د. نزار قبيلات يكتب: المراوغة بالكتابة
تاريخ النشر: 11th, August 2025 GMT
عددٌ لا بأس به من الكتّاب يعتقد أن الكتابة جاءت في سبيل الفهم والتبصّر في الآخر وفي الذّات قبلاً، وللحصر أيضاً قيل، إن الكتابة محاولة للتقرّب من التاريخ بغية استيعاب ما حصل، حيث الكتابة محاولة لإقامة علاقات وتجديدها مع ما مَضى أو مع ما يقع عملياً، أو ربما قد يقع ويحدث لاحقاً، لكنها حتماً ليست بهذه البساطة، فالكتابة الأدبية جدلية قائمة بين الخفاء والتجلي، بل مراوغة بين يمكن ولا يمكن، إنها حالة من تَوجس يريد الأديب بها أن ينعتق من شيء ما يحاصره، لذلك لا تأتي كل الخطابات الأدبية مباشرة وصريحة، لكنها في آن قد تُكاشف الآخرين، وقد تكتفي في بعض الأحيان بإبلاغهم، حتى قيل، إن الكتابة الشعرية تلك تتعمد إحداث التباس ما مقصود تُغلّف فيه طلبها الصريح أو قصدها غير المعلن، فهذا مجال الدرس البلاغي العتيد الذي حفر فيه البلاغيون العرب عميقاً حين أسسوا لنظريات بلاغية عمادها ثنائية اللفظ والمعنى، من حيث التطابق والتقابل والتباين فيما بينهما، وهنا تصبح الكتابة، وفق زعم الناقد البنيوي الشهير «رولان بارت»، جهاز يعمل من أجل المعنى وتفسيره، فالكتابة وفي التصوّر البنيوي هذا ترتيب للفوضى التي يراها أصحابها غير مُنَظمة، فقد أجاب الكثير من الأدباء عن سؤال جدوى الكتابة بأنهم كانوا يكتبون لكي يتخلصوا مما يزعجهم أو أنهم يكتبون من أجل أن يتحسسوا محيطهم قبل أن يصدقوه.
هنا نتوقف عند فهم مفاده أن الكتابة قد تكون إجابة قهرية، فهل الكتابة إجابة وافية أم جزء منها؟ هنا أطرح مجدداً تصور البنيويين حول الكتابة بأنها إلغاء ومسح وتعديل، إذ هي محاولة لتفسير الآخر كل الآخر، هذا الآخر هو المعنى ذاته، فلا معنى دون كتابة لغوية تجترحه أو تتقرّب منه وفي النهاية تصطاده، كل هذه التصورات حول جدوى الكتابة يمكن أن نسميها بالمراوغة، ذلك لأن الألفاظ لا تنطفئ ما دام هناك معنى خالد وقيم إنسانية عليا تعطي لوجود الإنسان المعنى والعنوان، فكلما كتب الإنسان تجلّى المعنى بفضل الوعي الذي تحدثه تلك المراوغة بين حقول المعرفة الإنسانية التي تولّد بدورها معاني أخرى، حيث المعنى ليس فقط في الأدب والفن، بل في لذة الإجابة الفلسفية وفي لحظة النتيجة في علم الرياضيات، وفي اختراع الدواء، وفي تحقيق الصحة والجمال والسرور، فالمعنى هو كل ذلك، الذي لا يمكن المسير إليه بطريق مستقيمة، بل بمراوغة ومهارة ووعي فائق.
* أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: نزار قبيلات الكتابة التاريخ القراءة
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: الفتوى والعقل في عصر الرقمنة
في لحظة حضارية مشتبكة بين طغيان التقنية وارتباك الخطاب، جاءت مبادرة دار الإفتاء المصرية لتنظيم المؤتمر الدولي العاشر للامانة العامة لدور و هيئات الافتاء في العالم بمثابة إعلان معرفي رصين عن انخراط المؤسسة الدينية الرسمية في واحد من أعمق النقاشات الإنسانية: سؤال الفتوى في زمن الذكاء الاصطناعي.
فالذي يُطل على واقع الإفتاء من أعالي التحولات الرقمية، يدرك حجم التحدي: كيف نُبقي على روح الاجتهاد حيّة، وسط تقنيات تَعد بالاستغناء عن الإنسان ذاته؟ وكيف نحافظ على جوهر الفتوى، لا كمنتَج يُصدر، بل كحُكم يتخلق في رحم العقل الشرعي الرشيد، في زمن تُستبدل فيه السلطة المعرفية بمنصات وتطبيقات وخوارزميات؟
في هذا السياق، لم يكن انعقاد المؤتمر العاشر محض تكرار سنوي لفعالية مؤسسية، بل يمكن اعتباره لحظة انبثاق واعٍ لمفهوم جديد في التفكير الديني، تسعى فيه دار الإفتاء إلى إعادة تشكيل صورة المفتي لا بوصفه ناقلًا للحكم، بل بانيًا لقراره داخل بنية مركبة من المقاصد، والسياقات، وحكمة التنزيل. فالمبادرة لم تُركّز على أدوات الذكاء الاصطناعي بوصفها تهديدًا، بل كأفق وجب على المفتين الاقتراب منه، لا للتماهي معه، بل لترشيده، ومساءلته، بل وإعادة ضبط تمثلاته داخل منظومة الفعل الشرعي.
وفي قلب هذا الطموح، تبرز شخصية فضيلة المفتي الأستاذ الدكتور نظير محمد عياد، لا بوصفه موظفًا على رأس مؤسسة فقهية كبرى، بل كعقل فقهي متمرّس يُدرك بوعي رفيع أن الاجتهاد المعاصر لا يمكن أن يبقى أسيرَ معجمٍ قديم، ولا أن يتخلى عن أخلاقياته أمام خوارزميات الحداثة السائلة. فالرجل – في خطاباته العلمية ومداخلاته الرفيعة – يُعيد الاعتبار لفكرة “العقل الإفتائي”، لا كتمرين بلاغي، بل كوظيفة حضارية تحرّر المفتي من أسر الحرفية وتضعه في مدارات الفهم الكلي، المتصل بمقاصد الشريعة، لا المفصول عنها بجمود اللفظ أو فوضى الذوق. ومن يمعن النظر في طريقة بناءه لمفهوم “المفتي الرشيد”، يدرك أنه لا يسعى لتدريب المفتي على التقنية كمهارة، بل لتجذيره في وعي توازنيّ يميّز بين ما تُنتجه الآلة من أجوبة صورية، وبين ما تستوجبه الفتوى من استبطان مقاصدي للواقع وتقدير سديد للحُكم بمناطه الكامل.
كان بإمكان دار الإفتاء أن تظل واقفة على تخوم النقاش، مترددة بين الإدانة أو الترقب، لكنها قررت أن تُعلن انخراطها في عمق التحول، ولكن لا بصفتها تابعا مبهورًا، بل مرشدًا متبصّرًا. إنها ليست تُنتج فتوى رقمية، بل تُهذّب العقل الذي يصوغها، ولا تهدف إلى “رقمنة” المفتي، بل إلى عقلنة الفتوى في زمن الرقمنة. وهذا فارق جوهري.
ولعل هذا ما يجعل من هذه المبادرة نموذجًا لما يمكن تسميته بـ”فقه التدبير المعرفي”، حيث لا يُكتفى بالمحافظة على تراث الفتوى، بل يُعاد بناؤه من داخل الأسئلة التي يفرضها العصر. فالتحول الرقمي، في قراءة هذا المؤتمر، لا يُراد له أن يبتلع المجال الديني، بل أن يُستوعَب داخل مشروع إصلاحي أشمل يُعيد للفتوى بُعدها التأصيلي لا التنميطي، ويُعلي من دور المفتي لا كخازن للأقوال، بل كمُهندس للمآلات. وهنا تتجلّى عبقرية المؤتمر، لا في محاورة التقنية بوصفها خطرًا، بل في التعامل معها بوصفها حافزًا لتجديد منطق الإفتاء نفسه، ومساءلة بنيته ومفاهيمه وأدواته.
من هنا، فإن السؤال الذي طرحه المؤتمر لم يكن سؤالًا تقنيًا، بل سؤالًا أنطولوجيًا: ما معنى أن تُفتي في زمن تتقاطع فيه حدود الإنسان مع الذكاء الاصطناعي؟ وهل ما زال للمفتي أن يُنصت لنداء التكليف الأخلاقي، في زمن تتكاثر فيه المنصات وتتشظى فيه الأجوبة؟ بهذا المعنى، لا يُعد المؤتمر مجرد مناسبة معرفية، بل هو إعلان ميلاد جديد لنموذج المفتي الذي لا يتهيب العصر، بل يشتبك معه، حاملًا في قلبه أدوات التمييز، وموازين المقاصد، وضمير الفتوى الحي.
إنها مصر، إذًا، التي أرادت أن تقول للعالم الإسلامي: لسنا متفرجين على الثورة الرقمية، بل فاعلون فيها، نصوغ فيها صورة المفتي لا كظل لماضيه، ولا كصوت لتقنيته، بل كمَلَكَة عقلانية تربط الحكم بمناطه، والواقع بمقاصده، والفتوى بمستقبلها. وهل هذا إلا جوهر الفقه حين يكون وعيًا لا تكرارًا، وقيادة لا استتباعًا؟