الإنسان بين الذكاء الكلي والوحشية البدائية
تاريخ النشر: 9th, August 2025 GMT
يهرول العالم اليوم نحو عتبة غير مسبوقة في تاريخ المعرفة؛ عتبة يسمّيها علماء الحوسبة «الذكاء الاصطناعي العام» وهي اللحظة التي ستتجاوز فيها الآلة قدرات الإنسان في التفكير والتحليل وصنع القرار. ويعد العلماء في المختبرات، وفي مراكز الأبحاث الكبرى، لزمن مختلف تماما عن هذه اللحظة التي نعيشها ونعتقد أننا بلغنا فيها ذروة المعرفة حيث تدار الاقتصادات والطب والتعليم وحتى الإبداع الفني، بذكاء لا ينام ولا يخطئ وفق ما نقرأ ونسمع من علماء المستقبليات التقنية.
لكن، في هذه اللحظة نفسها، وعلى الكوكب ذاته، ما زالت هناك أيادٍ تُمسك بالسيف نفسه وبالفكر نفسه الذي كان يدفع مقاتلي القرون الوسطى للقتل والإبادة وكأن التاريخ لم يتحرك قيد أنملة وكأنما الفكر لم يتطور أبدا.
وتكشف الأسماء التي تمنح لهذه المجازر أكثر بكثير مما تخفي، وإلا ماذا يمكن أن نفهم من تسمية نتنياهو عملية اجتياح غزة باسم «عربات جدعون»، أو يصف قتاله بأنه ضد «العماليق».. لا يكتفي هذا الفعل باستدعاء رموز الحرب «المقدسة» في النصوص القديمة، بل يضفي عليها طابع الوحشية والانتقام التاريخي، وكأن الزمن دائرة مغلقة تعيد إنتاج أحقادها عبر القرون.
يظهر هذا الأمر التناقض العميق الذي يعيشه القرن الحادي والعشرين: على طرف، مشروع إنساني يسعى إلى محاكاة الذكاء، وتحويله إلى منظومة كونية قادرة على حلّ أعقد المعضلات، وعلى الطرف الآخر، مشروع مضاد، يسعى إلى تكريس الغريزة الأولى، تلك التي كانت تدفع الإنسان الأول لقتل غريمه كي يستحوذ على كهفه أو طعامه.
لن يستطيع الذكاء الاصطناعي العام المنتظر أن يلغي هذا التناقض بشكل تلقائي، مع الأسف الشديد، فالآلة - مهما بلغت من دقة الحساب وقدرة التعلم - تبقى مرآة لصانعها، تتغذى على قيمه وخطابه ومخزون ذاكرته، وما لم يتغير «المحتوى الإنساني» نفسه، ستظل التكنولوجيا مجرد أداة تعيد إنتاج تناقضاتنا بأشكال أكثر كفاءة وأوسع نطاقًا.
المعضلة إذن ليست في سؤال هل ستتفوق الآلة على الإنسان؟ بل في سؤال آخر يبدو أكثر إلحاحًا: أيّ إنسان ستتفوق عليه؟ الإنسان الذي يزرع ويبتكر ويؤسس للمعرفة، أم الإنسان الذي يقتل ويبرّر قتله بنص قديم أو أسطورة؟
وإذا كانت إسرائيل التي تدعي أنها واحة ديمقراطية وقلعة التكنولوجيا في الشرق الأوسط واقعة في قلب هذه التناقضات وما يصاحبها من هرطقة فكرية، فإن العالم العربي المتضرر من هذا المشهد بكل معاناته مدعوّ أكثر من غيره إلى قراءة المشهد بعين مزدوجة: عين ترى في الذكاء الاصطناعي فرصة لإعادة بناء القوة العلمية والمعرفية، وعين أخرى لا تغفل عن أن التاريخ - بكل وحشيته ورموزه القديمة - ما زال يتحرك على مقربة من بيوتنا وذاكرتنا.. ما يعني أننا لسنا مجرد متفرجين على صراع بين عقل إلكتروني وسيف صدئ، بل طرف أصيل في معركة تحديد المفهوم: هل يتقدم الإنسان بذكائه، أم يعود بذاكرته إلى كهوف الماضي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل يستطيع نيمار فرض نفسه على البرازيل في «المونديال الأخير»؟
معتز الشامي (أبوظبي)
أخبار ذات صلة
في كرة القدم البرازيلية، هناك قناعة راسخة بأن الأوقات السيئة قد تكون أحياناً بشير خير، والتاريخ يقول إن منتخب «السامبا» كثيراً ما استدعى المجد من قلب الفوضى، لا من رحم الاستقرار وحده.
وتعد شواهد ذلك كثيرة، ففي 1970 أُقيل المدرب جواو سالدانيا قبل البطولة، وفي 1994 احتاجت البرازيل إلى أهداف متأخرة لتنتزع بطاقة التأهل، أما في 2002 دخلت المونديال بعد دورة تصفيات مضطربة انتهت بتتويج أسطوري في كوريا واليابان.
واليوم، تعود المقارنات من جديد، البرازيل عاشت دورة تصفيات مرتبكة، تغيّر فيها المدربون وتكررت الخيبات، تماماً كما حدث قبل مونديال 2002، لكن العنصر الإنساني هو ما يعيد إشعال الحكاية.
وبعد رحيل طويل عن المشهد، عاد نيمار إلى البرازيل عبر بوابة سانتوس، مسجلاً 11 هدفاً وصانعاً 4 أخرى في موسم 2025، لكنه غاب عن 17 مباراة بسبب الإصابات، وسيبلغ الرابعة والثلاثين قريباً، وهذه الأرقام لا تبعث على الاطمئنان، ولا تُقارن بما قدمه روماريو قبل مونديال 2002، لكنها لا تلغي لحظات اللمعان القليلة التي ذكّرت الجميع بمن يكون.
وفي الأسابيع الأخيرة من الدوري البرازيلي، أنقذ نيمار سانتوس من الهبوط تقريباً بمفرده، رغم معاناته من إصابة في الغضروف، لكن الصورة لم تكن مكتملة، الإصابات المتكررة، التراجع البدني، والانفعالات الزائدة أثارت جدلاً واسعاً حول صلاحيته نموذجاً قيادياً.
ورأى مدربون سابقون للسيليساو أن البرازيل تجاوزته، بينما لا يزال آخرون، مثل روماريو ورونالدو، مقتنعين بأن البرازيل لا تملك لاعباً مثله من حيث الحسم والنجومية والخيال.
ويملك كارلو أنشيلوتي، المدير الفني الحالي، وفرة هجومية كبيرة، لكنه يُبقي الباب موارباً عبر جملته الشهيرة التي قالها سابقاً: «لا مكان إلا للأفضل والأجهز، لا وعود، ولا ديون».
وهكذا تبقى القصة معلّقة، الباب لم يُغلق، لكنه لن يُفتح بالعاطفة، نيمار وحده من يستطيع فتحه، إن استطاع جسده أن يمنحه فرصة أخيرة، ستة أشهر مقبلة كفيلة بالإجابة عن سؤال واحد: هل يكتب نيمار الفصل الأخير..أم يكتفي بالهامش؟