكل فعلي؛ فينعكس ذلك على مستوى الأداء لديه، فهل حقق هذا النظام أهدافه إن كان واقع الإعداد له بهذه الحقيقة؟
كثيرًا ما لفتتنا عناوين الكتب واشترينا كتابًا من أجل عنوانه، لكنّنا لم نندم، فالكتاب أمره مختلف، إن لم يُعجبنا نتخطاه بعد قراءة بضع صفحات ونكسب الوقت، بينما مثل هذه الفعاليات التي تشعر وكأنك طرفٌ فيها تُسيئ للذات وللوقت معًا؛ فالمدرّب يجب ألاّ يتجاوز عنوانه مستوى الأهداف لورقة العمل أو الورشة التي يقدمها، وإلاّ وضع نفسه في مأزق قد لا يدركه هو، إنما يدركه المتوق للمعرفة أمامه، وبالتالي تُحبط آماله التي يتوقع أن يخرج بها؛ مكتشفًا خفة البراعة التسويقية الزائفة في عنونة المعارف، التي تفوق التخطيط للتنفيذ، ولا تدع مجالًا لتحقيق نتائج أو بقاء أثر.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: التی ی
إقرأ أيضاً: